قانون الصحافة ومآل الاستبداد
أصبح الحديث عن قانون الصحافة والمطبوعات، في السودان، في العقد الأخير مشابهًا لـ "حجوة أم ضبيبينة"، التي يُعاد تكرارها في مسارٍ دائريٍّ لا ينتهي. فنظام الحكم القائم الآن، الذي عجز، عجزًا مزريًا، في كل مجالٍ من مجالات الإنجاز، منذ أن جاء قبل ثمانية وعشرين عاماً، واستمر في مراكمة العجز، إلى هذه اللحظة، لم يجد وسيلةً يغطي بها سوءته المنكشفة، على الدوام، سوى الدثار بالقوانين الجائرة؛ مثال: قانون الصحافة والمطبوعات، وقانون النظام العام، وغير ذلك من القوانين غير الدستورية.
ينسى كثيرون، ممن يجري اجتذابهم إلى أتون هذه الدوامة المضللة، من الجدل مع الحكومة، التي تستهلك الجهد والوقت، دون طائل، أن نظام الحكم الذي يريد أن يضع قانونًا للصحافة والمطبوعات، أو قانونًا للنظام العام، أو أي قانون آخر، هو في الأصل نظام حكم غير شرعي. بعبارة أخرى، هو نظام حكم غير دستوري وغير قانوني، لأنه جاء إلى دست الحكم غصبًا، فارضًا نفسه على شعوب السودان، بقوة السلاح. فهو قد قوّض الدستور، ابتداءً، وأجهض حكم القانون، بل وأصر، في كل صغيرة وكبيرة، على ألا يجعل حكم القانون ممكنا. وبناءً عليه، فإن كل ما يحاول الإتيان به، من تشريعات، ليست في الحقيقة سوى تشريعاتٍ باطلة. بل هي لا يمكن أن تكون إلا باطلة، لأن ما بُني على باطلٍ، فهو باطل. هو باطلٌ شرعًا، وفقا للمفاهيم الاسلامية الأصيلة، التي تكفل، حق إبداء الرأي، ابتداءً. كما هو باطلٌ، دستورًا وقانونًا، وفقًا لخلاصات ما وصلت إليه البشرية في أمر الدستور والحقوق الديمقراطية. وما وصلت إليه البشرية من أسس لحفظ لكرامة الإنسان، وصيانةٍ حقوقه، متماشٍ تمامًا مع جوهر الفكرة الإسلامية.
الحقوق الدستورية الأساسية، هي حق الحياة، وحق الحرية. ولا تجري مصادرة هذين الحقين إلا بقانونٍ، بشرط أن يكون القانون، قانونًا دستوريًا. والقانون الدستوري، هو القانون الذي يحفظ الحقوق الأساسية، بتنظيمه للعلاقة بين الفرد والجماعة، دون إفراط، ودون تفريط. والجماعة يمكن أن تعني، أيضًا، الحكومة، خاصة في الأنظمة الديمقراطية، لأن الديمقراطية هي: حكم الشعب، بواسطة الشعب، لمصلحة الشعب. فالجهاز التشريعي الذي هو أحد أذرع الحكومة، يبقى مقيدًا بالدستور وبالقانون، وبالقضاء المستقل، الذي يحرس الدستور ويطبق القوانين على الجميع، بلا استثناء. وكل ذلك لحفظ حقوق الأقلية من التغول عليها بواسطة الجماعة. فالدستور هو الذي ينظم العلاقة بين الفرد والجماعة، ويحرس حق الأقلية في الاعتراض على حكم الأغلبية، ويكفل لهم، من ثَمَّ، حقهم في التنظيم، وفي العمل ضد حكم الأغلبية، من أجل تغييره، بمختلف الوسائل السلمية.
حق الاعتقاد، وحرية الضمير، وحق التنظيم، وحق التعبير عن الرأي، حقوق أساسية، بل هي حقوق مقدسة، لأنها في الأصل هبةٌ ربانيةٌ مُدغَمةٌ في قصة الخلق ابتداءً. وهي بهذا، ملازمةٌ للوجود الانساني منذ مبتدئه. فالسلطة السياسية لا تملك حق منحها ولا تملك حق انتزاعها، اللهم إلا في ظل أنظمة الحكم الاستبدادية الغاشمة.
يضاف إلى ما تقدم، أن كل صور التعبير الحر، مكفولةٌ للبشر. فبالإضافة للتعبير المتعلق بالعمل السياسي، هناك، أيضًا، التعبير عن المشاعر، والرؤى، سواءً بالكتابة الابداعية، أو الفن التشكيلي، أو التأليف الموسيقي، أو الرقص، أو الأعمال الدرامية، أو السينما، إلخ. وليس من حق أي نظام حكمٍ، أن يأتي بقوة السلاح ويفرض على الناس، ما يراه، لمجرد أنه يحتكر حق استخدام العنف.
