قاطعوها.. فإنها منتنة
11 April, 2010
بسم الله الرحمن الرحيم
اليوم تبدأ مرحلة الاقتراع حيث من المقرر أن يتوجه الناخبون السودانيون لمراكز الاقتراع. حينما قال المصطفى الكريم لأصحابه الكرام متحدثا عن العنصرية: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ"، كانت تلك الرسالة تعني سمو القيم الإنسانية في الإسلام ورفض التفرقة بين الناس على أساس العرق والعنصر أو الإثنية وما تجره من وبال على المجتمعات وعلى العالم. والانتخابات السودانية الحالية قارئي الكريم وقارئتي الكريمة تتعارض مع قيم عديدة أخلاقية وإنسانية سامية، إنها باحة للتزوير والإفك والمفاضلة بين المرشحين على أساس انتماءهم السياسي للمؤتمر الوطني أو حلفهم معه، وهي مهزلة بأي مقياس موضوعي، تجر وبالا على بلادنا إضافة على وبالاتها الجارية، وهي طبخة نيئة تركت بالعراء فأنتنت وفاحت رائحتها الكريهة، وأعيذكم بالله أن تقربوها.. فهل من متسائل لماذا؟
إن قارئ هذه المساحة الأسبوعية لكاتبة ذات انتماء حزبي معلن ليجد في الأسابيع الثلاثة الماضية بعض مؤشرات الحالة الانتخابية المتقلبة، فقبل عشرين يوما فقط كتبنا بعنوان "حزب الأمة القومي.. أرمي لي قدام" وهي مقولة كتبت بأمل أن بالمفوضية القومية للانتخابات بعض حياء وبعض حرص على أن تقام الانتخابات بدرجة ما من التنافسية وأنها ستحرص كما سيحرص المؤتمر الوطني على إرضاء القوى السياسية وطمأنتها على الدرجة الأدنى من النزاهة خاصة وقد طبخوا كل شيء فلا أقل من بعض التطمينات التي لن تستطيع تغيير بنية التزوير الهيكلية ولكن ستقلل منه بدرجة هامشية وكنا نعتقد أن أية درجة من درجات محاصرة التزوير تكفي.. استطلاعاتنا الميدانية كانت مبشرة جدا، وكنا نظن أن التزوير الهيكلي سيقلل من النسب التي توقعناها: 52% من المجالس التشريعية بالشمال، ونسبة أكبر بين ولاة الولايات الشمالية، وأمل كبير بالفوز بالرئاسة.. نعم التزوير الهيكلي سيقلل من هذه التوقعات، ولكن لا ضير فلو ضمنت بعض الإصلاحات يمكن أن نرضى حتى لو حصلنا على نصفها.. كان المقال يحث على المضي قدما فالنصر حليفنا بإذن الله.
المقال التالي له والمنشور قبل أسبوعين كان بداية اليأس التام من المفوضية التي أحسن الدكتور عثمان إبراهيم عثمان في مقاله بصحيفة السوداني بتاريخ 8/4 الجاري حينما سماها (المقوضية القومية للانتخابات) فهي فوضت لإجرائها وفقا لدستور وقانون محددين فقوضت كل أسس الانتخابات السليمة وكل الأسس الدستورية والقانونية الموضوعة، وجعلت العملية الانتخابية طبخة فاسدة لنظام لم يسبقه في ملفات الفساد سوى الصومال المنهار. كتبنا بعنوان "مفوضية البشير" وقد لاحظنا كيف يعلق السيد عمر البشير المرشح الرئاسي للمؤتمر الوطني على مجريات الأمور الانتخابية وتردد خلفه المفوضية بشكل ببغائي سقيم! وعددنا الأسباب التي تجعلنا نرفض التعامل مع المفوضية حتى ترعوي.
