فَض اعتصام القيادة في ذكراه الأولى: لا فُضّ فوك و فُضّ دَير الاعتصام

 


 

 

 


نعم سادتي إنه دير و ساحة للرهبنة و التبتل في محراب الوطن العزيز الذي تُرفع الأكُف لأجل أن ترعاه العناية. و كأنه جبلة خُص بها السودانيون من بين شعوب الدنيا أن تحملهم الفطرة إلى الابتداع و اجتراح (الفرادة) في التعاطي مع كل ما هو وطني (ينخر وعينا) لنخرج من ضيق (الذل المحنط) إلي رحابة كل ما ( يعول عليه)... الجنون في محبة الوطن.
و منذ أن يمم الثوار جيلا يحمل جيلا شطر ذلك - الرَبع الخالي و لم يكن يدور بالخلد أن تغتال النخوة والمروءة مع انبلاج الفجر هذا و ذاك - قبالة تلك البقعة التي أفردت لها في الذهن (القومي) مساحة بأنها مصنع الرجال و عرين الأبطال قبل أن تطلق لحيتها و تطالها سياط الوهم و تصبح تهيمة بأنها ( فارقت الدرب العديل) ومنذ أن انتصبت أولى خيام الاعتصام لتُتلى فيها آياتٌ بيناتٌ من الرفض الحرون، وبعد أن تسلق أول الطالعين تلك اللافتة الدعائية العريضة المُطلة على أفق المستقبل المفتوح على حياة قمينة بتمثل الحرية في سمتها الوضيئ، ومنذ أن استقر بعض النفر على أعلي "النفق" يطرقون بحجارة الوطن لا (حجارة من سجيل منضود) يمطر من هم أسفل النفق بما لا قبل لهم به. تلك الطَرقات المُنغّمة، خماسية التتابع في ضرب (النقرزان) على قضبان الحديد تعلن عن إرادةٍ عزمها المستمد من فولاذ ذلك الجسر الذي يربط الآمال بالطموحات. فاستحال ذلك النفق جمهورية قائمة بذاتها تعلن عن نفسها بذلك الطرق الذي يسري في تتابع بلا انقطاع . ومنذ أن تزينت تلك المداخل بالجداريات تنبئ الناظر إليها أن ثمة وعيا قد اعتمل في النفوس فناً و جمالاً و مضى في التشكل مستلهما الخبرة التاريخية في صناعة الثورات و الوعي الشعبي المتزين في بساطة و كأنما خلقنا بالمشيئة أن نكون هكذا ، فزين الأرجاء بحكاوي الثورة، و بذل التضحيات، وعشق الحرية المستهام. ومنذ أن انداحت المواكب بالهتاف تشق آذانا لم تكن تصيخ إلا لجهة المستحيل و لا تخطئ إلا من به وقر، ومنذ أن عافت كل تلك النفوس ذاتيتها، فصارت نفسا واحدة لا تكاد تفرز بين الرفيع في مجالس الأنس و الرفيع في محبة البلاد رغم فقره مثلما سقطت فيها حوائل العمر بين كبيرها وصغيرها، وبين أناثها وذكورها، إذ تلاشت الفوارق حد العدم و كانها قيامة الوطن ، وإذ انبسط الكون الفسيح مَدرَجاً لهبوط أحلام استعصت عند أبواب اللئام، فظهرت على سطح الأديم للعيان نُوّيات براعم تم غراسها على عهد أفلاطون في المدينة الفاضلة، ليتم التنادي عبر أصوات مفعمة بالإخاء، موحدة بالإنسانية، مجللة بالكبرياء، مُسرِفة في العطاء ، ووجوه مشرقة الطلعة، ندية الابتسام. تحت جرس ذلك النداء النبيل ( لو عندك خُت ... ما عندك شِيل) شعار السودانوية العظيم في أسمي معاني التكافل الاجتماعي، فتذوب من وقع ذياك النداء كينونة الأنا بل تزول ، و تستوي الفوارق بين المادة والروح ، كما يستوي الوجود في الماهية. ولتتحقق بشريات عيسى وما ختم به محمد (ص) وما استشهد من أجله سبطه الحُسين. لتسود قيم الحرية والسلام والعدالة... عندها ارتعدت فرائص كل مَنْ جَمع بلا وعى ... وتنادت الأفاعي من أوكارها ، وعوت الذئاب مكشرةً عن أنيابها، فأرتسمت في صفحة السماء ملامح لتدابير شريرة لا تعرف الوطنية سبيلا إلى مسامها مدّثّرة برداء التربص و العبث بما ينفع الناس تجدل من الكراهية ثوبا لا يغطي سوءاتها.
بدا واضحا أن القوم في السودان يومذاك قد تمايزت صفوفهم بين سلطتين، سلطة تتخلق في رحم تلك الاعتمالات الإنسانية المتسامية في ساحة الاعتصام يصلها حبل سري ليغذي الحياة السياسية بالأخلاق والفن والذوق الرفيع و الرنو إلى مستقبل تتمثل فيه قيم الحرية و السلام و العدالة، وسلطة قديمة في مقاييس الاستبداد و الطغيان تعاف العدل والمساواة و يسكنها (دينٌ متنحٍ و ظلام سائد تسكنه ذاكرة الليل الماطر من خجل التاريخ) ما كان لها أن تسمح بإفساح المجال طواعية و بالتي أحسن و تأبى إلا أن تحمل تراثها البائت في القتل غيلة لا مثلما يفعل الرجال مع نظرائهم، و في هذه يا سادتي يستوي صانع الطغاة و نصيرهم و من يزعم أنه يخذّل عنا و صحائفه محشورة زُرقا، و لا تفتح الطريق في وجه سلطة جديدة إلا ضمن شروطها. فلربما جدت حليفاً ما في الذين أمسكوا بزمام الأمور و يتطلعون إلى السلطة ، وكلهم قد انضوي تحت تشكيلات عسكرية وشبه عسكرية، وَحّد بينها مَقتُ المثال الآخذ في التخلق و أثقلت كاهلها الآيديولوجيا أو على لسان الواهمين ما يسمونه في قاموسهم عقيدة ، و بانت ضرورة الإجهاز عليه بغض النظر عن التكلفة البشرية وبشاعة الكيفية وسوء الطوية، فارتدت بالممارسة إلى حيث تريد، ليكون بمقدورها أن تشارك في السلطة وفق نمطها القديم لا ذاك الذي كان يتجذر في سوح الاعتصام ليخط بداية لعهد جديد يحمل رسالة للعالم و نحن في ذكرى شهداء الاعتصام أننا في موضع (سجدة) للوطن تقدم دروسا للشعوب (المتحضرة) من بلد منسي يذكر في سجل ميراث الحضارات بأنه سنا الفجر. اليوم نقف موقف المتأمل و أمامنا السؤال : كيف يمكن أن يكون حال وطننا إذا لم يُفض الاعتصام؟

 

آراء