في ذكرى 16 نوفمبر 1970 و 17 نوفمبر 1958

 


 

 

يبدو أن التاريخ المعاصر قد صار يعُجّ بالغرائب . فتاريخ المظاهرة التي تسببت في إنزار جيش مصر للرئيس المخلوع " دكتور مرسي " هو يوم 30 يونيو ، ويوم انقلاب الإنقاذ يوم 30 يونيو !. وسدنة التاريخ وحملة ملفاته التي تفتح أبواب الفتنة وحدهم أصدق إنباء من غيرهم. الحقائق التاريخية تواجه المكائد السياسية التي يختلقها أصحاب المصالح السياسية ، لدرجة أنهم يقولون : لا يخرج التاريخ من عباءة السياسة . وفي العبارة قدرٌ كبير من الضبابية ، تستدعي أن يقوم القائمون على توثيق التاريخ من العلماء ، بفض هذا الاشتباك ، والرجوع لفضيلة معرفة التاريخ العاري من ملابس الحيف السياسي ومكره ، والخالي من عواطف المُحبين والكارهين ، الذين يستخدمون التاريخ في تجميل تاريخهم و الآخرين.
يقول المثل الاجتماعي السوداني :
( الشينة مَنكُورة ) !
(2)
16 نوفمبر 1970 :
وقف رئيس إنقلاب " 25 مايو" يلقي خطاباً في استاد الخرطوم مساء اليوم 16 نوفمبر ، وأعلن فيه فصل الآتية أسمائهم من مجلس إنقلاب مايو وإحالتهم إلى التقاعُد من القوات المسلحة السودانية :المقدم" بابكر النور سوار الدهب "، والرائد" فاروق عثمان حمد الله" ، والرائد "هاشم محمد العطا "، بدعوى أنهم شيوعيون وينقلون أسرار ( 25 مايو ) للحزب الشيوعي ...الخ.
وكان لهذا القرار ما بعده . إذ لم يتمكن مُدبر انقلاب ( 19 يوليو 1971) : الرائد" هاشم محمد العطا" أن يقرأ خطاب انقلابه إلا مُتأخراً . ذكر فيه أن النظام آنذاك يرغب في تحويل النظام إلى رئاسة جمهورية ، ومن ثمة حُكم دكتاتوري . وفشل الإنقلاب .وصدق المثل المعروف " حركة الإنقلاب الفاشلة تُقوي النظام الحاكم " .
وفي 12 أكتوبر 1971 ، أي بعد حوالي الثلاثة أشهر ، أعلن في تلفزيون السودان رئيس الوزراء آنذاك : السيد " بابكر عوض الله" ، نتائج الإستفتاء على رئاسة الجمهورية وفوز رئيس " 25 مايو" !. واستغرب لاحقاً " الرائد زين العابدين محمد أحمد عبد القادر " لاحقاً في مُذكراته أنه صار في سنواتٍ مُتأخرات يدخل على رئيس الجمهورية بوساطة سكرتيره ، ودون أن يُؤذن له أحياناً بالمقابلة !.
وهو ذات الذي تنبأ به الرائد هاشم محمد العطا في خطاب يوم 19 يوليو 1971 !!.
تلك حقائق حاولنا أن نُخرج الحدث التاريخي من ذاتية الرؤى الشخصية إلى وصفٍ يحاول أن يكون مُحايداً.
أليس غريباً أن يتحدث كل الناس عن حُكم الشيوعيين الذي دام ثلاثة أيام ؟! ، ويتركوا حُكم الثلاثة أيام التي حكم فيها السودان المتدربين في ليبيا من حلف الجبهة الوطنية ( الأمة والإتحاديين الديمقراطيين والإخوان المسلمين )، وذلك بقيادة الضابط العظيم حينها " محمد نور سعد " الذي نفذ انقلابه في 2 سبتمبر 1976 ، وفشل !!.
(3)
انقلاب 17 نوفمبر 1958 (أ) :
يبدو أننا في حاجة إلى الحفر العميق في تاريخنا ، فأمة لا تعرف تاريخها الحقيقي لن تتقدم . ومكر السياسيون الذين يرغبون السُلطة أكبر من استدراك العامة لما يُحاك حولهم من أجل السُلطة . نستأذن اللواء الركن (م) " محمود عبد الرحمن الفكي " ، نائب رئيس هيئة الأركان ( 1974 -1977) ، في نقل بعض الوقائع التي وردت في توثيقه في السِفر الذي أصدره بعنوان ( القوات المسلحة في تاريخ السودان الحديث – 1935 – 1975 ) . لاندعي كمال الوثيقة ، ولكنها تستوجب النظر الفاحص من المدقّقين والمختصين في علم التاريخ . نستدعيهم للفحص والتأمل في نصوص هذه الوثيقة . ونشكر سعادة العميد الركن (م) السر أحمد سعيد ، أن مدنا من كنوز وثائقه بهذا السِفر الهام ، الأمر الذي له ما بعده . ونحن نمُر على ذكرى 17 نوفمبر 1958 ، مرور اليوم العادي في حياة السودانيين بفعل فاعل . لأن الصامتين ليست لهم القدرة على مصارعة الإعلام في ظل سيادته ، وقبضة القائمين على الأمر الحديدية على خواصره كلها للرقص ! .
