في فصل الوصاية الدينية عن الدولة: الاسلام بين الوصاية والمسؤولية (2/2) !!
ركن نقاش
تحدثنا في الحلقة السابقة عن الرسالة الأولى من الاسلام ووصاية النبي (صلى الله عليه وسلم) على المسلمين والمشركين والكفار، ووصاية أصحابه من بعده على المشركين والكفار، ووصاية الرجال منهم على النساء من جهة تفضيلهم عليهن وانفاقهم عليهن، ونتحدث هنا الآن عن الرسالة الثانية من الاسلام، ورفع الوصاية من على كاهل الكل؛ مسلمين ومشركين وكفار، ورفع قوامة الرجال المسلمين من على النساء المسلمات لانتفاء أسباب التفضيل؛ قوة العضل والانفاق، فالمرأة الآن خرجت وتعلمت وتفوقت على أقرانها من الرجال وأثبتت رجحان عقلها وانتفى عنها النسيان الذي وصمت به في السابق (...أن تضل احداهما فتذكر احداهما الأخرى)، وأصبحت تكسب (طبيبة ومهندسة ومعلمة وقاضية ومحامية...) وتنفق على نفسها وعلى من تعول، وأصبحت مساوية للرجل، والقاعدة الفقهية تقول "الأحكام تدور مع عللها وجوداً وعدماً"، و"الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً"..
العلم عند الأستاذ محمود محمد طه:
العلم المعرف بالألف واللام عنده هو الذي يكون في قاعدته العلم المادي التجريبي (العلمانية)، وقمته العلم الروحي التجريبي (الروحانية)): "فالدين، والعلم التجريبي، نشآ معاً، وفي وقت واحد..وهما إنما نشآ كوسيلتين متكاملتين..ونشآ نتيجة لمحاولة الإنسان أن يتلاءم مع بيئته..فكلاهما ـ العلم التجريبي، والدين ـ إنما نشآ بدافع الخوف والطمع اللذين استوليا على الإنسان الأول، وبخاصة الخوف..ذلك بأن الإنسان قد وجد نفسه في بيئته الطبيعية، محتوشاَ بالعداوات من جهاته الست، فكان، من ثم، كلتا الوسليتين ـ العلم التجريبي ، والدين ـ وسيلة الإنسان إلى تيسير حياته، وتأمينها..ولقد نشأ الدين مع نشأة أول فرد بشري، وكذلك نشأ العلم التجريبي"، "قال تعالى ، في زيف هذا العلم: (وعد الله !! لا يخلف الله وعده ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهراً من الحياة الدينا ، وهم ، عن الآخرة ، هم غافلون) .. تأمل قوله تعالى: (و لكن أكثر الناس لا يعلمون ، يعلمون ظاهراً من الحياة الدينا) تجده يثبت لهم العلم وينفي عنهم "العلم" .. هذا العلم الذي أثبته لهم هو علم الظاهر ـ هو ، كما يمكن أن تقول ، العلم المادي ، التجريبي ، الذي يوصل إلى خصائص المادة ، ولا يوصل إلى كنهها .. والعلم الذي نفاه عنهم هو علم كنه المادة ، كما هو علم خصائص المادة في آنٍ معاً ، وهذا هو العلم الذي به يقع تخطي ظواهر الأشياء إلى بواطنها ـ هذا هو "العلم" الذي تحدثنا عنه هنا كثيراً ، وقلنا عنه: إنه هو سبب الرزق .. وقلنا عنه أيضاً أنه هو علم آيات النفوس ، وفي حين أن علم الظاهر هو علم آيات الآفاق: (سنريهم آياتنا في الآفاق ، وفي أنفسهم ، حتى يتبيّن لهم أنه الحق .. أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ؟؟ " .. هذا "العلم" هو الدين ، ولا يوصل إليه إلا منهاج الإسلام ، وقرآن الإسلام .. وإنه لهو مادة "الدعوة الإسلامية الجديدة" وموضوعها .."، (محمود محمد طه - الديـن والتنمية الاجتماعية - الطبعة الأولى - ذو الحجة 1394 – ديسمبر - المقدمة1974)..
الاسلام في مستوى المسؤولية:
الآيات التي ترفع الوصاية من على كاهل الكل كثيرة، وثضع المسؤولية على الكل متعددة، منها مثالاً لا حصراً: "فذكر انما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر"، وهي في حق النبي في المقام الأول وفي حق الآخرين من بعده، "كل نفس بما كسبت رهينة"، "لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، "من يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا"، "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون"..
