فُجعتُ، كما فُجع الوسط الثقافي السوداني، نهار الثلاثاء 18 ديسمبر الجاري، بنبأ انتقال أستاذنا العزيز، عبد الله أحمد بشير، الملقب بـ "بولا"، إلى الدار الآخرة. كان عبد الله بولا معلِّمًا، وانسانًا من طراز فريد. فقد عاش مستغرقًا، بكليته، في عوالم الفكر، والفن، والثقافة، بصورةٍ لم تترك لشيءٍ آخر، مجالاً في حياته، مما يشغل به الناس أنفسهم، عادةً. أنفق بولا حياته راهبًا في محراب الفكر مجسدًا حالة التصوف، بمعناها الجوهري، المركوز وراء التصنيفات، والجهويات، والبطاقات اللاصقة. ولقد رأيت، وأنا أغالب حرقة فقده، أن أودعه، اليوم، بما سبق أن استقبلته به، حين قدم عضوًا جديدًا، في منبر الحوار، بموقع سودانيزأونلاين في عام 2004. كتبت، حينها، في معرض الترحيب به، الكلمة التالية، التي أدخلت عليها اليوم، بعض التعديلات التحريرية الطفيفة:
عبد الله أحمد بشير، الذي أشتهر بـ "عبد الله بولا"، تخرج من كلية الفنون الجميلة، قبيل نهاية عقد الستينات، من القرن الماضي، وقدم، عقب تخرجه مباشرةً، إلى مدرسة حنتوب الثانوية، معلماً للفنون، فأحدث فيها انقلابا، معرفيًا، وتعليميًا، وثقافيًا، غير مسبوق. قلب عبد الله بولا، لحظة أن وصل إلى حنتوب، مفهوم علاقة الطالب بأستاذه. أقبل عليه البعض، بشغفٍ شديدٍ، وكان شخصي واحدًا منهم، وسخر منه البعض الآخر. وبقيت الأكثرية على السياج، تراقب ذلك الأمر العُجاب.
بوصوله، نزلت صورة الأستاذ، من برجها العاجي، وانمحت المسافة الفاصلة، المصنوعة من مادة الخوف على المكانة، والإحساس بالأهمية، وبالوضعية الخاصة، وبالتميز. انمحت في حالته كل تلك الاعتبارات التي ظلت تحفظ المسافة، الزائفة، الثابتة، بين الأستاذ، وتلاميذه. فجأة أصبح الأستاذ، أخا أكبر لتلميذه، ورفيقا لسفره، وشريكا أصيلا، في هم المعرفة، وفي آلام مخاض السيرورة، والتكوين، وعونًا مستمرًا، على السير، في وحشة الدروب، المشتجرة، الملتبسة.
ومثلما قال الراحل، علي المك، إنه عاش "عصر عبد العزيز داؤود"، فإن جيلنا في حنتوب الثانوية، قد حُظي، في نهاية الستينات، بشهود، وعيش "عصر عبد الله بولا". مثًل عبد الله بولا برنامجاً تعليميًا، ومنهجًا دراسيًا، حيًّا، موازيًا للمنهج الدراسي الحكومي، العقيم، الذي لا يستجيب، ولو قليلاً، لجوع الروح، والعقل، والقلب. وكما قال بشرى الفاضل، جئنا إلى حنتوب، من قرى ريف الجزيرة، أغرارًا، أقرب ما نكون إلى خلو الوفاض، من حيث التحصيل المعرفي. جئنا بشذرات متفرقات من المعارف المحدودة، مما وصلنا عن طريق معلمينا، في المدارس الوسطى. شذرات كان قوامها، الإنشاء، والتدبيج الخطابي، جرى انتخابها من أعمال المازني، والمنفلوطي، والعقاد، إضافةً إلى بعض أعمال طه حسين الهامشية، وأشعار البارودي، والرصافي، وشوقي، وحافظ، وجماعة المهجر، وقصص جرجي زيدان، وقليلاً من القص الكلاسيكي الإنجليزي، ممثلا في النسخ المختصرة، من روايات تشارلس ديكنز، وجورج أورويل، ورصفائهم. لكن، حين التقينا بعبد الله بولا، انداحت دائرة وعينا كثيرًا.