لم نستدع هذا الموضوع خدمة لأحد ، ولا توقيته له من دلالة تواطؤ سياسي ، لتغليب جماعة ضد أخرى ، ولا رفعة للحاكمين الذين تم تدمير الوطن بأيديهم ، ولكنها الذكرى ، ومحاولة استنهاض حس التوثيق التاريخي ، ولا يسعنا إلا أن نمُد الشكر أجزله لأساطين العلم التاريخي ، ومنهم الدكتور" صلاح عبد الرحمن علي طه" وأخته البروفيسور" فدوى عبد الرحمن علي طه " ، الذان يعملان بصمتٍ على التوثيق والتأريخ ، في محاولة مُستميتة لفض الاشتباك بين حقائق التاريخ وما يُشيعه السياسيون من تصوراتهم للتأريخ . يحاول السياسيون بمكرهم أن يجعلوا روايتهم للتاريخ هي ساطعة في الإعلام المملوك للدولة ، حتى يظن أغلب العامّة أنها الحقائق الصمدية ، ولكن هيهات .
(4)
انقلاب 17 نوفمبر 1958 (ب) :
نعود لسِفر اللواء الركن (م) محمود عبد الرحمن الفكي ،الذي طبعته ( المطبعة العسكرية ). ونقطف النص كاملاً دون بتر ( ص 180- 182 ):
{ يوم 9/2/1965 م فتح النائب العام بلاغاً تحت قانون التحقيق الجنائي ضد أعضاء المجلس الأعلى السابق وهم : ـ
إبراهيم عبود
محمد طلعت فريد
حسن بشير نصر
أحمد رضا فريد
محمد أحمد عروة
أحمد مجذوب البحاري
المقبول الأمين الحاج
كان البلاغ يوجه الإتهام للمذكورين أعلاه تحت المواد 96 ، 97 ، 98 من قانون عقوبات السودان ، وقد أحال السيد رئيس القضاء البلاغ المذكور لنا للتحري لنا للتحري فيه بموجب المادة 114 من قانون التحقيق الجنائي .
بدأت اللجنة عملها في يوم 13/2/1965 م وأخذت أقوال الشهود ، واستجوبت المتهمين وكل هذه الأقوال مدونة في يومية التحري . ونخلُص من هذه الأقوال إلى ما يلي ذكره : ـ
قبل 17/11/1958 بمدة لا تزيد عن الشهرين ولا تقل عن عشرة أيام دعا المرحوم السيد الصديق المهدي في منزله الفريق السابق " إبراهيم عبود " وقد الأخير كل من السادة أحمد عبد الوهاب وحسن بشير وعوض عبد الرحمن والتقوا جميعاً بمنزل السيد الصديق وبحضور السيدين عبدالله خليل وزين العابدين صالح وقد عُرض في هذا الاجتماع رأي يقترح تولي ممثل من الجيش وزارة الدفاع بسبب ظروف الآن المُساندة في ذلك الوقت ، أو تولي الجيش لزمام الحكم كاملاً ، وكان السيد الصدّيق معترضاً على الرأي الأخير ، ويؤيد الرأي القائل بتولي الجيش لوزارة الدفاع ، وقد انفضّ هذا القاء دون الوصول إلى رأي حاسم .
بعد هذا الاجتماع قام السيدان عبدالله خليل وزين العابدين صالح بعُدة اتصالات بالفريق عبود لإقناعه بضرورة تولي الجيش للحُكم وذلك إنقاذاً للبلاد من الإنهيار الإقتصادي والإضطراب السياسي والتدخُل الأجنبي ، حسب إعتقاد كل من عبد الله خليل وزين العابدين صالح .
وقبل بضعة أيام من يوم 17/11/1958 م ، إنعقد الاجتماع بدعوة من السيد إبراهيم عبود برئاسة القوات المسلحة ، لكل قادة الوحدات الموجودة في العاصمة ، وحضر الاجتماع الضباط الآتية أسماؤهم :
1. أحمد عبد الوهاب
2. حسن بشير نصر
3. محمد أحمد التجاني
4. عوض عبد الرحمن صغير
5. الخواض محمد أحمد
6. محمد نصر عثمان
7. محمد أحمد عروة
8. حسين علي كرار

