في مصر: سباق بين الخميني ومانديلا قد يربحه ميلوسوفيتش
د. عبد الوهاب الأفندي
18 July, 2013
18 July, 2013
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]
في هذه الأيام التي يفتخر فيها كثير من المصريين بالمشهد الذي يرونه أعظم ثورات العصر، تظهر على خلفية الصورة مشاهد مرعبة يعتبر عمى هؤلاء المتفاخرين عنها أزمة كبرى، وعمى ألوان أخلاقي مخيف. فخلال فترة رئاسة مرسي القصيرة –ولا أقول حكمه لأن الرجل لم يحكم يوماً- سقط الإعلام المعارض في إسفاف مخجل. ولم يقف الأمر على الكذب والتحريض، بل عمد المعارضون إلى تعميم الفوضى، ومارسوا الاعتداء على مقرات حركة الإخوان وحزب الحرية والعدالة، وتقتيل أنصارها. وشجع زعماء المعارضة الفوضى، وفرحوا بنتائجها، كما حدث في انتفاضة بعض أهل مدينة الإسماعيلية ضد أحكام القضاء في حق قتلة ينتمون للمدينة.
ولكن ما وقع بعد إقالة مرسي كان أعظم. ففي عهد مرسي كان المعارضون أحراراً، والإعلام سادراً بلا رقيب، والقضاء يتصرف كحزب معارض، والشرطة إما في حالة إضراب أو في تواطؤ مع مرتكبي الإجرام الذين لم يوقف منهم أحد. أما ما بعد إقصائه فكانت البداية إغلاق القنوات المعارضة أو التي لا تدين بالولاء الكامل للنظام الجديد، فهوجمت القنوات المستقلة مثل الجزيرة وسي إن إن، وضيق عليها. أما من يشك في معارضتهم فقد اعتقلوا وحجز على أموالهم، بينما قتلت قوات الجيش والشرطة العشرات من المتظاهرين السلميين. أما النائب العام المفروض فيه الاستقلال عن السلطة، فقد طفق يلفق التهم لضحايا القمع، بينما ترك القتلة والمجرمون بدون مساءلة.
ولعل أدعى الأمور إلى السخرية ما أذيع من أن السلطات وجهت للرئيس محمد مرسي تهمة "الهروب من السجن" أيام الثورة على مبارك! فلم يبق إلا أن توجه التهمة لشهداء ثورة 25 يناير بالخروج على النظام والتمرد على السلطة الشرعية! ولعل الأمر لن يطول بنا حتى نشهد إعادة اعتقال ومحاكمة رموز ثورة 25 يناير مثل وائل غنيم وإعادة محاكمة خالد سعيد وهو ميت كما فعل قضاء بوتين حين حكم بالإدانة هذا الشهر على محام قتل في السجن تحت التعذيب قبل عدة سنوات!
ولكن ما هو أشنع من ذلك هو ما شهده ويشهد الشارع المصري والإعلام الردحي من هيستيريا غير مسبوقة لا تكتفي ببث الكراهية ضد المخالفين من الإسلاميين، والإشادة بحكم العسكر، والفرح بالعودة إلى بيت الطاعة في كنف فلول الاستبداد المباركي، بل تضيف إلى ذلك جرماً آخر بالتهجم على الأبرياء. فقد انطلقت الأصوات التي تشنع على اللاجئين السوريين، وتتهجم على الفلسطينيين بدون وجه حق أو بينة بصورة يخجل منها غلاة الصهاينة وشبيحة الأسد. وهكذا تصاعدت الدعوات للتضييق على الفلسطينين وطرد اللاجئين السوريين. وكان أول ما قامت به الدولة الجديدة فرض تأشيرات الدخول على السوريين وإغلاق معابر غزة. فهل ياترى تولى الحكم في مصر بشار الأسد أم قاد الانقلاب بنجامين نتنياهو؟