انفتحنا، عن طريق عبد الله بولا، على آفاق المعرفة الإنسانية، في فضائها الأكثر رحابة. كان المنهج المدرسي، لا يقوم على إقرارٍ صريحٍ، بأن المعرفة تتقدم. ولذلك فقد ظل سجينًا لصورة ماضوية. وأصبحت الحداثة، بكل ما تعني، واقعة، تقريبًا، خارج أسوار ذلك المنهج، الساكن. حتى الحداثة التي مثلها، في وقتٍ مبكرٍ جدا، كلٌّ من التجاني، يوسف بشير، ومعاوية محمد نور، ومحمد محمد علي، وحمزة الملك طمبل، منذ عشرينات القرن الماضي، ظلت، هي الأخرى، خارج أسوار ذلك المنهج الدراسي. فالمنهج الدراسي كان مصريًا،ً أولاً، وأخيرا.
أما الفكر الفلسفي، وعلم النفس، ونظريات الحكم، والاقتصاد، فقد كانت، كلها، خارج ما يتعرض له المنهج المدرسي. غير أن، حُسن طالعنا، جاءنا بعبد الله بولا، الذي أتانا بالمنهج، الحداثي، الموازي، الذي كنا نحتاجه. فبين عبد الله بولا، والسر مكي أبو زيد، وعبد العظيم خلف الله، ومحمد عبد العال مراد، انفتحت مسالكنا على السياب، والبياتي، وصلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي، وغيرهم من شعراء أدب المقاومة الفلسطينية: (درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، وغسان كنفاني، وغيرهم). كما انفتحنا، وهذا هو الأهم، على الماركسية، وعلى روجيه غارودي، واليسار الجديد، وعلى سارتر، وكامو، وفرويد، ويونغ، وإيريك فروم، وغيرهم، من رموز الحداثة الغربية.
تحول بولا، النسبة لي، في سنواتٍ قليلةٍ، من أستاذٍ إلى صديق عمر، ورفيق درب، رغم فارق السن بيننا. معه، وبصحبة بعض زملائي، زرنا أهله في مدينة بربر. ومعه وقفت على أطلال "المخيرف"، وأمجاده الغاربة. ورأيت بعيني عبد الله بولا، ـ وهو المسكون بأمجاد بربر القديمة، حين كانت حاضرةً مزدهرة ـ شاعرها الكبير، ود الفراش، وهو ينظر إليها بعين محبٍّ مدنفٍ، وهو يقترب منها، عائدًا من الخلاء، مرددًا:
بشُوفْ بَرْبَرْ بَشُوفْ جوخَها وحَرِيرَا
بَشُوفْ الميْدَنَه القَبَلْ الجَزِيرَه
بَشُوفْ رَكْبَ العَبَابْدَه البَيْ خَبِيرَا
تَرَى البُرْدَينْ كَسَحْ فَاتْ القَطَيْرَه
زار معي بولا، وعلى غير عادة الأساتذة، أهلي في حلة حمد الترابي، وجلس مع أبي، عليه رحمة الله، في الحوش، ساعاتٍ طويلة. وظل أبي يحدثه، في غير ملل، عن قصص أجداده الصالحين، إذ وجد فيه، مستمعًا نادرًا، يحسن الانصات. ولم يعهد أبي مستمعين يهتمون بجنس قصصه، من قبيل الأفندية، لابسي البناطيل. ولقد كان أبي حاكيًا من الطراز الأول. وهو ممن تستحلب عيون السامع الغارق في الاستماع، مخيلته، وذاكرته، استحلابا. أصبح بولا، صديقا لأبي، ولكثير من أهلنا الذين ظلوا يسألونني عنه، لسنوات، وسنوات، حتى ابتعلتنا، كلنا، المهاجر، نهاية الأمر.