وفي الأسبوع الماضي كتبنا معلقين على مقاطعة بعض أحزاب تحالف جوبا وعلى رأسهم الحركة الشعبية لتحرير السودان للانتخابات وتهديد حزب الأمة بالمقاطعة إذا لم تستجب له ثمانية شروط مع مهلة حتى السادس من أبريل، وكان عنوان مقالنا "بثلاثة فقط.. خضها يا حزب الأمة" قلنا في آخره (إنها انتخابات معيبة ومعيبة جدا، ولكن لو تحققت شروط تمويل الأحزاب، ونزاهة الاقتراع، وتأجيله أسابيع فعليكم يا ناس حزب الأمة القومي وعلى جميع القوى ذات الشعبية أن تخوضها، وإلا فلا، لا وألف لا.. دي مهزلة، كما تقول الأهزوجة القديمة. حفظ الله وطننا من أهل المهازل والإحن ووقاها شر الفتن.)
وقد علق على بعض ما كتبنا رئيس تحرير هذه الصحيفة في كتابة لا نتردد لحظة في وصفها بالمؤتمروطنجية السافرة والساخرة والمثيرة للسخرية المضادة، ففي عموده المقروء (على كيفي) كتب الأستاذ عادل الباز مستنكرا موقف الأحزاب المعلنة للمقاطعة ومستغربا موقف حزب الأمة القومي متسائلا هل هو جاد فيما ذكر؟ ومع أن للأستاذ عادل الباز مواقف مشرفة في فضح الفساد خاصة المتعلق بقطاع الاتصالات سارت بها الركبان برغم أنه (من الجماعة) أو كان منهم، إلا أنه أبى في مسألة الانتخابات إلا أن ينضم للمزاج الشمولي. يعلم الأستاذ عادل الباز أن حزب الأمة على الأقل جاد وجاد جدا فيما يخص الانتخابات، وحينما زاره وفد حزب الأمة عشية عملية التسجيل في محاولة لإشراك الصحف الوطنية في فضيلة التثقيف الانتخابي وتوعية المواطن بأهمية الانتخابات لم يخف إشادته بتلك الخطوة فحينها وجد الوفد الطائف للصحف أن أكثريتها كان بمثابة النائم الذي أوقظه حزب الأمة ليقول له إن هناك انتخابات مفصلية ستدور وإن التسجيل هام وهام جدا لتحقيق إرادة الشعب.. الأستاذ عادل في التعليق على مذكرة الأحزاب للمفوضية سخر وقال كيف تطالب الأحزاب الاستجابة لمطالبها التي رآها مستحيلة في أسبوع وقد رأينا أنه وآخرون ساهموا في تلثيم رؤى المفوضية الملثمة أصلا بالهوى المؤتمر وطنجي فقامت بنشر ردها الفضيحة الذي كررت فيه منطق أستاذ الباز من استحالة تنفيذ المطلوبات في أسبوع بينما مطالبة المذكرة أن تتم الاستجابة وليس التنفيذ في ظرف الأسبوع والفرق ظاهر. في تعليق أستاذ عادل على مطالبات حزب الأمة القومي استنكر كيف يطالب الحزب بتغيير المفوضية وإعادة طباعة بطاقات الاقتراع وتأجيل الاقتراع معتبرا ذلك عدم جدية. وفي الحقيقة فمن جديد تتم قراءة المطالبات بطريقة تحويرية حيث لم يطالب حزب الأمة القومي بتغيير المفوضية ولكن بتكوين مجلس دولة للإشراف على أدائها، والتأجيل الذي نادى به الحزب كان لأسابيع وهو مطلب قال به مركز كارتر على أسس لوجستية وأقرت بمعقوليته حتى الولايات المتحدة الأمريكية، وأمريكا كما هو معلوم لم تخف على لسان غريشنها (الذي اتهمه كثيرون من شدة تطابق موقفه مع الجماعة أنه صار عضوا بالمؤتمر الوطني!) أنها تريد أن تتم الانتخابات السودانية بأي شكل حتى يفرغ الناس للاستفتاء وينفصل الجنوب، فهي مطالب لم يسخر منها هكذا إلا (الجماعة ديل) ومن شايعهم. وأغرب ما كان في مقال السيد الباز حديثه عن مطالبة حزب الأمة بإعادة طباعة بطاقات الاقتراع التنفيذية.. وهو الذي أكد لنا أن السيد عادل إنما كان يضع عينه على مقالنا ويكتب عن حزب الأمة القومي!