وفي الحقيقة يلزمنا اعتذار لنتنياهو، لأن إسرائيل رغم كبائرها المعروفة، تستحي من ممارسة العقوبات الجماعية ضد الفلسطيينين بهذه الشوفينية. ذلك أنه حتى لو فرضنا أن بعض الفلسطيينين دعم الحكم المصري الشرعي (وهو حق وواجب على كل فرد، لأن دعم الشرعية هو دعم لمصر، بخلاف دعم الدكتاتورية والانقلابيين، فهو عدوان على مصر وشعبها) فإن هذا لا يمكن أن ينسحب على كل الفلسطينيين. فما ذنب المرضى وأصحاب الحاجات من المسافرين حتى يضيق عليهم حقداً وظلماً؟
مهما يكن فإن الأمر وصل درجة أن نائب رئيس الوزراء الجديد المعين زياد بهاء الدين انتقد هذه الهيستيريا وقال إنها لا تليق بمصر. من هذا المنطلق فإن ما قرأناه وسمعناه من افتخار بمصر الهيستيريا والقمع والشوفنينة التي تذكرنا بصربيا سلوبودان ميلوسوفيتش هو أمر يدعو لكثير من التامل. فإذا كان البعض يرى أن هذه هي مصر الجميلة الشامخة، فإننا نرتعد ونحن نتصور الأمور في مصر الأقل جمالاً وشموخاً. فقد كان البعض يتحسر على أن مصر غيبت وقزمت وشوهت في عهد مبارك، وفقدت دورها وبريقها. ولكن المأساة اليوم هي أكبر، لأن مصر اليوم مصابة بما هو أشنع: فهي في حالة حرب مع نفسها، وفي حالة حقد مسموم على بعضها البعض، واستئساد على الضعفاء وخضوع للأقوياء بدءاً من رجال الجيش ومن يقف وراءهم، وفي تنكر للعروبة والقيم وكل ما كانت مصر ترمز له وتعتز به. إنها حقاً الفاجعة!
بالطبع إن هذا لا يعفي الجانب الآخر (وهو مصري أيضاً) من المسؤولية فيما حدث. ومنتقدو مرسي على حق في كثير مما ذهبوا إليه، فقد فشل الرجل وكان يجب عليه أن يستقيل كما ناشدناه على هذه الصفحات. يكفي أنه فشل حتى في حماية مراكز الإخوان من البلطجية وهو في الرئاسة. وقد كان الرجل –ومن يقف خلفه- من قلة الدراية بحيث ظن أن مجرد أدائه القسم وجلوسه في مقعد الرئاسة يعني السلطة، في دولة الشرطة والجيش والأمن والبيروقراطية كلها من بقايا عهد مبارك وعلى دينه. فالرجل كان على الأفضل زعيم معارضة رسمي. وكان عليه أن يقف مع المستضعفين، وأن يقوي أسس العدالة، خاصة القضاء والضمانات القانونية، حتى لا يقع ما يقع اليوم من افتئات على العدالة.
ولكن الأفدح هو ما ينتظر مصر، فوق ما حل بها، لو استمرت الطائفتان في موقف التحدي المعلن. فكثير من الحقد والتباغض الذي نضحت به نفوس الخلق في مصر نتج عن مواجهات العام الماضي، ولم يكن في حقيقته نتيجة خلاف حقيقي. فالرئيس مرسي لم يكن، كما يزعم خصومه، يريد "أخونة" الدولة والهيمنة عليها، لأن الدولة لم تكن في يده أساساً. والإسلاميون عموماً، حتى حين يحكمون، وحتى حين يستولون على الدولة بالكامل، كما في السودان، لا يكونون في الحكم. ويكفي ما نشهده في السودان من أن المعارضة هي التي ترفض الجلوس مع الحكومة للحوار. وحتى في تركيا وغزة، كان "الحكام" دائماً أشبه بالمعارضة، وقد كتبت عن ذلك أكثر من مرة. والسبب أن هناك بيئة دولية مناوئة ورافضة للإسلاميين، بحيث أن أضعف خصومهم المحليين يظهرون أقوى منهم.
