في صُحبة “مَدينتك الهُدى والنور” للشاعر محمد المكي إبراهيم … بقلم: عبد الله الشقليني

 


 

 

 

adballashiglini@hotmail.com

 

  


عَرجت "يثرِب" لسماوات العُلا وأصبحت مدينةً للمُصطفى . تَخَيرت موقع مسجدها ناقةٌ مأمورة . أفسح لها التاريخُ مكاناً عند كل موجة من بحار الدهر تضرب شواطئ النسيان ، فتألقت وتنضَّرت . فاض المسجد النبوي على نفسه وغطى كل رُقعة المدينة المنورة أيام قنديلها النبي الأكرم ، .. ألف صلاة وألف سلام عليه .


عَبَرت من هناك القصائد كالعقود على أعناق الفاتنات ، منذ "كعب بن زهير"، و"عبد الله بن رواحة "، و" ابن الفارض"، و"البصيري" و"شوقي "وسلسلة من أساطين المُحبين الشعراء حين تغشاهم النفحات الربانية فتغتسل النفوس من سلسبيل النور المحمدي . يرشفون كؤوساً من زنجبيل الجنان ، ويَستطعمون خُبز الرب .


نذكر حين كُنا نجلس في صِغرنا نستمع بانبهارٍ لأحفاد"حاج الماحي"يترنمون بمدح النبي بإيقاعات " الدليب " البهية : تسمعُ " قنديل المدينة الهاشمي " وتعقبها       " سَمح الوصوفو يا رب نَشوفو " و في الختام " القُبة التَلُوح أنوارا" ، يمتدحون شمائله ويتغزلون بمدينته و المسجد . يعبرون قُرى الشمال وصفاً واحدة تلو أخرى إذ طاف بها " المادح" الكبير مُسافراً في طريقه لأداء مناسك الحج. تُشجي المدائح آذانكَ بعواصف لغةٍ تُلامِس وجدان الخاصة والعامة .لم نكُن حينها نحلُم أن يلفظ لنا شاطئ " محمد المكي إبراهيم " لؤلئيا ينفكُ من صلادة المُحار .
ما كُنا نحلمُ أن نُحلِّق بطائرة الطفولة الورقية البريئة إلى بروق الجنان الموعودة ثم تخصف علينا لُغةً تستأنس بروحٍ لَدِنة تنام على أكتاف الكلام المَجدول لُغةً موسيقية مُبهرة .


نَعلمُ أن الشُعراء ينحتون من اللُجَين أحرُفَ نور . فمن بين ثنايا الثياب البيض و أحزِمة المآزر ، خَرجتْ اللغة العاشقة . تجولت الأمكنة ولفحتها روائح عَبقَتْ من موائد التُراث ومصابيح المحبة .


إن واحة " الأُبيِّض " ونخيل " إسماعيل الولي " أسقطت رُطباً من بعد انتظار . تجَمعت الظباء تدور من حول قباب الأضرحة راغبة ألا تُفلت من الصيد . صبَّت المحبة المتسربلة بحرير القُرون المُتصوِّف رحيقها في البُرهة عسلاً. خرجت القصيدة خُروج الفجر الصادق إلى الصباح المُشرقِ وغطتنا البشائر .


غَالَب الشاعر " محمد المكي إبراهيم " شوقاً اندلق من جرار العِشق . اضطربت الأفلاك من شعاع اللغة وعجائب مُفرداتها تتراقص على الورق المكتوب فَرِحة على ألسُن القُراء . خرجت الفتنة الشعرية من وادي عبقر ، تُجرجر هزيمة شياطينه . ففي كل عنقود يُطلُ ناهضاً ، تُزهر نبتة ملائكية الرَضاع . تنزل الأنوار السماوية على عجل تتساءل عن عاشق نبتَ من بُستان التاريخ ، أورقَ هندسةًً في الوراثة الشعرية ، زَهرها خطَّاف ألوان . روائحها من عَبق البقيع حيثُ مراقد الهناء التي لن يقوم أصحابها إلا وعليهم سندس خضر وإستبرق ، مُتكئون على أرائك الجنان الموعودة بإذن مولاهم .


ما انفصم الشعر عن وحي الإلهام ، بل اختمرت فيه تجربة حياة . ظلت في كهفها مُعتكفةً قروناً تتلو آي الذكر بموسيقاها القُرآنية حتى خرجت من لَدُن شاعرنا كاملة الجَّلال والدَّلال : ـ

 

مدينتك الهُدى والنور


مدينتك القباب


ودمعة التقوى ووجه النور


وتسبيح الملائك في ذؤابات النخيل


وفي الحصى المنثور


مدينتك الحقيقة والسلام


على السجوف حمامة


وعلى الرُبى عصفور.


مدينتك الحديقة يا رسول الله


كل حدائق الدنيا أقل وسامة وحضور


هنالك للهواء أريجه النبوي


موصولاً بأنفاس السماء وكأسها الكافور


هنالك للثرى طيبٌ


بدمع العاشقين ولؤلؤٌ منثور


هنالك للضحى حجلٌ بأسوار البقيع


وخفةٌ وحبور


هنالك للصلاة رياضها الفيحاء


والقرآن فجرياً


تضيء به لهىً وصدور


بساعات الإجابة تحفل الدنيا


وأنهار الدعاء تمور.


سلام الله يا أنحاء يثرب


يا قصيدة حبنا العصماء


سلام الله يا أبوابها


وبيتها ونخلها اللَّفـاء


سلاما يا مآذنها وفوج حمامها البكَّاء،


ويا جبل الشهادة والبقيع سلام


***

 


على أثل الحجاز وضالها


وعلى خزاماها


تهب قصيدة الصحراء .

 

إلى تلك البساتين المعرجة الجداول


والقباب الخضر،


يهفو خاطر الدنيا


وتحدى العيس في الصحراء


مدائح لم تقل لبني الزمان


ترددت عبر القرون ليثرب الخضراء


***

 


قصائد من رهافة وجدها


شقَّت جليد الصخر


واجتازت عباب الماء،


***

 


قوافل ما انقطعن عن السَّرى


صلًّتْ عليك


و أوجفت عبر القرون


إلى قصيدة حبها العصماء


***

 


ببابك يستجير الخائفون


ويجلس الفقراء.


ببابك تدخل التقوى فتوح الفاتحين


وحكمة الحكماء


وفي نَعماء عدلك ترتع الدنيا


وميزان الحساب يقام


حفاة الرأس والأقدام


ندخل في نبوتك الرحيبة


***

 


من الزمن الكئيب وناسه لذنا بنورك


ومن شح النفوس ودائها المودي


لنا بجمالك استعصام.


مدينتك الهدى والنور


وتسبيح الملائك في ذؤابات النخيل


وفي الحصى المنثور


مدينتك الحقيقة والسلام

 

 


على السجوف حمامة


وعلى الرُبى عصفور


مدينتك الحديقة اقرب الدنيا


إلى باب السماء وسقفها المعمور.


***

 


محمد المكي إبراهيم لندن 1983


من ديوان يختبئ البستان في الوردة

 


عبد الله الشقليني


05/04/2008
 

 

آراء