فِي العُنْف والتهجير: ‏ حِكَايَاتٌ مُلَوَّنَة عَنْ أَحْوَال سَوْدَاء

 


 

غسان عثمان
19 November, 2022

 

اللاجئون في شرق السودان
مقدمة للكتاب المصور- بعدسة حسين صالح أريّ، وهو يرصد أحوال اللاجئين في شرق السودان، عنوان الكتاب (خاصرة الروح)، وقد كتب المؤلف: (أرى في الوجوه كل تفاصيل الحيوات، فرحها وحزنها، صمتها وبوحها، عذاباتها وسعادتها، واقعها وتطلعاتها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها)..

ghassanworld@gmail.com

فِي كِتَابِهِ ذَائِع الصِّيت (حَيَاة الصُّورَة وموتها‏) يدشن الفيلسوف الفرنسي ريجيه دوبريه تساؤله حول خلود الذاكرة بالصورة، يقول: "لماذا عَمْد أبناء جنسي، منذ زمن بعيد إلى أن يتركوا وراءهم صوراً مرئية مرسومة على مساحات صلبة، ملساء بالرغم من أن الجدران في العصر الحجري الأول كانت محدبة وبدون تخوم..!؟". – (حياة الصورة وموتها – ريجيه دوبريه – صفحة 13).
وهكذا يريد حسين أن يفضح سخاء العالم وليونته بالطَرْقِ عميقاً مشتملاً سلاحه الذي لا يئن من أنفاس يلتقطُها متعبة، وتحت ظل رهيب، يفعل ذلك عن عَمْدٍ تخليداً لهذا الانكسار الإنساني الذي يريد من الذاكرة أن تتجنبه، ولكن حسين وبثورة تخصه يستمد سرديته الخاصة من أشغال العنف والفقر واللجوء، من عبث السياسة، وسفورها المجنون ضد كل ما هو إنساني، فرغم جماليات هذه الصور إلا أنها دليل إدانة بالغُ الْحَيْثِيَّة ضد أوهام العَطْف، وأشكال الرِّفْق الهَزِيل.
هذه الصور التي التقطتها عدسة الفنان حسين أري فيلمٌ سينمائي تتركب مشاهده على مظاهر مؤلمة للخوف والجزع، للموت البطئ، والجوع المُعلن، والمشهد الرئيسي في هذا الفيلم هو الطفولة المرتبكة، فلا هو حزنٌ عن إدراك، ولا طمأنينة، هو شيء من الخوف والظن، واعتقال اللسان، والطفولة هنا هي الضحية الأكبر في هذه الحكاية، لأنه بات على البراءة أن تدفع ثمن الجريمة.
إن أكثر ما يشدك في سيرة حسين؛ سيرة الألم والانتظار هو تركيزهُ على كشف أسرار أبطاله عبر اقتحام العين بالعدسة، شيء شبيه بمشرط الجرّاح يسدد طعناته لأجل إنقاذ مريضه، وهنا يريد الراوي (المصور) أن يكشف أكثر ضياع المستقبل المشدود على سحابات ثقيلة المطر لكنها ضنينة بالندى.
إن صور حسين أبلغ بكثيرٍ من بيانات الإدانة، وأصدق من أرقام الضحايا يحملونها وزراً فوق أكتاف مُثْقَلَة منهكة، شهيتها من الحياة معدومة، لكنها تقاوم، وهذا ما يريده حسين؛ هو أن يقاوم بالكاميرا عنف الإنسان ضد أخيه، يرصد بها، يحاصر.. يركض.. يصرخ فيها، لماذا؟ وكيف لا؟، ولا يزال العسف يمدح الناس الأكثر فقراً، والأقل جدارة، إنها المظلومية التي تقتات على براءة طفلة لم تبلغ العاشرة لكن العالم مدينٌ لها بآلالام عِراض، طفلة مصلوبة على شجرة من نار، ولهيبها يقطع منها ويعرض، كأنه مزاد غير معلن للقتل بالمجان مع استبقاء الروح رهينة.
يظل حسين ذاكرتنا الموقدة بالحب يبحث عن الجمال وسط أكوام من القسوة، هذه صور تهتف ضدك، وأنت تشاهدها تعايرك بصمتك المسكون بالدعة، وتسحبك إلى عِظَمِ الحزن وغباء الأيام.
إن مأساة اللجوء هي الوخزة الأغور في جسد الجغرافيا، مأساةٌ عصية على الوعي أن يبتزها ليشتعل بالكلام، والكلام المجانب للأزمة، ولكن العدسة برعت في استجلاب دواخل المأزومين، وحركت كامن الفهم للمشكلة في أبعاد جديدة.
..نجد في هذا الكتاب حياة موازية لإنسان النزوح، حياته يدبرها حسين بِالتَّتَبُّع ليكشف لنا كيف لم تُهن عزائم هؤلاء.. عن مزاولة اليومي والمستقبلي، وانتظار الأمل يدخل خلسة، إذ لم تنس الأم دورها، ولا الفتاة دروسها، ولا الصبية هُويّتَهُمْ المنتزعة بفعل التهجير والقسرية، يحملون الوطن هدية في القلب وإن منعوا حقهم فيه. بل حتى الفرح لم يسكت عن الهذيان.. فهؤلاء فرحون رغم كل شيء، ممتنون للحياة رغم شراستها، فالغناء سبيل المقاومة هنا،ٌ والدُوْر وإن لم تكن لهم لكنها أمينة عليهم، وتحتفظ بظلها الخاص، حتى سياج الحبس قصير القامة عن طول الرضا والانتظار، أما الجوع فهو حاجة يكتفون منها بالقليل القليل.
سيظل هذا الكتاب رواية مكثفة السرد، وفوق أنه بوابة للاعتراف بالظلم فهو حكايتهم يقصونها على بقيتهم من بنات وصبية هم زاد الرحيل المؤجل. إن البطل في هذه الرواية هو ألوان (حسين) التي تزهو بنفسها رغم الألم، وحكايتهم التي ستنتهي يوماً ما.. ويعودون، إلا أن حسين سيبقى يروي للأجيال القادمة كيف ظل يحرس البؤس وهو يحمل عدسته الناطقة، وعينه تعبث بكل تفصيلة في دراما النزوح والخوف لتحيلها إلى آية من الجمال المعذب..
..هي حكايات ملونة عن أحوال سوداء تتحاشى الضوء، وتنمو وسط الذل، وشراهة الضمير السجين..

 

آراء