في ذكري الإستقلال … بقلم: بابكر عباس الأمين
30 December, 2009
abass_a2002@yahoo.com
كان ميلاد الحركة الوطنية مُنقسماً تعبيراً عن التنوع السوداني, عكس الجزائر, حيث كانت جبهة التحرير موَّحدة قبل وبعد الإستقلال. لتقرير إتحاد السودان مع مصر أو إستقلاله, نصت الإتفاقية الإنجليزية المصرية لعام 1953, علي إجراء إستفتاء شعبي لتقرير المصير. وتمَّ تكوين لجنة محايدة للإنتخابات برئاسة سوكومار سن الهندي, وعضوية بريطاني ومصري وأمريكي وأربعة سودانيين. أجريت الإنتخابات عام 1953, وكانت نتيجتها حصول الوطني الإتحادي علي أكثر من ضعف مقاعد حزب الأمة: 51 -23.
وكان نجاح عملية الانتخابات بطريقة سلمية, وبإقبال عال تعبير عن نضوج سياسي مُبكّر, في رأي مراقبين خارج السودان وداخله. نتج عن هذا الوعي نمو الشعور الوطني لدي السودانيين, مما دفعهم للمطالبة بالإستقلال. وكانت أسباب إكتساح الوطني الإتحادي للإنتخابات المخاوف مما أشيع عن إعادة المهدية في ثياب ملكية, وتنصيب السيد عبدالرحمن المهدي ملكاً علي السودان. السبب الثاني, هو الكاريزما التي تمتع بها إسماعيل الأزهري. ثالثاً, مقاطعة الإتحاديين للمؤسسات الإستعمارية, كالمجلس الإستشاري والجمعية التشريعية التي شارك فيها حزب الأمة وأصبح عبدالله خليل رئيساً لها.
وقبيل الإستقلال, أدرك البريطانيون أن الأزهري ينوي إعلان الإستقلال من داخل البرلمان. ووافقوا علي ذلك رغم أنه يناقض إتفاقية 1953, وذلك لإحراج مصر في مطلبها بأن ترث السودان. وفي جلسة 19\12\1955, أجمع البرلمان علي الإستقلال, ووُلِدت الدولة الفتية في 1\1\1956. هنالك عدة أسباب أدت إلي عدم الإتحاد مع مصر, هي الطبيعة الشمولية الحديدية لنظام عبدالناصر التي لا تناسب السودانيين, وعزله لمحمد نجيب, وجود تيار إستقلالي داخل الوطني الإتحادي قاده ميرغني حمزة, إضافة إلي ضغط حزب الأمة. ولم يكن تعاطف السودانيين مع نجيب لأن أمه سودانية فقط, بل لأنه لعب دوراً هاماً أيضاً في إتفاقية تقرير المصير. في هذه الإتفاقية, فإن نجيب, عكس النقراشي باشا, رأي أن يقرر السودانيين لمصيرهم في حرية إما إتحاد مع مصر أو إستقلال.
وكانت الحكومة الأولي التي رأسها الأزهري أول واّخر حكومة حزب أغلبية في نظام ديمقراطي. أنجزت تلك الحكومة مهام السودنة والجلاء والإستقلال بنجاح. وكان ذلك مشروع أو نواة دولة واعدة لرقعتها الجغرافية الشاسعة الحُبلي بالثروات, ولنظامها السياسي الجيّد. وكان من الممكن أن يكون لها وزناً إقليمياً نافذاً في العالمين العربي والأفريقي, لأن معظم دولهما كانت إما مستعمرة أو تابعة. بيد أن داء عدم إستقرار سياسي, بسبب فيروس تحالفات واهنة, أعاق هذا المشروع. وكانت أعراض ذلك الداء عدم وضع دستور دائم, وعدم التوصل لحل للمشكل الجنوبي. أثناء المشاورات حول الإستقلال بين الشماليين والجنوبيين, إقترح الجنوبيون, في الأول تأجيل الإستقلال لتواكب البني الإقتصادية والإدارية والسياسية الجنوبية رصيفتها الشمالية. ثم وافق حزب الأحرار الجنوبي, في مؤتمر جوبا أبريل 1955, علي الإستقلال في ظل نظام فدرالي. ووعد البرلمان في جلسة ديسمبر 1955 بالنظر في هذا المطلب, ولكن هذا الوعد لم يوف به.