حالتنا الإنقاذية الراهنة، جاءت نتيجةً لاعتناق لفيف من طلاب الثانويات والجامعات، قُبيْل منتصف القرن الماضي، لأيديولوجيةٍ تبسيطية، متطرفةٍ، استكبرت، جهلاً، على الأعراف التاريخية السائدة، وعلى ما طورته الثقافات المحلية السائدة من قيمٍ، عبر القرون، وما صنعته من محدداتٍ للذوق السليم، والتفكير المستقيم، والمسلك المعتدل. ويمكن القول، دون أدنى مواربة، أن حكم السودان، عبر الثمانية وعشرين عامًا الماضية، انطلق من منصة أزماتٍ نفسيةٍ حادةٍ، عصفت بأفئدةِ قلِّةٍ منعزلة، مأزومة، ولم ينطلق من منصة الدين، أو الروحانية، كما روج لذلك المرجفون. وأقوى الأدلة عندي على ذلك، هو هجر هؤلاء لمشروعهم، لحظة أن وقعت السلطة في أيديهم، فعميت أعينهم عن رؤية فضاءات الحق، والخير، والجمال، إذ أعشى نواظرهم الكليلة بريق السوق، فانغمسوا في رذائله، بنهمٍ خرافي.
وزارة الإعلام التي تمنح نفسها سلطة التوجيه، ووضع حدود التعبير عن الرأي ورسم الخطوط الحمراء، لا توجد إلا في الأنظمة الديكتاتورية. فالسيطرة الإعلامية المطلقة هي سمةٌ تنفرد بها الأنظمة الفاشية والأنظمة الشيوعية. ووزارة الإعلام بمختلف مسمياتها التي عرفناها بها في السودان، لم تكن سوى بوقٍ حكومي. وحقيقة الأمر، لا محل لوزارة الإعلام، في الأنظمة الديمقراطية. وقد كانت لنا وزارة للإعلام منذ الاستقلال شابهت طريقة توظيفها في ظل أنظمتنا الديمقراطية، ما تفعله الأنظمة الديكتاتورية. ولا غرابة، فالعقل الديمقراطي، لدينا، لم يكتمل تخلُّقُه بعد. فمن يصل منا إلى السلطة، يريد أن يكون صوته هو الصوت الوحيد المسموع. ولكن، من الانصاف أن نقول إن سوء استخدام وزارة الإعلام في الأنظمة الديمقراطية أقل وبما لا يقاس، عن سوء استخدامها في الأنظمة الديكتاتورية. فقد أُسيء استخدامها في عهد الفريق عبود، وفي عهد المشير نميري. أما ما وصله سوء الاستخدام، لهذه الوزارة، وأذرعها، في ظل نظام الحكم الحالي، فلا شبيه له. فقد تحولت إلى ذراع من أذرع جهاز الأمن، وهو جهاز أضحى مطلق السراح. إذ أضحى المُشرِّع، والمُنفِّذ، والقاضي.
يجب أن يتجه الجهد، فيما أرى، صوب المطالبة بإلغاء هذه الوزارة، ابتداءً، والاكتفاء بوزارةٍ للثقافة والتراث. وتبقى وزارة الخارجية هي المنصة الإعلامية للدولة، كما هو الحال في النظم الديمقراطية. وإنني أجزم أن النهوض لن يحدث ما لم يخرج الإعلام، كليًا، من قبضة السلطة. وتبقى قانون العقوبات هو الرقيب على الأداء الإعلامي المملوك للأفراد أو للجماعات. ومن يتضرر منه، سواء من الأفراد، أو من المؤسسات الحكومية، أو الأهلية، يمكنه اللجوء إلى القضاء. فالوضع الطبيعي هو أن يُترك الناس يتصرفون، ويتحملون مسؤولية تصرفهم أمام القانون، لا أن يُمنعوا ابتداءً، من التصرف، خشية إساءة التصرف. فهذه وصاية جاهلة، لأنها مُقيِّدة، ومُعطلة لخاصية مهمة، هي خاصية التعلم من الخطأ.
لا أعرف حكومة ترسل ضباط الأمن لقراءة الصحف، وهي في المطبعة، بصورة روتينية، كما تفعل حكومتنا هذه. ولا أعرف حكومة، لا يمر بضعة أيام، إلا وتصادر جريدة، أو تعلق صدورها، مثل حكومتنا. ولا أعرف حكومة احترف جهاز أمنها استدعاء الصحفيين، كل يوم، وآخر، وحبسهم، والتحقيق معهم لساعات طويلة، كما تفعل حكومتنا. ولا أعرف جهاز أمن أدمن جرجة الصحفيين في سوح القضاء، كما يفعل جهاز أمننا. عجز نظام حكم الانقاذ، الذي طال أمده في السلطة، عن الانجاز، وأيقن، في قرارة نفسه، هذه الحقيقية، انصرف عن واجب الجلوس مع شعبه، للتشاور الصادق، المخلص، حول مخرج من هذا النفق المغلق المظلم، وحوّل جهده إلى مزيدٍ من التكميم لأفواه الناس. لكن ما فات عليه، أنه مثلما عجز عن الانجاز، في إدارة مصالح الناس، فسوف يعجز عن تكميم أفواههم. فخاصية العجز، حين تسيطر، لا تستثني شيئا، وإنما ستصبغ كل شيءٍ بصبغتها. وهناك، ولله الحمد والمنة، التكنولوجيا التي أصبحت تدق كل يوم جديدٍ، مسمارًا آخر في نعش الأنظمة الاستبدادية. فأين المفر أيها المستبدون؟
elnourh@gmail.com