في رحيل الحاج عبد المجيد على التوم وإبنه رامي غرقا بمنطقة القضارف

 


 

 

 

فيكم أرى أبي وأرى أخي - كونوا مع الخالدين - وأنتم الشهداء

د. حسن حميدة - ألمانيا
لابد لنا أولا أن نترحم على رحيل شهداء الماء، الراحل الحاج عبد المجيد علي التوم وإبنه رامي، اللذان رحلاء قبل يوم الأمس عن دنيانا الفانية غرقا في سيول الأمطار، بعد محاولتهم عبور خور بمنطقة "أم شرابة" وهما في طريق العودة من مشاريعهم الزراعية بمنطقة القضارف. حمل السيل الأثنين وأبعدهما، دون أن يتمكنوا من النجاة. نسأل الله تعالى أن يتغمدهم برحمته الواسعة، وأن يجعل مثاويهم روض من رياض الجنة، لا أذن سمعت ولا عين رأت. وأن يصبر أهلهم وذويهم في رحيلهم. إنهم لشهداء، كما هو في موت الغرق، موت الحريق، موت الحطام، الموت بمرض باطني كالإستسقاء، الموت بمرض الطاعون، والموت أثناء الولادة. ولرحمته تعالى في موت الولادة، حتى ولو كان الطفل المحمول من سفاح، كما ورد في تفسير حكيم. هنا تأتي شهادة الأثنين بالغرق في السيل، محمولين على ماء ندي وطاهر إلى الديار الباقية. يا لها من شهادة من دون حمل للسلاح أو قتل للأرواح - الشهادة التي لا يؤتى بها إلا السعداء.

برحيل الأثنين يعم الحزن، الذي يترك فجوة كبيرة لا يمكن سدها بسهولة. وهذا للدور الذي لعبه الراحل في تسخير نفسه ووقته للعمل العام. وبشجاعته في مناهضة النظام الجائر. الشجاعة التي تمثلت في تصويته ضد إقالة والي الولاية السابق من دون حق. دوره الفعال في إتحاد المزارعين في المنطقة التي يزرع فيها. همومه بحقوق أخوانه وزملاءه المزارعين في التقاوي والوقود والترحيل والتسعير لما ينتجوه بدم حار، وعرق جبين متصبب. إنهم لأهل الخلاء، الذين لا يدري بحالهم إلا رب العالمين، ويحن على حالهم الطير في سماه، لما يبذلونه من جهد جهيد من أجل تأمين الغذاء لهم ولغيرهم من الناس. المزارع أينما كان هو المغزي الأول للشعوب، يتلوه الراعي. كم من مزارع، وكم من راعي ينعدم لهما الغذاء وهم في الخلاء، أو يتبقى لهم ماء الشرب مه هو غير صالح إلى أن يغادرواه صابرين بجلد.

رحيلكم الأثنين رغم الشهادة الموعودة أحزنني. رحيل محزن، يحرك االعواطف ويهز المشاعر مهما تماسكت النفس وأبت ألا تنكسر. كم أتصور أن تأتوا بعد موسم زراعي، تفرحون بحصاده الوفير، لتطعموا منه اليتامى والأرامل وطلاب العلم وتلاميذ الخلاوي وحوارين المسائد والفقراء والمساكين. وكم لهم أن يفرحوا بجوال أو جوالين من الذرة التي تأتي لهم من عندكم، محمولة على أعتابكم وأكتافكم. يفرحون بها لأنها تأتيهم من مال حلال، وتهدى لهم كزكاة بخاطر طيب من زارعيها وحاصديها - وأنتم الكرماء، أنتم الطيبين، كنتم في دياركم، والآن في ديار باقيات. إني لأرى فيكم أبي وأرى فيكم أخي، وكلاهما مزارع بسيط. يزرعون ويحصدون كما كنتم تفعلوا أنتم وفي كل عام. يتزكون مثلكم، وبنفس الطريقة، بطيبة ورضاء نفوس. وبكوني من أهل النيل الأبيض، تبعدني عنكم المسافة وطول المشوار، عن منطقة القضارف التي لام أراها. ولكن كل هذا لا يهم. عليكم أن تعرفوا في غيابكم: أنتم أهلي، دما ولحما، ويربطني بكم بلدي، وتربطني بكم حرفة أجدادي.

ولولا بعدي الأبعد عنكم وعن بلادي لظروف الزمان، لأتيت وأديت الفاتحة فيكم كما يفعل أهل بلادنا الطيبين، بكل ترابط وتراحم. لأتيت وواسيت فيكم أسركم المفجوعة فيكم عن قرب لرحيلكم المفاجيء. أنتم وبرحيلكم وغيابكم، كنتم ومازلتم أبطال بلادي، همكم الأول والأخير، وإلى آخر رمق في حياتكم، هو توفير الغذاء تحت الحر والبرد، المطر والبرق لإنسان هذه البلاد، بل لتوفير القوت لحيوانها ولطيرها - فليكن كل هذا في ميزان حسناتكم. سوف يفقدكم أهلكم في كل أسرة صغيرة كانت أم كبيرة، سوف يفقدكم زملائكم وعمالكم في المشاريع الزراعية، سوف يفقدكم أصحابكم في دخول السوق و الخروج منه سويا، سوف يفقدكم الفقراء والمساكين بعونكم ومساندتكم لهم، وسوف يفقدكم المسافرون لبيت الله الحرام إذا نادى المنادي، لآداء الحج في كل عام. نسأل الله تعالى أن يلزم أهلكم وعشيرتكم ورفاقكم وأصحابكم الصبر الجميل. أرقدوا الأثنين قريري الأعين، هنيئين بشهادتكم، ومقامكم مع الصالحين والصديقين والخالدين بإذن الله تعالى. إنا لله وإنا إليه راجعون - صدق الله العظيم.

E-Mail: hassan_humeida@yahoo.de

 

آراء