وعن ذلك الفيروس, بدأ الخلاف بين الأزهري والميرغني في أغسطس 1955, عندما إقترح الأخير إجراء الإستفتاء لتقرير المصير, بينما أصر الأول علي قرار برلماني لتحقيقه. لخشية الأزهري من حشد الميرغني لنواب الختمية للإستفتاء, إتصل بنواب حزب الأمة للتنسيق حول قرار برلماني للإستقلال. أدي ذلك لتقارب ختمي – أنصاري ولتوتر العلاقة بين الختمية والأزهري, كان نتيجته إنشقاقهم في يونيو 1956, ليكوِّنوا حزب الشعب الديمقراطي. كما حدث أمر لم يكن في الحسبان هو لقاء السيدين. وفي تطور مدهش اّخر, تحالف حزبا الشعب الديمقراطي والأمة ضد الأزهري, ليكوِّنا حكومة برئاسة عبدالله خليل في يوليو 1956. مبعث الدهش هو أن السيدين تحالفا ضد الأزهري رغم العداء بين الطائفتين, بسبب بطش الإمام المهدي بالختمية, مما أدي لهجرتهم لمصر في أول ظاهرة لجوء سياسي في نظام سوداني. تسببت هذه التحالفات الواهنة في ظاهرة عدم إستقرار سياسي, وبالتالي إهمال الجنوب ووضع دستور دائم.
يعيب بعض المؤرخين علي قادة الحركة الوطنية تحالفهم مع الطائفية منذ مؤتمر الخريجين. بيد أن الطائفة كانت مؤسسة راسخة وإتحاد بين القبائل, كان من الصعوبة بمكان تجاوزها, لا سيما وأن الإستعمار قد قام بتعذية القبلية لتحييد الطبقة المثقفة. وكانت هي المؤسسة التي توفر السند الجماهيري لغرس جذور الأحزاب, وتحويل الديمقراطية إلي حركة جماهيرية بدلاً عن ممارسة صفوة, إضافة إلي دعم طبقتها من التجار والرأسمالية. صحيح أن الطائفة, فيما بعد, أصبحت هي الموجِّه للحزب وليس العكس, بيد أن هدف الاّباء المؤسسين كان هو العكس.
ومهما كانت إخفاقات الاّباء المؤسسين إلا أنهم إنتهجوا سيادة خارجية وطنية بلا شوائب, أو دوران في فلك أي من المعسكرين الشرقي أو الغربي, أو أحلاف, أو الإنتماء للكمونويلث, أو إرتباط بالحركة الماسونية, كما يحدث الاّن. وداخلياً وضعوا اللبنات لديمقراطية كفلت حقوق الانسان والحريات العامة, وعملت الدولة علي توفير الخدمات الصحية والتعليمية مجاناً ودعم السلع الإستهلاكية. كما حافظوا علي خدمة مدنية كانت مضرب الأمثال في الدقة والإنضباط. وإتسم قادة الحركة الوطنية بتواضعهم الجم, ونأيهم عن العجرفة والإزدراء لشعبهم, صفتي المُحافظين الجُدد, الذين يوزعون له الإساءات جزافا. ومثال ذلك, إستخدم نافع مؤخراً أسلوباً مُنحطاً - ينبئ عن إفلاس أيدلوجي - في حديثه عن المعارضة قائلاً أن أموالها تأتي من (الكبريهات والمريسة) وأن (المعارضة لا تقيم صلاة الجمعة), كأن صلاتها ستغفر له إدارة التعذيب في بيوت الأشباح. والنموذج الشهير الثاني, الغطريس مصطفي إسماعيل - المُصاب بعجز فكري - ولغته المعروفة بالركالكة, واصفاً قادة المعارضة ب (الثعابين المندسين).
وأكثر ما يدمي قلوبنا مقارنة عِفة صُناع الإستقلال في المال العام مع نهب الحُكام الحاليين. فبينما راعي الاّباء المؤسسون حُرمة المال العام وزهدوا فيه, فإن أركان النظام الحالي يوزعون المليارات من النقد لشراء الذمم للإنتخابات. ولم تُوجد لقادة الحركة الوطنية إستثمارات أو أرصدة سرية في سويسرا وماليزيا والباهاما, كحُكام الخرطوم الحاليين. وبينما نجد دعاة أكذوبة (المشروع الحضاري) يتطاولون في البنيان, سكن خمسة وزراء في بيوت إيجار, بينهم نصرالدين السيد, الذي عاش ومات في بيت مؤجر من الأوقاف, رغم أنه عمل وزيراً للإسكان! وكان تمويل بيت الأزهري من ثلاثة مصادر: الثُلث الأول البناء مجاناً من قِبل نسيبه الذي كان مقاولاً, الثاني, سلفية من البنك العقاري تمَّ تسديدها من معاشه, والثالث تبرع من تُجار الحزب. ولم يوجد في رصيد الأزهري سوي مبلغ لم يتجاوز المائة جنيه.
ألا رحم الله قادة الحركة الوطنية وعطّر ثراهم, وكل عام وأنتم بخير.