فالحزب تحدث عن أن مجلس الدولة المذكور عليه أن يتفق مع المفوضية على الضوابط اللازمة لنزاهة الاقتراع ولم يزد حرفا في كل بياناته المنشورة. وكان في مقالنا حديث مطول حول ما نراه ضوابط للنزاهة طالبنا حزب الأمة أن يتمسك بها ولا يرضى بديلا عنها، وكنا جادين وجادين جدا في تلك المطالبات ولكنها لم ترق لأن تكون مطالبات حزب الأمة لتؤخذ عليه بذلك الشكل الساخر! قلنا إن الحزب عليه ألا يرضى بأقل من إعادة طباعة بطاقات الاقتراع التنفيذية بالخارج وتحت رقابة دولية ومحلية مشهودة، وبدلا من السخرية من هذا المقترح كان على الكاتب أن يسخر من الإصرار على طباعة بطاقات التنفيذيين في مطبعة سك العملة بعيدا عن عين الرقيب الدولي (الصديق!!) والمحلي (العدو اللدود!!) مطبعة مديرها هو المهندس الكيميائي محمد حسن الباهي، هو قيادي بالمؤتمر الوطني وكان من قيادات حركتهم الإسلاموية منذ الجامعة حيث كان الأمين العام للتنظيم في منتصف سبعينات القرن العشرين كما روى دكتور عبد الوهاب الأفندي في مقاله (قبيل قراءة الفاتحة على روح ما كان يسمى بالحركة الإسلامية في السودان)، كان الباهي كذلك وزير دولة سابق بوزارة العلوم والتكنولوجيا؛ بل كان مسئولا سابقا بجهاز الأمن (الوطني)، وهو من المشاركين في حملة مرشح المؤتمر الوطني لدائرة السوكي (السيد يوسف أحمد التاي) حاليا.. فهو رجل المهمات المؤتمروطنجية (الصعبة). وطباعة البطاقات في مطبعة سك العملة بهذا الشكل "المغتغت" فتح أبواب التخرصات على آخرها، فمن متخوف أن يكون السبب هو الرغبة في اللعب التقني في البطاقة بحيث ينمحي أثر التصويت في غير خيار (الشجرة) بعد ساعات عديدة، ومتخوف آخر من أن يكون السبب هو تسليم الناخبين المشتراة ذممهم وغير المأمونين بطاقتين للرئيس وللوالي مصحح عليهما في الموضع المرغوب ليرموها في الصندوق ويسلموا البطاقتين الفارغتين بعد التصويت ليحصلوا على منافعهم المتفق عليها! ومتخوف ثالث من أن يكون السبب الرغبة في إعداد صناديق جاهزة تتبدل بها الصناديق الفعلية..إلخ. نعم لقد سمعنا شائعات كثيرة وروايات متداولة حول هذه القصة أو تلك ولعب الفأر في طرف ثوبنا.. وحتى لو لم نسمع بمثل هذه الشائعات فإن الريب لا تنفك عن مسيرة المؤتمر الوطني وتزويراته التي عضتنا ثعابينها مرارا وتكرارا وهذا ثعبان جديد وضخم بضخامة التزوير باسم شعب كامل.. فهل تخوفنا مما يجرى هو الذي يستحق السخرية أم موقف الذين يلعبون على الذقون كل هذا اللعب المكشوف، ولماذا الطباعة في مطبعة العملة بأموال مضاعفة إن لم يكن ذلك لأن المطبعة تقدم للمؤتمر الوطني ومن ثم (للمقوضية) التي تأتمر بأمره مواصفات جديدة وفرص أكبر للطبخ؟ قال الدكتور عثمان إبراهيم في مقاله المذكور "أدهشني الباشمهندس الباهي بالأمس وهو يتحدث للأجهزة الإعلامية إثر زيارتها للشركة، بأن الزمن الذي تستغرقه عملية نقل البطاقات من جمهورية سلوفينيا، لتمر عبر بحر البلطيق، مروراً ببريطانيا، حتى تصل إلي السودان قد أفضى لتفضيل شركة مطابع العملة على الجهات الخارجية للقيام بهذه العملية. لا أود الخوض في مدى صحة المعلومة التي أدلى بها، وهل له صلاحية للإدلاء بها، ولكن حديثه الحماسي ذلك مقروناً مع "لجلجة" المفوضية، يعطي انطباعاً بأن أمراً ما قد استوجب طباعة هذه البطاقات بالداخل، ضد رغبة المفوضية".