في خرطوم النصف الأول من سبعينات القرن الماضي، حين كان اليسار متلفِّعًا أزهى حلل النرجسية العلمانية، التبسيطية، المتعالية على التراث الديني، كان عبد الله بولا، مثابرًا على حضور ندوات الخميس، التي كان يعقدها الأستاذ محمود محمد طه، بداره، في الحارة الأولى، بمدينة المهدية، بأمدرمان. كان بولا هناك، حين لم يكن حضور تلك الندوات يتعدى العشرين شخصًا، على الأكثر. وقد أثرى بولا تلك الندوات، بثقافته الواسعة، مما لفت نظر الأستاذ محمود محمد طه، فأخذ اهتمام الأستاذ محمود يتزايد، منذ تلكم الأيام، وبصورةٍ ملحوظةٍ، جدا، بالفنانين التشكيليين، وبكلية الفنون.
حين كتب بولا، بعد سنوات طويلة، في مجلة "رواق عربي"، عن فكر الأستاذ محمود محمد طه، جاءت كتابته، محلقةً في سماوات، لم يطلها أحدٌ غيره. وأقول، بدون أدنى تردد، أن مقال بولا ذاك، قد كان أفضل ما كُتب عن الأستاذ محمود محمد طه، على الإطلاق. ولا تداني ذلك المقال في معرفة قدر الأستاذ محمود، وفهم منهجه التجديدي، وفي جودة الكتابة نفسها، كل كتابة أخرى، عالجت ذلك الشأن. بما في ذلك، ما كتبه الجمهوريون أنفسهم.
أثرى بولا الملاحق الثقافية في الصحافة السودانية، في السبعينات، بكتاباته النقدية، الجريئة، خاصة نقده لمدرسة الخرطوم. وكانت مسلسلته الشيقة، التي اختار لها، اسم: "مصرع الإنسان الممتاز"، لافتةً جدًا، لنظر المهتمين بالشأن الثقافي، وبالثقافة التشكيلية، على وجه الخصوص. وفي تقديري، أن عبد الله بولا، وضع إصبعه، في وقت مبكرٍ جدًا، على مسارب، ومرتكزات فكرة ما بعد الحداثة، قبل أن تصبح تلك الفكرة، "ثيمةً"، رائجةً، ومنتشرةً، في الأوساط الأكاديمية، العالمية. ولا غرو، أن التف حول بولا طلائع الشباب الذين اجتذبتهم البنائية، في السودان، ممن أسماهم هو: "الأولاد أبَّان خراتي"، نسبةً لكونهم قد تميزوا، في تلك الأيام" بحمل حقائب في صورة "خرتايات" على كتوفهم. وقد شهدت المحافل الثقافية، في الخرطوم، وقتها، الكثير من المجادلات، عن البنائية، وعن كل ما تعلق بها.
لقد طال تقديمي لبولا، ويقيني أن كثيرين، ممن تتلمذوا عليه، لديهم الكثير مما يمكن أن يضيفوه هنا. فقد مثل بولا نسلاً جديدًا من المعلمين، وفتحًا جديدًا في مسار التعليم. غير أنني لا أجد مناصًا، من شد لجام قلمي، والوقوف هنا. وأختم قولي، بأنه يسعدني جدًا، أني لقيت شرف تقديم عبد الله بولا إليكم. فتقديمي له، ليس سوى بعضٍ من دين له، في عنقي، أرده إليه. فهو أستاذي، وصديقي، ورفيق دربي، في تيه المعرفة الموحش. كما هو، أيضا، رفيق الاستجمام، في واحات ذلك التيه، القليلة، المتباعدة. إنه الآن بين ظهرانيكم، فرحبوا به، والشكر لكم جميعًا، مقدما.
ألا رحم الله أستاذنا الموقر، عبد الله أحمد بشير "بولا"، وتقبله القبول الحسن مع المجتبين الأخيار، وشدَّ أزر زوجه، المكلومة، الأستاذة، نجاة محمد علي، وبناته المكلومات. وجعل البركة فيهن، وفينا أجمعين. وسيظل ذكر عبد الله بولا خالدًا في كل الذين تتلمذوا عليه، وكل الذين قرأوا له، وكل الذين تماست حياتهم بحياته الخصبة، التي اتسمت باتقاد العقل، وعمار القلب، وثراء الوجدان.
نقلا عن صفحة الدكتور النور حمد على الفيس بوك