هلال زاهر الساداتي لم استطع أن أكبح جماح رغبتي في أن لا أكتب في السياسة , ولكن توارد وخطورة الأحداث لم تترك ليَّ خياراً لأن أتجاهلها , لا سيما وان اختلاط الأمور وتغيير المفاهيم تصيب المرء بارتفاع ضغط الدم , فهناك فوضي وارتباك وتزييف للحقائق وتغليب للأكاذيب , فهي بحق كما وصفها صديقي العزيز العالم الشاعر بابكر احمد موسي – رحمه الله – في وصفه الحالة أيام الدكتاتور جعفر نميري , وصفها بقوله أنها (خرمجة مبرمجة) ! فمسئولو الإنقاذ تتضارب أقوالهم وتناقض بعضها بعضاً فحديث الليل ينقضه حديث الصباح وهناك أكثر من متحدث حكومي ولكن تتفق كل الأحاديث في أمر واحد وهو الكذب ! اختتم المؤتمر الحادي والعشرون للقمة العربية في الدوحة بقطر , وانفض سامر القوم واختصروا المشهد في يوم واحد بدلاً من اثنين وكأنهم تخففوا من واجب جسيم بل من همّ ثقيل ألقوا به عن كواهلهم . وكان (المولد) أو المشهد هو (مولد) المشير البشير وكان بحق نجم الحفل وهو الشخص عينه المطلوب القبض عليه من محكمة الجنايات الدولية متهماً بجرائم حرب وضد الإنسانية في دارفور , ولكنه لقيَّ الدعم والمؤازرة من الرؤساء والملوك العرب , بل بالغ في الشطط رئيس جزر القُمُر بأن طلب أن يمنح البشير جائزة نوبل للسلام رغم الفظائع والبشاعات التي ارتكبت في حق أهل دارفور من تقتيل واغتصاب وحرق ونهب , ولعل حاكم جزر القُمُر جاوز الحد في امتنانه بما فعلته قوة من الجيش السوداني أرجعته إلي سدة الحكم بعد أن استولي علي حكمه حفنة من المرتزقة بعد غزوهم لجزيرته , ومن السخرية أن شعب هذا الرجل اقترع خمسة وتسعون في المائة منه لينضم لفرنسا كولاية من ولاياتها ! حكام اثنين وعشرين دولة مسلمة عدا واحداً عربية أو مستعربة , تجاهل حكامها جميعا ما جري ويجري في دارفور من فظائع وظلامات عرضتها وتعرضها كل القنوات الفضائية في العالم وتنشرها الصحف والمجلات وترددها الإذاعات , وتتناولها اجتماعات ومؤتمرات منظمات وجمعيات حقوق الإنسان في الدنيا , حتى أحال مجلس الأمن الأمر برمته إلي المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت بعد التحقيق والتثبت أمر التوقيف والإحالة للمحاكمة بحق البشير ومن قبله أحمد هارون وعلي كوشيب . وكأني بهؤلاء الحكام قد أغشيت أبصارهم وأصموا أسماعهم , كما نسوا أو تناسوا قول نبينا عليه الصلاة والسلام (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) وذلك برده عن الظلم إذا كان ظالماً , وتعاملوا مع القضية وكأن الأمر هو عدوان علي السودان وسيادته واستقلاله وعزته , وليس الموضوع الحقيقي هو أن حاكم السودان جاوز المدى في التعامل الوحشي مع مواطنيه ! وأنهم يعلمون هذه الحقيقة جيداً , ولكن الساكت عن الحق شيطان اخرس ! فالحكام العرب قسمان : الذين يريدون أن يخلدوا في مناصبهم أو عروشهم التي ولّوها بالوراثة , والقسم الآخر يودون أن يورثوها لأبنائهم من بعدهم , وصارت الديمقراطية وأجهزتها أشياء شكلية , فالبرلمانات تضم أنصارهم الذين أتوا بهم بتزوير الانتخابات أو بالتعيين , وصارت الوظائف في الدولة وقف علي الولاء لنظام الحكم وليس للكفاءة , فامتلأت دور الحكومة بالأنصار والمحاسيب والأقارب , وساد الفساد واختل الأداء في كل مرفق حكومي . وأما الشعوب العربية فهي مكبوتة بالإرهاب والبطش والزج في السجون والمعتقلات والتعذيب الرهيب , وبالسيطرة علي أجهزة الإعلام الكاذبة والمضللة وكتابها المأجورين المرتزقة , وبتسيير المظاهرات المصطنعة المفبركة تأييداً لهم . لم يشغل القوم أنفسهم في مؤتمرهم بالدوحة بما حدث لشعب دارفور وبأحوالهم الراهنة بعد أن طردت الحكومة ثلاثة عشرة منظمة إغاثة أساسية كانت توفر لهم الغذاء والدواء والماء والإيواء , وذلك تماماً كما لم يعيروه التفاتاً في السنوات الخمس الماضية وما حلَّ بهم من كوارث . ولا ابغي أن ارمي القوم بتهمة العنصرية أو العصبية العربية الجاهلية , فالقبائل المستهدفة في دارفور ليست عربية وهم الفور والمساليت والزغاوة , فأن لم يكونوا عرباً بالدم فهم مسلمون بالعقيدة ويتحدثون العربية ويقرأون بها كتاب الله ومعظمهم حفظة لآيات الكتاب الكريم , ولا ريب في أن الإسلام أقوي وأمتن وأسمي من أي آصرة أخري لو صدقت العلاقة . وينتفي العجب لو تذكرنا موقفهم من الفلسطينيين عرب العرق والدين في غزة , فقد ظلت إسرائيل تقذفهم بالنيران من الجو والأرض والبحر لثلاثة وعشرين يوماً , وحكام العرب الأشاوس يتفرجون ولا يفعلون شيئاً سوي الشجب والاستنكار والشكوى , بينما صمت البعض الآخر صمت القبور , وتمادي بعضهم في الذل فشاركوا في الحصار المضروب علي غزة بقفل المعابر فمنعت عنهم الغذاء والدواء والوقود , فوقفت حركة النقل وتوقفت مولدات الكهرباء وساد الظلام , وفرقت قوات أمنهم بالقوة مظاهرات شعوبهم الثائرة علي ما يحدث في غزة من دمار للمباني وإهلاك للأنفس , بينما ويا للعار تشتعل المظاهرات في عواصم دول النصارى والاستكبار كما يسميها بعضهم , في نيويورك ولندن وباريس وغيرها , بينما نجد دولة فنزويلا ورئيسها هوجو تشافيز قد قطعت علاقتها الدبلوماسية مع إسرائيل وطردت السفير الإسرائيلي من أراضيها وعمت المظاهرات ضد إسرائيل كل عواصم دول أمريكا الجنوبية , وكأني بحكام العرب قد تحركوا الآن بعد أن استشعروا الخطر علي أنفسهم من السيف المسلط علي رؤوسهم من محكمة الجزاء الدولية , فكم فيهم من طغاة يضيقون علي شعوبهم ! فربما يكون احدهم التالي بعد البشير وذلك إذا لم يحسنوا سلوكهم مع شعوبهم ! وكما تجمع المصائب المصابين فأن المستريب يستند إلي المستريب! وفي دارفور جاءت النصرة والعون من دول الغرب وشعوبها , فقد ظلت المنظمات الأغاثية تعمل لمدة ست سنوات متواصلة – مائة وثلاثة عشرة منظمة – وإذا نظرت وعددت منها العربية والسودانية ارتدت البصر إليك وهو حسير فلن يزيد عددها عن أصابع اليد الواحدة , ويكفي أن الجامعة العربية دفعت 150 مليون دولاراً لإغاثة دارفور بينما يبلغ ما تدفعه أمريكا لإغاثة دارفور في سنة واحدة مليارين من الدولارات !! والآن صار الجلاد هو الضحية والضحية هو الجاني ! لك الله يا شعب دارفور وصبراً جميلاً , فالعدالة قادمة قريباً وقريباً جداً , وسيري الظالمون أي منقلب ينقلبون . هلال زاهر الساداتي helalzaher@hotmail.com