هذا الأمر تدور حوله ريب بلا عد. لأن ريبة الإصرار على الطباعة بالعملة وأن هذا من قبيل "تشجيع البضاعة الوطنية" كما ظلت المفوضية تصر، برغم الاسترابة من المسئولين المؤتمروطنجيين وبضاعتهم وهم مرشحون ينافسون الآخرين؛ تفتح ألف باب للتخرصات.. وللرفض، بل ولسخرية أمر من تلك التي سرت على قلم أستاذنا عادل!
وبالفعل، نشرت صحيفة فرنسية (والفرنسيون أحباب للانتخابات باصمون عليها فليسوا مثلنا في المعارضة يفتقدون الجدية بإزاء الانتخابات بحسب الحكم البازي) نشرت الصحيفة كاركتيرا سأل فيه الجنرال سكوت غرايشن السيد عمر البشير: هل كل شيء جاهز للانتخابات؟ فرد عليه قائلا: نعم كل شيء جاهز، حتى النتيجة! وهو كاركتير وصلت له الحكمة المحلية أيضا في كاركتير صحيفة الأخبار لأول أمس!! بل هو موقف يجد سندا شعبيا عارما.. فالشعب الذي تلهف للانتخابات واستبشر بها انقلب عشية التصويت متأكدا من أن ما يجري هو: لا انتخابات، وضاغطا على القوى الشعبية أن تقاطع طبخة نافع كما كانت هتافات دار الأمة أمسيتي السادس والسابع من أبريل. وإن لم تكن الانتخابات كما قال الهتاف التلقائي، فكيف نقرأ بالأخبار بعدد الأمس 10/4 في الصفحة الأولى الخبر "الشرطة: انسحاب الأحزاب عمل يصب لصالح الخطة الأمنية" يعلن فيه السيد محمد علي محمد الكردي القائد الشرطي بشرق النيل إنه تم توزيع أكثر من مائة مجاهد سريين على مراكز الاقتراع، وإن انسحاب الأحزاب يصب لصالح الأمن! فماذا كانت ستفعل الأحزاب سوى فضح روائح الطبخ الفائح؟ وهل صارت الشرطة تجند المجاهدين السريين أم الضباط والصف والجنود الظاهرين؟ والمفوضية تغلق فمها وتصم أذنيها!!
إن موقف المفوضية والحكومة هو الذي يستحق السخرية.. لعلنا كررنا ذلك كثيرا، ولا ضير. فالتكرار قد يجعل المغالط يقلب لحظة الأفكار، فيودع مسلماته غير المختبرة لاختبار جديد ربما يسلمها للانهيار!
وزبدة قولنا الآن وفي يوم الاقتراع هو إنها انتخابات مطبوخة طبخة متعجلة وظاهرة متروكة في العراء غشتها السوائم ودواب الأرض وفاحت روائحها الكريهة.. ليس فقط مطبات الإحصاء المتحيز، ونتوءات الترسيم المحزبن، وخروقات التسجيل المزور، وفاولات الترشيح، بل أيضا قاذورات التزوير المفضوح في الاقتراع، ليأتينا السيد البشير وجنوده هذه المرة عبر صندوق اقتراع في ظل تعددية مزورة، ليواصلوا خطاهم وخطاياهم باللجلجة في مستحقات أهل الجنوب، والانتهاكات والجرائم في دارفور، والقهر والظلم والفساد في بقية أنحاء القطر هذه المرة باسمنا نحن.. لا أيها الأفاضل أعطوا طبخاتهم النيئة الأمان الذي يطلبون.. وقاطعوها فإنها منتنة!
نشرت بصحيفة الأحداث في 11/4/2010م
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]