قراءة في أحداث واشنطن ونيويورك
بسم الله الرحمن الرحيم
انفصال، أم انفصال، أم انفصال، أم وحدة؟ (4-5)
في هذه المقالات تتبعنا بعض ما دار في واشنطن في الجمعة الأولى 17/9، ثم في نيويورك في الجمعة الثانية 24/9، مركزين على بعض الخطابات الملقاة وبعض ما رشح مما دار في نيويورك من طلاق بين واشنطن والخرطوم. في هذه المقالة نمرر على نقاط أثرناها سابقا ولم نفصل حولها الرأي، بأمل المواصلة في عرض خطاب أوباما في 24/9 في الحلقة القادمة بإذن الله.
كنا قد أوردنا في ثالث حلقات هذه الخماسية ما جاء في مقالة الأستاذ خالد التجاني النور بعنوان (ما بعد نيويورك.. حان وقت القرار الأصعب) وقوله إن الجديد في اجتماع نيويورك هو جلاء حقيقة مساندة المجتمع الدولي وعلى رأسه أمريكا للانفصال. قلنا إن هذا لم يشكل أخبارا جديدة. كان من المعلوم سلفا، في كل الخطوات التي قام بها المجتمع الدولي أنه ينتظر الاستفتاء بصبر نافد. في التصريحات حول الانتخابات كان كل متحدث (دولي) يذكر نقطتين: أن الانتخابات تمت بسلام، وأن الاعتراف بها مطية للاستفتاء، وقد قال بمنعرج اللوى حينها كثير من الوطنيين إن هذا خطل وخطر، وسيلقي بظلاله على الاستفتاء، فالاستفتاء الذي يجرى بشكل مختلف عليه كما الانتخابات سيكون باب حرب ودمار، ثم ها هو ضحى الغد يأتي، ولا زال الأمر غامضا لدى كثيرين! قال دريد بن الصمة:
أَمَرْتُكُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى فَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلَّا ضُحَى الْغَدِ
فَلَمّا عَصوني كُنتُ مِنهُم وَقَد أَرى غِوايَتَهُم وَأَنَّني غَيرُ مُهتَدِ
وَهَل أَنا إِلّا مِن غَزِيَّةَ إِن غَوَت غَوَيتُ وَإِن تَرشُد غَزيَّةُ أَرشَدِ
وبتخريج آخر، إذا كان من بيدهم أمر غزية (السودان) في غيه، فسنغوي كلنا، وإن يرشدوا نرشد! الأحباب بروفسر الطيب زين العابدين والأستاذ صبري الشفيع ينطقان بلسان واحد، هو لسان (دريدٍ) عند منعرج اللوى: لا بد أن نتوحد في مواجهة مخططات المجتمع الدولي. سنستعرض في الحلقة القادمة بإذن الله ما قاله الشفيع الذي طالب بتوحد الشمال حكومة ومعارضة أمام الجنوب، ولم نستسغ طلبه ذاك لأن الذي "طفّش" الجنوب ووضعه في المعسكر المقابل هو ذاته الذي "يطفّشنا" وغالبية أهل السودان. لكن دعوة زين العابدين تبدو أقرب للمطلوب. في مقاله (السودان بين النفق المظلم والمستقبل المجهول) قال إن اجتماع نيويورك كشف للحكومة أنها تقف معزولة في الساحة الدولية وقال إن "المطلوب من المؤتمر الوطني على عجل أن يراجع كل سياساته وتحالفاته وحساباته الفاشلة وتنازلاته المهينة حتى يستعيد للدولة هيبتها وكرامتها، وأن يدرك ألا بديل لقوة الجبهة الداخلية وتماسكها في مواجهة الأعداء المكشوفين والمتسترين".
نعم إن دعوة زين العابدين –دعوةُ دريدٍ بمنعرج اللوى- مطلوبة أكثر الآن وهي تحدد كيف ترشد غزية حتى لا نغوي أجمعين!