وتشاور المجتمعون في موضوع استيلاء الجيش على الحُكم حسب الطلب الموجه من رئيس الوزراء ووزير الدفاع السابق " عبد الله خليل للسيد إبراهيم عبود . وقد تمّ الإجماع على ذلك الطلب ، كما نُوقش أيضاً في ذلك الاجتماع شكل الحكومة التي ستحل محل الحكومة القائمة آنذاك ، وهل تكون حكومة قومية من جميع الأحزاب أم حكومة عسكرية .
وفي يوم 16/11/2016 م أخطر السيد إبراهيم عبود والسيد أحمد عبد الوهاب السيد عبد الله خليل بأن استيلاء الجيش على الحُكم حددت له صبيحة 17/11/1958 . وتم ذلك الإخطار في مكتب السيد "عبد الله خليل "برئاسة القوات المسلحة وقد دعا لهم بالتوفيق.
وفي نفس ذلك اليوم إستقر الرأي بين الضباط المذكورين على استبعاد فكرة الحكومة القومية ، وتولي الجيش لزمام الحُكم كاملاً مع الاستعانة ببعض الوزراء الذين لا تغلب عليهم الصبغة الحزبية . ثم صدرت الأوامر الخاصة بخطة تنفيذ الإستيلاء على الحُكم . وعرض السيد إبراهيم عبود على المجتمعين الخطبة التي ألقاها في صبيحة يوم 17 /11/1958 وحل البرلمان وألغى الدستور المؤقت لسنة 1956 م.
ومن هذا العرض الموجز لأقوال المتهمين والشهود ، وفي رأينا نخلُص إلى أن توجيه الإتهام سيكون ضد الآتية أسمائهم وبجانب كل مُتهم ، نُسجل ملخصاً للأقوال والبينات التي وردت ضدهم في التحري . }
*
انتهى النص المقتطف ، ونعرف أنه لا يخضع لمقاييس وأعراف الاقتباس ، ولكن الضرورة اقتضت الإلمام بكافة البيانات لأهميتها التاريخية ، لتخضع لاحقاً لمِبضع المختصين من علماء التاريخ والتوثيق لبينوا قدر المصداقية فيما أوردنا .
(5)
في برنامج " المشهد " الذي تقدمه الصحافية المختصة " جيزيل خوري "، و بثته قناة BBC العربية مساء يوم الاثنين 5 سبتمبر 2016 :
سألت الصحافية " جيزيل خوري " السيد الصادق المهدي ، أن يصف لها مشهد والده " السيد الصديق المهدي " حين التقى والده في مطار الخرطوم ، وكان السيد الصديق المهدي قادماً من الاستشفاء خارج الدولة ، ولم يدرِ بما حدث عن وقائع إنقلاب 17 نوفمبر 1958 .
*
شاهدنا كيف تخطى السيد الصادق المهدي السؤال ، ليتحدث عن بِر الولد لوالده ، ولم يجب على السؤال ؟!.

عبد الله الشقليني
17 نوفمبر 2016


alshiglini@gmail.com

 

آراء