في هجاء عبد الخالق محجوب

 


 

 

فوز الحاج عبدالرحمن: كن الأغبش في زمن تحتاج البشرة فيه إلى نيفيا
(أعيد نشر هذه الكلمة من عام 1968 (الصحافة 22 مايو) بقلب مثقل. ففيها طاعنت أستاذي عبد الخالق محجوب في ساعة غضب. هنأت المرحوم الحاج عبد الرحمن بفوزه بدائرة عطبرة في انتخابات 1968. وهو مستحق لذلك. ولكن تهنئتي لم تخل من خبث. فلم امتنع عن تهنئة أستاذي لفوزه بدائرة أم درمان الجنوبية بالمقابل فحسب، بل طاعنته أيضاً بالنعومة السياسية للبرجوازية الصغيرة اللابروليتارية. وكان عام 1968 عاماً قفراً اختلط أمرنا علينا بعد حل الحزب الشيوعي وترويع الوطن بمسودة الدستور الإسلامي للحلف الرجعي من حزب الأمة والوطني الاتحادي وجبهة الميثاق الإسلامي. وحملّت أستاذنا وزر فساد رأيي. وشغبت عليه. وصبر علينا حتى أخذنا إلى عقدة المسألة رحمه الله).
النخلة قالت لذكر النخيل في رسوخها القديم على الجدول: فاز الحاج عبد الرحمن الحاج. الأشياء العجوزة ترفع طبقها، وتخلط ذواكرها، ويدخلها الوهم والنسيان مما يوجب شرحاً وتزيداً. هذا من فضول القول. قالت النخلة: صدق من قال إنك خرّفت. أتنساه؟ ذلك الذي منحنا همساً وايناعًا ولقاحًا. الربعة الودود البشوش. الذي مشى عليه كركجي الجروف خضرة سمراء ممزوجة بنوار اللوبياء وبرم الطلح. أتنساه؟ ذلك الذي حين طاف به هاجس الهجرة إلى المدينة لاذ بجذعي باكياً. فتدلت جريدة مني طيبت خاطره. وصنع سعفها على خديه شلوخاً للذكرى والتاريخ. أتنساه؟ ود عبد الرحمن ود الحاج ود تور المقرئ والحافظ العابد رحمه الله وجعل الجنة مثواه.
قال السيمافور الخارجي للسيمافور الداخلي: حسبتك تعرفه إذ يصدح باسمه المذياع. ولكن لا بأس: الحاج عبد الرحمن البراد بورشة العمرة. الربعة المايل إلى قصر. شلوخه تحكي وقفة للنخيل تسوخ جذوره في التراب القديم في قريته جواري. عمودية كورتي من أعمال مجلس ريفي مروي. ويحك ! من الذي ظل يخرس الحركة في أذرعك المشرعة عاماً بعد عام منذ عام ١٩٤٨ حين يهجر العمال الورش، ومحطات البندر والخلاء، يحرضهم إلى ذلك صوته الجهير الدسم بالثورة بالغضب وباللهب. ذلك الذي زرع دروب حي أم بكول بالمنشورات الخشنة تفرهد وهجاً ووجداً. والذي بذر في قلب الورش مغالبة التعسف والرهق تطلعًا كنوار لوبياء الجروف وبرم الطلح الظليل..
وقلت للمذياع حين تناهى إلى اسمه : يا مذياع أبشر والله بالخير. وبشارتك الليلة لحظة خدر مع الإخوان أتجشأ فيها ملء حلقى. وأهذر فيها بفاحش القول حتى أنسى الساعات الطويلة التي شددتني فيها إليك تلطخ حافة أذني بأسماء جثمت، وما تزال، على فؤاد الشعب ثقيلة باهظة. أسماء حين تخترق صميم أذني أحس كأني اقلب صفحات کتاب "تاريخ السودان وجغرافيته" لطيب الذكر نعوم شقير. أبناء وورثة المكوك والأرابيب والمشائخ والعلماء الرسميين والثوار وما شاكلهم.
وهذا يا مذياع رجل منا نحن الغبش من ظل تاريخ هذا البلد ينهض على عرى أكتافنا، ورقة حالنا، وبؤس أيامنا. فخرنا أبداً أن كنا وقود الثورة. لم نتقن المؤامرة. ونستهجن التسلق ونأبى لسيقاننا لين الركبة. ولم نزاحم على مائدة السلطة. ولكن تعرفنا نوائب الدهر وثبات البلاء. تعرفنا نزقي الصدر، عُمى، وطرش، وبُكم. وتعرف إذ جاءتنا المحنة متحزمة نهضنا نحوها عراة. وما يزال يتوجس خيفة من ذاق طعم أظافرنا وأنيابنا. وإذ تنجلي الغمة، وينكشف البلاء، نعود زُراعا ورُعاة نشتل النخل، ونرشد السعية ونحن نقرأ صفحة السماء، ومدالق السيل، ورِحم التربة. لم نورث غير الصبر ينفذ إلى منازل المطر ودورات الزراعة. وحاسة شم للخطر، الكارثة، توقظ فينا شبقاً للقتال، وتنفض الغبار عن سيوفنا ودروعنا و رباطة جأشنا. نستعزي بالزوجات والأخوات وبنات العم والعمة والخال والخالة.
و عن الرجولة يا حاج أتحدث. أتحدث عنها في زمن تطأ المذلة الرجال فينشأ الجنس الثالث قواما بين الجنسين. وأضرب على وترها في زمان تحتاج البشرة فيه إلى "نيڤيا". وأتحدث إليك بالذات والزمان ضال، والمكان ماحل، والبقر يتشابه، وتختلط المسألة. كن يا حاج، وقلباً بالمواصي ناسي، هذا الذي نريده لأنفسنا فوق ها الصغار والصغائر. فوق المراء والزيغ. وأنفذ إلى الزيف بما ورثت من عين بصيرة ثاقبة عالمة أوان تشح الطبيعة وأوان تسخو. واقرأ قلوب الرجال وعقولهم كما كان السلف يقرأ صفحة السماء، ورحم التربة، ومساكن النجوم. وأجهر بالحق ولو على نفسك. وأفقأ عين الظالم بيدك قبل أن تستصرخنا إلى ذلك. وأجعل للعسف قيداً يرعى به. وإذا لمست برود العاطفة يملأ الدار عبر أجهزة الطنطنة والشقشقة و اللجاجة تصدر عن المتفيقهين فأنزع الميكروفون وأقرأ ما شئت: شيئاً من التنزيل الحكيم. أو مما صنعته من الشعر وأنت تذكر الولد والأهل في محبسك بناقشوط، أو أصدح بنمة من الدوبيت شجو أهلنا القديم. وأجعل عاليها سافلها إن اعترضك معترض، أو حال دون ذلك حائل..
قال لي حين سمع فوز الحاج ولكن في الحاج حمق واندفاع. قلت : وفي ساعده قوة تلجم الخصم إذا نهق بالحديث السمج والبارد. ولهذا استبشر. فلقد سئمنا والله، ولست تطلبني حليفة، سئمنا حتى دورة الدم في داخلنا.
با حاج يا ود عبد الرحمن ود الحاج كن الأغبش الذي يتمسح بالماء في زمن تحتاج البشرة فيه إلى نيڤيا.

umdarag1936@gmail.com
//////////////////////////

 

آراء