قراءة تحليلية لقرار الجنائية حول الإبادة الجماعية … بقلم: كمال الدين بلال

 


 

 

kamal.bilal@hotmail.com

 

سنحاول استقراء قرار دائرة الاستئناف بالمحكمة الجنائية الدولية الأخير ومغزى إصرار المدعي العام «لويس مورينو أوكامبو» توجيه تهمة الإبادة الجماعية للرئيس السوداني «عمر البشير». فقد قبلت المحكمة الاستئناف الذي قدمه «أوكامبو» ضد قرار الدائرة التمهيدية بعدم توجيه تهمة الإبادة الجماعية للرئيس وأبطلته وأرجعت أوراق القضية للدائرة التمهيدية وطلبت منها إعادة النظر في قرارها السابق ووجهتها باتخاذ قرار جديد بدعوى أنها وقعت في خطأ في تطبيق القانون متعلق باتخاذ (قواعد غير سليمة للأدلة). ويعني قرار دائرة الاستئناف ضمنياً توجيه الدائرة التمهيدية بتضمين تهمة الإبادة الجماعية لأمر القبض الصادر في حق الرئيس. وبالنظر إلى الطريقة التي خرج بها قرار دائرة الاستئناف يتضح لنا أنها نظرت في استئناف المدعي العام وكأنه طعن قانوني أمام محكمة نقض أكثر منه طلب استئناف، وللتوضيح فإن محكمة النقض تختص بالنظر في صحة تطبيق المحكمة للقانون دون الخوض في الوقائع. وقصدت المحكمة بالخطأ القانوني الذي وقعت فيه الدائرة التمهيدية معيار الإثبات المطلوب لتوجيه تهمة الإبادة الجماعية. ومعنى هذا أن الدائرة التمهيدية رفعت من مستوى عتبة الإثبات المطلوب لتوجيه التهمة إلى درجة أعلى مما تتطلبه المادة (58) من نظام روما الأساسي. وكما هو معلوم من القانون بالضرورة فإن مستوى الإثبات المطلوب لتوجيه التهمة أضعف بكثير من مستوى الإثبات المطلوب لضمان إصدار إدانة من المحكمة. وقد يسأل سائل عن سبب عدم توجيه دائرة الاستئناف بنفسها تهمة الإبادة الجماعية للرئيس. والرد يرجع نظرياً إلى أن دائرة الاستئناف لا ترغب في القيام بدور محكمة النقض ومحكمة الاستئناف في نفس الوقت، وإذا قامت بذلك تكون قد (جمعت بين الأختين) الفقه القانوني الإنجليزي والفرنسي.

ننتقل الآن للدافع العملي والحقيقي في ظني للمحكمة بحصر دورها في دور محكمة النقض، فقد هدفت المحكمة من ذلك إلى كسب الوقت وجعل القضية حية في وسائل الإعلام والأجندة الدولية لأطول وقت ممكن، وذلك عبر توجيه التهم بالقطاعي وليس جملة، كما يفعل الطبيب في تحديد جرعات الدواء المناسبة لضمان عدم وفاة المريض متأثراً بالآثار السلبية للدواء، فإذا أصدرت المحكمة قراراً بتوجيه تهمة الإبادة الجماعية في هذه المرحلة تكون قد أغلقت الملف في انتظار بدء المحاكمة والتي لن تبدأ إلا بتسليم المتهم لنفسه أو إلقاء القبض عليه، وذلك لكون المحكمة لا تجري محاكمات غيابية وفقاً لميثاقها. وعليه تفضل المحكمة اختيار توقيت أكثر ملائمة لتوجيه التهمة، ربما قبل الانتخابات الرئاسية في أبريل القادم ومؤتمر المراجعة الأول لميثاق روما المؤسس للمحكمة المقرر انعقاده في العاصمة الأوغندية كمبالا في شهر مايو القادم، خاصة وأن اختيار دولة أفريقية لعقد المؤتمر له دلالات مهمة تهدف لتأكيد أن المحكمة لا تستهدف القارة الأفريقية. 

سبق وأشرنا في مقال سابق إلى أن كثيراً من منظمات حقوق الإنسان الدولية، انتقدت اكتفاء «أوكامبو» بتوجيه تهمة تجنيد أطفال ضد المتهم الكنغولي «توماس لوبنغا» بالرغم من وجود أدلة تشير إلى تورطه في جرائم قتل واغتصاب. وقد اعتبرت تلك المنظمات، أنّ اكتفاء المدعي العام بتوجيه تهمة واحدة للمتهم وإغفال بقية التهم قصد منها «أوكامبو» تسهيِل مهمة الإثبات على نفسه. ومن الملاحظ أن «أوكامبو» غير إستراتيجيته تلك عند تعامله مع قضية الرئيس السوداني فأصر على توجيه تهمة الإبادة الجماعية بالرغم من صعوبة إثباتها عمليا لاستصدار إدانة بها، هذا إضافة إلى أن المحكمة وجهت سبع تهم للرئيس أي منها في حالة ثبوتها  كفيلة باستصدار عقوبة السجن المؤبد، هذا مع العلم بأن المحكمة لا تطبق عقوبة الإعدام.