وقبل أن نذكر كيف ترشد غزية، فإننا نحب أن نثبت أن المؤتمر الوطني (وبيده أمر غزية) كان يعلم بحتمية الانفصال تحت الإجراءات الماثلة بل لقد سعى إليه بظلفه يوم استبدل فكرة (جعل الوحدة جاذبة) بواقع جعل الجنوبيين يتمنون الفرار، وكان المؤتمر الوطني يعلم بغرض المجتمع الدولي في الانفصال، والمؤتمر الوطني وقّع على بروتوكول أبيي وعلى لجنة الخبراء وبعض أعضائها يسفرون نحوه العداء؟ والمؤتمر الوطني هو الذي طالب بمحكم محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي وهو يعلم أنه ليس حبيبا للمجمع الدولي؟
لماذا صنع ذلك يا ربي؟ هل لأنه يريد أن يضر نفسه؟ لا ولكن المؤتمر الوطني يعمل بعقلية المقطوعيات: السلام بالقطاعي هي الإستراتيجية المفضلة في عقد الاتفاقيات، والتنصل بالقطاعي هي الإستراتيجية المفضلة في تنفيذ تلك المقطوعيات! لعب المؤتمر الوطني هذه اللعبة طويلا ونجح في أن يبقى على سدة الحكم أكثر من خمس قرن حتى الآن، فمنذا الذي يقنعه بأنه قد استنفد كل الفرص التي تتيحها هذه (الإستراتيجية) المبنية على التكتيك، بدون رؤية إلا: حاور واكسر واعمل "فاول"، ولا رسالة إلا البقاء على سدة الحكم، ولا مشاركة إلا لثلة قليلة من المحاسيب الذين يمسكون بخناق الوطن، ولا مصداقية إلا في التمسك بالسلطان، ولا هدف إلا البقاء على الكرسي، وهكذا!
لدينا دليل أن المؤتمر الوطني لم يأبه لأمر الوحدة حتى بعد أن سمعنا خطو سنابك الانفصال. وهو أن مفاوضات الشريكين على قضايا ما بعد الاستفتاء في ميكلي (يونيو 2010م) والخرطوم والقاهرة ولجانها الأربع، تضع الأولوية للانفصال. بل لقد رفض المؤتمر الوطني مطالبة الحركة الشعبية أن تدرج القضايا وتناقش في حال الوحدة كما صرّح الأستاذ علي عبد اللطيف القيادي في الحركة الشعبية أمام سمنار (تحديات المواطنة ما بعد الاستفتاء) الذي نظمته جامعة الأحفاد للبنات في يوم 25 سبتمبر الماضي، ولنا له عودة بإذن الله!
وهذا يقودنا لنقطة أخرى في مقال الأستاذ خالد التجاني المذكور وهي قوله إن أوان الحديث عن الوحدة قد ولى، وطالما أن الانفصال كسب غطاء دوليا فلنصمت عن حديثِ التوحّد! وأيا كان فهم الكاتب لهذه المعادلة فإننا نرى ألا يكون موقفنا من الوحدة والانفصال وفقا لما يرشح من المجتمع الدولي وغطاءه المسدول، وأن نسعى دائما لأن نقود المجتمع الدولي نحو رؤانا حتى لو أصر واستكبر وأبى، وذلك عبر الدبلوماسية والقوى الناعمة فلا يحددن المجتمع الدولي لنا أجندتنا الداخلية ولا يفرضن علينا حلوله، وهذا هو معنى أن نملك قرارنا الوطني! إنه ليس كلاما إنشائيا صدقوني! إن الهرولة نحو الانفصال من الأخوة الجنوبيين ليست في الأصل بسبب خارجي، الخارجيون فقط لعبوا على تناقضاتنا وأدخلوا مصالحهم وأجنداتهم، وكما قال الأستاذ عبد الرحمن الراشد في صحيفة الشرق الأوسط بمقاله المعنون "السودان للبيع": إن الانفصال مشروع جنوبي للهروب من الجلاد وليس طلاقا من الدولة السودانية نفسها.
