قالو ضيعناك يا عبود: كيف وقد قام بعاتي شيء نميري شيء البشير شيء البرهان

 


 

 

كان من عادة الحزب الشيوعي أن يصدر كتاباً أسود عن مخازي نظام عبود (أو عصابة 17 نوفمبر كما كان يسميها) قبايل احتفالات النظام بالذكرى السنوية لقيامه. ويؤسفني أنني ربما اضطر إلى تجديد شيء من ذلك التقليد هنا. فقد انزعجت لما قرأته وسمعته من أراء "وَصَمت" نظام عبود بنقاء السريرة وكريم الشمائل حتى شككنا حول مشروعية ثورة أكتوبر التي أطاحت به. ومما يؤسفني أن اضطر إلى هذا الذكر السيء للنظام ورجاله الذين طوى أكثرهم الموت وأصبحوا بين يديّ غفور رحيم. غير أنه لا حياء في التاريخ كما لا حياء في الدين.

أنا من الجيل الذي قدح فيه نظام عبود السياسة قدحاً. ولا أكن له في ذاكرتي، أو مصابرتي أو دفعي له، المعاني الإيجابية التي نسبه إليها الأستاذ محجوب محمد صالح (الأيام 25-10-2001). فقد ميزه بقوله إنه، خلافاً لنظم عسكرية تالية، تمسك بحيدة الخدمة المدنية، واستقلال القضاء، وعدم تسيس جهاز الدولة. ولا أجد لتمثيل محجوب لعصابة 17 نوفمبر صدى في نفسي.

وسأترك أكثر ما ذكره محجوب عن مزايا نظام عبود مقارنة بنظم عسكرية أخرى وأركز على نقض رأيه الذي تكرر عن حفاظ النظام على استقلال القضاء.

لا أعتقد أن أياً من شهد أكتوبر خالجه أدنى شك في صواب "تطهير" السيد أبو رنات رئيس القضاء على عهد 17 نوفمبر. فلم ينتظر أبو رنات أن يحاسب وفق إجراءات التطهير اللاحقة لأنه سقط من سدة القضاء في نفس الوقت الذي سقط فيه أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة من سدة الحكم. فقد كان أبو رنات في نظر الثائرين مفردة ركينة في النظام تبقى به وتسقط معه. وقد ورد بند استقلال القضاء ضمن بنود ميثاق ثورة أكتوبر القليلة جداً بالنظر إلى حس الناس آنذاك بأن النظام والقضاء قد أصبحا وجهي عملة واحدة.

سأمسح بسرعة هنا الشروط السياسة الظالمة التي أحدقت بعمل القضاء فهدمت استقلاله. فقد خيم على القضاء طوال سنوات النظام الست شبح قانون دفاع السودان (1960) الذي هو الجانب المظلم من قمر العدالة. ورأينا هذا القانون يُسْتَنسخ في أنظمة عسكرية لاحقة. فقد كان لنميري قانون أمن الدولة. وجاء النظام الحالي (الإنقاذ) بقانون الأمن الوطني (1991). وألقت هذه القوانين ظلها على النظام العدلي دائماً. وكرهها القضاة وقاوموها بأشكال شتى.

أبطل قانون دفاع السودان الحقوق المدنية والدستورية للمواطنين بالجملة. فعطل حرية التعبير والتنظيم وحرية التنقل. وكان المرحوم محمود حسيب (الضابط المايوي البارز لاحقاً) ضحية تقييد الانتقال إذ حُددت اقامته في مدينة كتم.

وأرسى قانون دفاع السودان ممارسات ما تزال معنا. فأقحم المحاكم العسكرية لتنظر في قضايا تطالها قوانين السودان السارية ومحاكمه العادية. كما أنه قَنّن الاعتقال التحفظي. ولم يكن بوسع القضاء ممارسة سيادته وقد خضع لذلك الاستبداد الجامع المانع ممثلاً في قانون دفاع السودان. فلم يقدر القضاء محاكمة المتهم في قضية "قتيل المقرن" الشهيرة التي اشتبه الناس أن القاتل كبير في الحكومة. فلم تنظر المحاكم في القضية حتى بعد أن أعدت نقابة المحامين عدتها لتمثل الاتهام في القضية. بل أن القضاة الشباب الذين أزكمت أنوفهم فضيحة الحكم والقانون تعرضوا للفصل لموالاتهم التحقيق حتى بعد أمر رئيس القضاء لهم بالتوقف. وكان من بين هؤلاء القضاة السيدان على محمود حسنين وعثمان خالد. ولم تنبس القضائية ورئيسها ببنت شفة.

ومما يذكر لجريدة الأيام (وكان وما يزال محجوب محمد صالح أطال الله عمره محررها المرموق) أنها من دافع عن سيادة القضاء بما لم تفعل القضائية نفسها، أو راعيها. فطالبت الأيام في افتتاحيتها (30 يناير 1959) المحكمة العسكرية التي أدانت الشفيع أحمد الشيخ ورفاقه بالسجن أن تنشر حيثياتها على الملأ. وكان جزاء الأيام من النظام وفاقا. فأوقفت وخضع محجوب عثمان، المالك والمحرر، للتحقيق معه تحت المادة 4 أ من قانون دفاع السودان.

لقد حز في نفسي أنني لم أكتب كلمة رصينة في مناسبة مرور 47 عاماً على بدء جريدة الأيام الإصدار. وقد أحسنت الجريدة إليّ كل ما جئتها أحمل أوراق الخاطر الكسير. وربما خففت كلمتي هذه عن شجاعة جريدة الأيام في ذلك الوقت الصعب حسي بالذنب لهذا القصور على أنني كتبها في معرض السجال مع محرر الجريدة.

فكانت الأيام وقرت القضاء في منعطف صعب توقيراً لم يجده ممن تقلدوا التبعة المهنية والأخلاقية الجسارة لفعل ذلك.

(للمزيد عن أبو رنات وخذلان القضاء لتبعته الدستورية أنظر الفصل الرابع من كتابي ". . . ومنصور خالد" المعنون "وقاض في الانقلاب")

IbrahimA@missouri.edu
/////////////////////////

 

آراء