في ذكرى رحيل دكتور كونيجوك: د. (وولتر) هل تذكرني ؟ (1) … بقلم: عبد الله الشقليني

 


 

 

abdallashiglini@hotmail.com

 

 

      لا تنظر خلفك بغضب ....

بين الاسم (الكريستياني) و اسم القبيلة المحلي نزاع قارّتين ، استقر علي نفسٍ واحدة ، هو أنت "وولتر" .

(1)

        جمعتنا معاً غرفة سكنٍ طلابي واحدة، أيام ما كان يسمي ببحبوحة الدراسة الجامعية، سلسلة من الخدمات المجانية ، بسطة وسِعة في الرزق ، وفي كل شئ . نحن الاستثناء الوحيد في هذه المعمورة .…الماضي عندنا هو الأفضل !

(2) 

  الزمان:خريف (  1970 )

      بعد أشهر من ( معركة الجزيرة أبا ) المشهورة ، وبعد أكثر من عام على ولادة ( مايو69 ) :-

إخوة السلاح علي الطاولة . كأس السُلطة الأول. لَسعة في اللسان.  لَسعتان… المذاق حامض، ثم أخذت الجميع سكرة السلطان ، جبروته وحلاوته.  دمه الأحمر القاني و راياته البيضاء .  ملمس حر يره الناعم يغري ،و أشواكه تَقتل..

إن أفسحت بينك و بين ما يجري في ذلك الزمان ، مسافة تكفي للهرب، و جعَلت أمامك حاجزاً زجاجياً سميكاً ، بل مصفحاً ..يسمح بالمشاهدة و يحمي من الراجمات ، لكنت قد جنبت نفسك ما تكره…أيمكن لنعالك أن تطأ الأرض الرّخوة و لا تترك أثر ؟  تصطرع المبادئ كيفما اتفق، إلا أن لغة الحوار تفصل بين بعضها البعض .…بضع قرون. الحديث الهادي ،و من ثم لغة العصِي.

(3)

المكان: جامعة الخرطوم ، مجّمع داخليات ( البركس )

داخلية (كردفان ) : المبني من طابقين. صف من الغرُف يميناً و يساراً ،و في المؤخرة حزمة من دورات المياه و المغاسل.. خُصصت حينها لطلاب السنة الأولي الجدد ، من البنين ..

      الغرفة التي أسلفنا ذكرها في الطابق الأول . قليلة الرفاه بمقاييس تلك الأيام. أياً كان نصيبك ، إن صعدت الدرج للسكن ، فقد كُتبت عليك بعض المشقة........ زحام..ضجيج ، و ندرة مياه .  السباق يبدأ منذ الفجر لتستمتع بحمام الصباح ،و إنها لمتعة : … تفرد الماء غزيراً علي جسدك .  لا يهمك من يأتي بعدك .  لم نكن نعرف حصتنا من الماء ، لا ادخار و لا تقسيط .  هيكلة المخزون و تقسيمه علي الأنفس ،كان بعيداً كل البعد..

      نحن أشباه رعاة ، لا نقيم للضبط وزناً .. لدينا الأرض مد الأفق .. نيلنا الأطول ، يتلوى من باطن إفريقيا إلى الأبيض المتوسط.

(4)

  تفتح باب الغرفة .  خزانات الملابس الضيقة ، ثم تعبر خطوتين و تنتصف لديك الغرفة .علي يسارك  ( دبُل دكر ) : أنا في المرقد العلوي و ( سايمون ) في المرقد الأسفل .علي يمينك ( دبُل دكر ) آخر ، ( وولتر ) في الأسفل و (حسن بدري) في الأعلى : الرفِعة لمكان النوم وليست لصاحبه .. من يسكن أولاً يختار الأسفل .  الكُل يتسابق إلي أسفل سافلين ..

    الغرفة حافلة بالغنى و التنوع البيئي و الاجتماعي و اللُغوي و التشكيلي. اثنان من وسط السودان  : أنا و ( حسن بدري ) ...هندسة العمارة وكلية العلوم .

الآخران من الجنوب... كلية الاقتصاد :   ثراء هو يا تُرى أم لعنة تاريخية !…

    اللغة الإنجليزية كانت على ( صفيحٍ ساخن ) . اختلطت لَكنة أواسط السودان بجنوبه .. إن كنت من ( ويلز ) أو ( كورن وول ) فستشهد ترفيهاً مجانياً لبعض الوقت  . لن تبتئس ، فاللغة وما عليها من أتراح أفضل نسبياً ، رغم خلوها من الزينة الطبيعية والترتيب و البهرج .  إنها اللغة السائدة في الغرفة ، الخروج عليها يدخلك في دائرة الشك و الريبة :  فضل الجميع حسم الأمر لصالح اللُغة الهجين ،وتمكنت هي أن تحيا مع كثير من الشدة والعنت ..