يدرك أوكامبو جيداً أن توجيه تهمة الإبادة الجماعية للرئيس السوداني ستحقق مكاسب كبيرة للمحكمة حيث ستقوى موقفه أمام مجلس الأمن الدولي في مطالبته بفرض مزيد من العقوبات على السودان ورفع مستوى التعاون بين الأمم المتحدة والمحكمة، كما ستمكن مجلس الأمن الدولي من الضغط على الدول غير الأطراف في ميثاق المحكمة لتضييق الخناق على الرئيس السوداني بدعوى ضرورة تحرك الضمير العالمي ضد مرتكبي جريمة الإبادة الجماعية التي تمنح اختصاصاً قضائياً عالمياً إلزامياً لكل الدول الأطراف في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها لعام (1948)، حيث يبلغ عدد الدول الأطراف في الاتفاقية (141) دولة من ضمنها دول كثيرة ليست أطرافاً في المحكمة الجنائية من ضمنها الولايات المتحدة الأمريكية و (13) دولة عربية من ضمنها السودان الذي انضم للاتفاقية في أكتوبر (2003) دون أي تحفظات (والمفارقة أنه نفس توقيت بدء النزاع المسلح في دارفور). وقد رسخت مبادئ تلك الاتفاقية مفهوم التدخل لوقف عمليات الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها أمام المحاكم الدولية أو الوطنية، وهذا يعني عملياً إلزام أية دولة طرف في تلك الاتفاقية يقوم الرئيس السوداني بزيارتها بإلقاء القبض عليه ومحاكمته أمام محاكمها الوطنية أو تسليمه للمحكمة الدولية. وقد رسخت محكمة العدل الدولية في حكمها  في قضية البوسنة والهرسك ضد جمهورية يوغسلافيا هذا الفهم بقولها (إن ولاية القضاء الوطني في مكافحة جريمة الإبادة الجماعية لم تحدٌه الاتفاقية جغرافياً، وعليه فإنه من واجب كل الدول الراقية وبغير سابق الالتزام باتفاقية منع جريمة الإبادة، متابعة ومحاكمة كل المتهمين بارتكابها). كما عززت المحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا السابقة هذا المبدأ بتأكيدها (أن واجب الملاحقة القضائية الوطنية لجريمة الإبادة الجماعية تفرضه قواعد العرف الدولي). وقد سبق وعبر عن هذا الفهم وزير الدفاع الألماني بقوله تعليقا على ما يجرى في دارفور:(لا يمكننا أن نبقى متفرجين عندما تكون هناك إبادة جماعية ترتكب في مكان ما على الكرة الأرضية).

توجيه المحكمة لتهمة الإبادة الجماعية إلى أي نظام تفرض على الأمم المتحدة التحرك لوقفها أو معاقبة مرتكبيها، وقد عيّن مجلس الأمن في أبريل (2004) مستشاراً خاصاً للأمين العام للأمم المتحدة معني بمنع جريمة الإبادة الجماعية، ويشغل هذا المنصب منذ مايو (2007) السوداني «فرانسيس دينق»، حيث يحق له ضمن صلاحياته الحصول على أية معلومات ضرورية من هيئات الأمم المتحدة المختلفة، ويفتح هذا الباب للتعاون غير المحدود بين الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية فيما يتعلق بتبادل المعلومات المرتبطة بتلك الجريمة. وهو الأمر الذي سبق وأزم العلاقة بين الحكومة السودانية وبعثة الأمم المتحدة حين تم الكشف عن بعض المراسلات بين المنظمة والمحكمة. وضمن الاستعدادات لتكثيف التعاون المشترك بين المحكمة والأمم المتحدة، كشف الموقع الالكتروني للمحكمة أن «باتريسا اوبراين» مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون القانونية قامت بزيارة رسمية إلى مقر المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي قبل أسبوع من صدور قرار دائرة الاستئناف، والتقت برئيس المحكمة القاضي «سانج هيون» والمدعي العام للمحكمة «لويس أوكامبو»، حيث ناقشوا التعاون الاستراتيجي بين الأمم المتحدة والمحكمة في ظل اقتراب موعد انعقاد مؤتمر المراجعة الأول لميثاق المحكمة، كما تناولوا بالنقاش القضايا التي تنظر فيها المحكمة. والجدير بالذكر أن الطرفين تجمعهما اتفاقية تعاون مشترك تم التوقيع عليها في العام (2004).

 

لاهاي

 

آراء