الآية التي هي آية في المسؤولية:
"ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستقلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيما"، الآية تشير إلى الرسالة الثانية من الاسلام، جاء هنا بالدعوة بلسان الحال "كزرع أخرج شطأه فآزره فاستقلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار" بينما جاء في مثلهم في التوراة "أشداء على الكفار" مشيراً للمدافعة بالسيف وحمل الكفار إلى الدين بالاكراه، أما المثل في الانجيل، فهو حيث الاسماح، والسلام، "سمعتم انه قيل عين بعين وسن بسن أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر كذلك"، "أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم صلوا من أجل الذين يسيئون اليكم ويطردونكم"، وجاء مثل ذلك وأكثر في الآية القرآنية: "ولا تستوي الحسنة ولاالسيئة ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم"..
الاسلام يتفوق على المسيحية:
قمة المسيحية تكمن في التسامح والعفو عن الظالم، وجاء في الاسلام "وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين"، فجزئية "فمن عفا" تكافئ تسامح وعفو المسيحية، وزاد على المسيحية "وأصلح" وهي تعني مع عفوك وتسامحك مع من ظلمك تعمل على اصلاحه، وعند الأستاذ محمود محمد طه أن التعامل مع المسيئ يتم بالعطف واللطف والمحبة والمرحمة..
الدين والدولة فصل هو أم وصل؟:
في كتابه الموسوم بـ "الاسلام وعلمانية الدولة" استطاع البروفسير عبدالله أحمد النعيم أن يأتي فيه بحل عبقري لعلاقة الدولة بالدين في ظل دولة المواطنة التي تساوي بين مواطنيها من غير تفرقة بينهم بسبب الدين أو الجنس أو اللون أو الآيدلوج لا دولة المسلم والذمي التي تفرق بين مواطني الدولة الواحدة، فالدولة تقف موقفاً واحداً تجاه مواطنيها وهي خادمة لهم بسواسية، ويمكن للحكومة أن تكون مؤدلجة حسب من أتى بها من ناخبيها ولكن (حسب النعيم) ولكن ينبغي العمل المستمر دستورياً في تمتين علاقة الحكومة المؤدلجة مع الدولة المحايدة تجاه مواطنيها بحيث لا تتغول الحكومة المؤدلجة على حقوق المواطنين، ثم جعل النعيم على مستوى التشريع أن تكون هناك علاقة بين الدين والسياسة بحيث يمكن لأصحاب الآيدلوجية الواحدة أن يتكتلوا نحو اقتراح تشريعي محدد ويقنعوا معهم آخرين ولكن عن طريق المنطق المدني لا الديني فيمكنهم بذلك أن يقترحوا مشاريع قوانين ترسى بالأغلبية ويمكن تغييرها من غير حرج بالأغلبية أيضا عبر المنطق المدني أيضاً، أما بالنسبة للدين فعلى الأفراد والجماعات أن تمارس دينها تدينا في حدود القانون، ويمكن لمن يرفض الدين أن يمارس حقه حرية واعتقادا وأن يدعو لما يعتقده أيضاً في حدود القانون..
الآية المنسوخة بين التفسير والتأويل:
ذكرنا الآية "يا أيها الذين آمنوا جاهدوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة"، وقلنا عنها تفسيراً أنها تدعوا المسلمين لجهاد الكفار والمشركين بالسيف، ولكن الآية في مجال التأويل تأتي بحسبا أن من يلوننا من الكفار هم حواسنا التي يمكن أن تدخل النور أو الظلام لقلوبنا، فعلينا أن نعاملها بغلظة حتى تدخل النور إلى قلوبنا..
الدولة في مستوى المسؤولية:
الجمهوريون لا يدعون لدولة دينية وإن كانوا يدعون لمجتمع فاضل متدين يدعو افراده لمذهبهم بالتي هي أحسن عن طريق النموذج المقنع، وهم بذلك يدعون لدولة انسانية فيها حرية الرأي والمعتقد ويحمى الجميع متدينون وغير متدينين بالقانون، ومن هنا فالدولة ليست مسؤولة عن تدين الناس أو عدم تدينهم فالكل مسؤول أمام القانون عن قوله وفعله في حدود القانون، وعلى الدولة أن تشرف على ادارة الحوار – لا الصراع – بالسلمية المطلوبة..
المطلوب فصل الوصاية الدينية عن الدولة:
إذن بتمكننا من فصل الوصاية الدينية عن الدولة، تضع الدولة مسؤولية كل نفس بشرية عما تأتي وما تدع أمام عتبتها الفردية، وتجعل كل انسان يتحمل نتيجة قوله وفعله أمام القانون، فالدولة ليست مسؤوالة عن تدين الناس أو عدم تدينهم، انما هي مسؤولة عن مأكلهم ومشربهم وصحتهم وتعليمهم ومأمنهم وما ييسر حياتهم عموماً وادالة الأمن في ما بينهم بالقانون، وتقف الدولة على مسافة واحدة أمام معتقدات منسوبيها أو ايدلوجياتهم أو مذاهبهم أو أفكارهم، بحيث لا يؤثر ذلك في تقديمها الخدمات لهم بالتساوي!!..
eisay1947@gmail.com