وأمام الإخوان في مصر اليوم طريقان لا ثالث لهما: إما قرار مواجهة شاملة وإعلان "ثورة إسلامية" على طريقة آية الله الخميني، أو الدعوة إلى وفاق وعفو وصفح على طريقة نيلسون مانديلا الذي كسب ثناء العالم لأنه عفا عمن ظلمه وضمن لمن عذبوا شعبه قروناً استمرار دعة العيش ومكاسبهم السابقة وحقوقهم كاملة، ولم يرضخ لشهوة الانتقام رغم أن كثيراً من أنصارهم، بداية من زوجته السابقة، كانوا يريدون الثأر.
وقد كنت للأسف من الأصوات القليلة التي كانت تصرخ في البرية عند بزوغ فجر الربيع العربي بالدعوة إلى انتهاج سنة مانديلا (وهي أيضاً تذكرة لإخواننا الإسلاميين، سنة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً في قوله لمن جهد في إبادة أتباعه بعد أن ظفر بهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء) في مصر وتونس. حيث طالبت بالعفو عن حسنى مبارك وقادة نظامه وعدم محاكمتهم، والتوجه نحو المستقبل لا الماضي. وكانت حجتنا في ذلك، إضافة إلى ما سبق، أن ذلك أدعى لنجاح الثورات حيث تعثرت في سوريا واليمن وغيرها، وحيث تنتظر بإذن الله. ولكن الرئيس مرسي للأسف تبع دعاة الانتقام، وكان بعض حجته في التبرير لإعلانه الدستوري الانتحاري هو أنه يريد أن يثأر لشهداء الثورة! وكما هو معلوم فإن كثيراً ممن زعم أنه يقاتل من أجلهم ثاروا عليه، وتحالفوا مع فلول النظام القديم ضده. وقد كان العفو عند المقدرة أفضل من المساومة فيما بعد.
مهما يكن فإن بوسع مرسي حتى في هذه الساعة المتأخرة أن يخرج على شعبه ويقول للناس إنه قد حمل الأمانة ولم يكن قادراً على الوفاء بحقها، لأنه لم يملك أدوات السلطة من الأساس، ولأن البعض أصر على تدمير مصر لمجرد إنهاء حكمه، وهو أحرص على مصر منهم. (وإذا لم يكن هذا مملاً فإنني أذكر بأنني كتبت أقول على هذه الصفحات إن الإخوان يتعرضون للابتزاز من قبل خصومهم، وأن من واجبهم الخضوع للابتزاز كما فعلت صاحبة سليمان حين تنازلت عن طفلها حتى لا يؤذى). ويضيف أنه لا يريد أن يقتتل المصريون في الشوارع من أجل السلطة، ولا أن تدمر مصر لمجرد الخلاف على شخص الحاكم، خاصة وأن الجميع متفقون على الديمقراطية ويتغنون بليلاها. وليدعو لمصالحة وطنية، وحكومة وفاقية نزيهة يثق بها الجميع تتولى الإشراف على دستور توافقي ثم انتخابات حرة يشارك فيها الجميع، ويتعهد كل من يربح فيها ألا يقصى الآخرين أو يتغول على حقوقهم.
إن الثورة الإسلامية على نهج الخميني خيار متاح، ولكن لنا في إيران اليوم عبرة، وهي على كل حال لن تنجح إلا بعد صراع يطول، وبعد خراب له عواقبه. وسيعاني أي نظام يتولد منها عزلة، وقد ينتج عنها تقسيم مصر وخضوعها لسلطان أجنبي. وإذا استمر ما نراه في مصر اليوم من تنام للأحقاء والنزعات الشوفينية، فقد نشهد انتصار نهج ميلوسوفيتش أو غلاة الهوتو.
أما الخيار النبوي في العفو والتراضي فهو الذي يربح فيه الجميع، خاصة وأن استمرار الصراع، حتى وإن كان سلمياً، ستتولد عنه ضغائن وثأرات يصعب علاجها، واستقطاب يجعل من الأخ عدواً. فليكن الإخوان وقياداتهم هم من يبدأ بالسلام، ومن يبادر بالدعوة إلى المصالحة والوفاق على كلمة سواء، قبل أن تصبح مصر خبراً وذكرى للذاكرين.