(5)

أفتح عينيَ بعد غفوة قصيرة منذ حمام الصباح الباكر .. ( وولتر ) يلف ربطة العُنق  علي قميص أزرقٍ سماوي ..  الجاكيت صوف إنجليزي ( كاروهات ) .  الجسد فارع الطول وممتلئ :  فصّل ( وولتر ) نفسه على الجاكيت ..( البرافان ) مميّز ،كذلك ( سايمون )  ذات الهندمة و التفاصيل .. ( إنجليز من أصلٍ نِيلي ) كما يردد أحد الأصدقاء.. أنا و ( حسن بدري ) نرتدي كما يقال في العاميُة  (أي كلام) ..

 (حسن بدري )  كان نجم الغرفة بلا منازع :  اجتماعي النزعة .. فضولي ، و علي طريقته الفكهة يترجم من و إلى العربية الدارجة .. نظرات الشك تحوم حوله ، يغمغم بصوتٍ مسموع ، حتى تتقاطع خطوط التماس الخطر ..

 ـ ( حسن ) أنت تسخر منا ..

 ـ  لا يا ( وولتر ) إنت قلت مَرَة تقصُد ( وَنص )  ، و هي تعني عندنا               ( ووُمان )..!

 ـ أنت تكذب..

       أتدخل مدّعياً الحَيدَة :

  ـ غرائب النطق تدخلنا في الفكاهة...

 ـ الفكاهة عندكم انتم فقط ( هُواي؟ )

(6)

       عندما تستطيل نافذة التفصيل تبدأ الأزمة .  اخترت لنفسي الردود المقتضبة ، و حصدت آخر المطاف أنني شاب طيب كما يقول ( وولتر ) ، أما حسن فهو مخادع ، لا يترك سانحةً إلاّ و يتهّكم علينا نحن أبناء الجنوب .. هوَ … ( تيبكال شمالي ) .  تلك هي الخُلاصة

     ذات مساء دبّ نشاط في الغُرفة اكتمل طاقمها :

ـ  ( وولتر )  و ( سايمون ) كانا معي في رحلة استكشاف لمعالم العاصمة ، هكذا تحدث ( حسن بدري ) ،ثم  فَصلَ  و أسهب :……….

ـ  هنا رئاسة البريد ، حيث تتم فلتره الرسائل ، إن كان لأحدكما من تُراسله ، فإن رسائلها تعبر هذا النظام الدقيق ، من المركز إلى الأفرع ، قبل الاستمتاع أخيراً بالقراءة ... هذا هو بنك السودان ،مستودع المال….مع مبني وزارة المالية هنالك يتحكمان في الجباية و الصرف .. من تضيق به الحاجة ، فالطريق يصل من البوابة الرئيسة للداخليات عبر شارع الجامعة إلي مركز المال  ، تقضي حاجته..

ـ  هذا هو القصر الجمهوري يا ( وولتر ) .. ربما بعد زمان تأتي هنا لتؤدي القَسم أمام الرئاسة !)…ثم يضحك ..

      ( حسن بدري ) كدليل سياحي لا يجد استحسانا من ( وولتر ) .          ( سايمون ) هادئ الطباع .. تقبل اللسعات  و السخرية التي تخللت الرحلة ، علي أنها جزء من ثمن المعرفة .

(7)

       ( وولتر ) و ( سايمون ) قضيا عدة سنوات في جامعة ( ماكرري ) بكمبالا ، قبل التحاقهما بجامعة الخرطوم في  أولي اقتصاد .. كان القبول للجامعة عزيزاً تلك الأيام .

(8)

    نوم القيلّولة ، بعد وجبة الغداء ، هو كالسباحة في مسبحٍ ضحل .. هو للصّحو اقرب. يتميّز لدينا بتنوع بيئي واجتماعيٍ فريد : أنا و(حسن بدري ) ننام بجلباب أواسط السودان الأبيض ، يُغطي كل الجسد إلا القليل ، أما          ( وولتر) و ( سايمون ) : (مايوه) أسود لكل منهما ... الضروري قبل الانفلات  الكامل .. اختلاف العادات وتنوع البيئة تلك قَطَعت الأرجل ( الشمالية )  عن زيارتنا داخل الغُرفة .

  ـ هؤلاء عراة..

  ـ لا أبداً..

  ـ أحلف ؟

  ـ ما تَحلف ساكِت..

  ـ تزورنا أنت في غرفنا أي وقت تشاء ، أما نحنُ بصراحة ...لن َنزورك .

 

عبد الله الشقليني

 

آراء