في رحيل الطيب صالح … بقلم: عبد الله الشقليني

 


 

 

abdallashiglini@hotmil.com

   كَزَرْعٍ أنتَ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ... و زهى من جماله وتلألأ .
سيدي...
   جئتَ لغيبتك الكُبرى . تعوي كائنات الكون كلها من مُر الفجيعة ، ويأتزر النائحون كما كان أهلنا في قديم الزمان يفعلون وتنطلق المناحات غِناءً مسفوحاُ بسكين الحُزن . ها هو يومك قد جاء ونحن في أمسّ الحاجة لرُكن البيت الذي يُعمّره كِبارنا بأفعالهم .
 تُرى أي النصال هي التي ترمي جراحاتنا بأسهُمها القتالة فتُكسِّر بعضها، وأي شجر يتأبى السقوط من توقٍ إلى العُلا .. هو أنتَ .
     كنتَ أنتَ سيداً من سادة الأعالي . بصوتك العميق الخفيض انطلقتَ من الثرى إلى الثُريا . جاء ميعاد رحيل الكتلة الكثيفة منكَ وحان  موعد الروح لتأتلق . هزمتَ كل أمانينا  الطيبة واخترت المشيئة وتأمرت معها كي تهرب من الكتابة ،  وأن وعود فألك الطيب لنا  ليس لإتمام الرواية التي انتظرتك َو تحلُم أن تستقطع من صحتك لنحيا  من بعد ونعيش وَجدَكَ المغسول من ملامح الأرياف  . فروحك حان ميعاد انطلاقها من سجن الجسد ، ترفرف أجنحتها المضيئة  تدور في الأفلاك وتنظرنا من البعيد .
   بكاؤنا اليوم مرٌّ بطعم الحنظل . فارقنا اليوم  راسم شخوص الصندل من عبق التُراث ومُطلِقْ بخور القص ..فراشةٌ أنت تتنازع المحبة والعذاب  وتدخل نار الأقاصيص من فرحٍ . كنتَ سيدي تُحب وتتعذب . يذوب البنان منك من وهن العاطفة العاصفة . نقرأ  فنرشُف عسلك المخلوط بإبر النحل . نشفى ونشقى وتعب لذيذ يسري في الأوردة والشرايين . ذهنكَ المفتون على الطفولة في القرية الوادعة  يَثِبُ على ظهور الأفراس في أحسن ما تكون القصص  .
   حُييت سيدي وبُوركتَ ،
   أبكانا فراقُك  أنت وأشياء أخرى تستنهضك ، و( دومة ود حامد ) تنتظر أن تثوب إلى مآلها أنثى ناضجةً كرواية مفتوحة الآفاق . ها هي الأحزان تُقعدنا عن النجوى وفارقنا وهج الأفراح ونحن نهبط من حُزنٍ إلى آخر حتى بلغنا عميقَ جرح فراقك فينا . أهي خطايانا أن نذرف الدمع كموجٍ متواتر الحركة من العاطفة المشبوبة إلى  الرحيل ؟.
     لا أعرف إلا أماً واحدة يُضاهيها فراقُكَ حُزناً كثيفاً على القلب
.أدار المولى أيقونة محبتِكَ في أنفُسنا منذ طفولتنا الباكرة وعلى الفم كرزة وفي الخاطر شجنٌ وتجمّلت دواخلنا من فسيح قصور القص  ونحن نتجول ، أو في البراري عندما ندخل من كهف أسرارٍ إلى آخر ، فنعرف آخر المطاف أن عالمك كتبته لنا وسقيته من رياحين محبتك ألفة وعشرة . كانت  دنياك بين أيدينا ولم نعرفها حتى حَببها إلينا بنانك الرشيق .
    بإذن مولاك الذي تُصافيه صباحكَ والمساء . تجلس لأورادك ، وتتسمع إيقاع "الدليب" مُشتبكاً بعذوبة أصوات مداح رسول الله .
كأنك صورة من جدِك الذي نحتتهُ عصافير الطفولة الحانية قرب الشواطئ وبيوت الطين الساكنة في الليل وتخفي معارك الحياة من تحت الأستار. تدور علينا أنخاب الطيوب التي سقيتنا من خمرها وجمَّلتَ الوجدان .
على مرقدِك أنّا تكون ، ستنام مومياء ملوكية الأثر ، متواضعة كأهلنا الطيبين . غَنّت لنا أغانينا وسعدنا ذات صباح وجلسنا عصراً للقهوة وفي المساء للأنُس.
بإذن سيدنا ومالك أنفسنا ، تندلق قُدور الجنان وتُحلق عصافيرها مع روحك السابحة في عليائها لتكُن مع منْ تُحب .
عبد الله الشقليني
17/02/2009 م


 

 

آراء