الوقت تأخر، تأخر كثيرا. وهذا اليأس الذي دب في نفس د. خالد كان قد وجد طريقه إلينا ونحن نستمع لخطابات الأحباب في الجنوب من كافة المشارب حتى طال الأمر دعاة الوحدة الذين هللنا لهم لأنهم برآء من كشكشة الخرطوم، أمثال الدكتور توبي مادوت، ولكن لا حياة مع اليأس! ولذلك فعلى عكس توصية الأستاذ خالد، نريد أن نعطي ولو أمل ضئيل للوحدة، ليس بيعا للوهم والأكاذيب والمؤمن لا يكذب، ولا بالحشود والعواطف، بل يقينا بأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، فهناك أمل لو وقفنا وقفة امرئ وامرأة واحدة، وهذا يعني إما أن يستطيع أهل السودان إزاحة المؤتمر الوطني، والمشروعات الحالية أمثال "الجبهة العريضة" لا نرى لها من كبير أمل مثلما نرى حولها من كبير مخاطر. وإما أن تتغير أجندة المؤتمر الوطني في التفاوض، وأن يغير أساليبه في التعامل مع القضايا الوطنية. وقد قلنا إنه أتقن الاتفاق بالقطاعي والتنصل بالقطاعي زوغانا، وفي كل مرة لم تكن الجرة تسلم تماما ولم تكن كذلك تنكسر تماما، في كل مرة ينقص المؤتمر الوطني من أطرافه بل من أطراف الوطن: جنود أجانب في كل الأطراف والجهات، وفي قلب الخرطوم، والمؤتمر الوطني يقول لنفسه: لا مشكلة طالما ظل (القصر الأبيض) سالما، و"لو سلم العضم، اللحم بلم".. لكن ذلك اللحم لم يلم أبدا.. من يقنع المؤتمر الوطني أن الأمر هذه المرة جد خطير؟ وأن الأساليب القديمة لن تجدي ولو أجدت في قهر المعارضين لن تجدي في وقف طاحونة التمزق وضياع السيادة والانهيار أو الهاوية؟
بإمكان المؤتمر الوطني أن يستمر يستمع لأقوال بعض مسئوليه من أن الانفصال لن يؤثر علينا بشيء فالرزق على الله كما قال كرته، أو يستعد بحشد الشباب للقتال كما قال –للغرابة- الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، أو يعمل على تخويف الجنوبيين من الانفصال ويقول لهم لن تنالوا حقنة منقذة للحياة في مستشفيات الشمال كما قال الدكتور كمال عبيد. ولكن هذا ليس هو الحل. ولا حشد الجيوش في حدود الجنوب هو الحل.
إننا من الصنف الذي سيموت وفي نفسه شيئٌ من الوحدة! تماما كسبويه و"حتى"! كيف نجعل لها فرصة في أيام قادمات حين لا تكون "غزية" في غيها! أما كيف نعمل للوحدة الآن؟ فهذا أمر دونه خرط القتاد! هل يستطيع المؤتمر الوطني أن يفكر في عرض جديد للجنوبيين؟ عرض تغير الدولة فيه إهابها الأحادي الهوية وتعترف حقا وصدقا بالتنوع وتحترم أهل كل الثقافات وأهل كل الأديان، وتعتذر عن العنصرية ولا تستخف بمراراتها كما استخف كرته في حديثه لصحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 27/9؟ هل يستطيع أن يقول للجنوبيين حتى لو قررتم الوحدة فإننا سنعطيكم بترولكم كله اللهم إلا ما تدفعونه لقاء ترحيله واستخدام خط الأنابيب؟ هل يستطيع المؤتمر الوطني أن يؤكد كفالة الحريات وحقوق الإنسان وأن إعلام الدولة سيكون ملكا للدولة كلها لا لحزبه ومنسوبيه؟ هل يستطيع أن يعطى أولوية لنقاش حالة الوحدة في قضايا وإجراءات ما بعد الاستفتاء، ذلك لأن الوحدة تحت المعادلة الحالية لن تجدي. لا بد من تغيير كل ما نفـّر الجنوبيين وما نـفـّر أهل الشمال ذاتهم.. ببساطة هل يستطيع المؤتمر أونطجي أن يكون مؤتمرا وطنيا؟
قد يقول قائل إن الجنوب ليس فيه حريات فلماذا نراها من مكونات الوحدة الجاذبة؟ صحيح يغط الجنوب مثلنا في الشمولية، ولكن إذا حقق الشمال حرية فستكون المقارنة لصالح الوحدة بشكل كبير، هذا علاوة على جعل السودان جاذبا للباقين من أهله الذين صار كل طرف يفكر في أن يستأثر بأرضه ويفر، البعد ولا البلاد أم سعد!
كل هذا معناه أن يفكّر المؤتمر الوطني بجدية في توحيد الجبهة الداخلية، وهو توحيد لا يستثنى منه الجنوبيون كما في روشتة الأستاذ صبري الشفيع. الجنوبيون فيهم وطنية فهم ليسوا محض أراجوزات للغرب، وفي بعضهم كما في بعض الشماليين مشاعر وحدوية عميقة وإن قبرتها التصرفات الرسمية ولم تجعل لها منفذا، والغرب فالحٌ في اللعب على التناقضات من أجل مصالحه.. ماذا يقول دائما الإمام الصادق المهدي بلسان نزار قباني؟ يا سادتي لم يدخل الأعداء من حدودنا.. لكنهم تسربوا كالنمل من عيوبنا!
أول ما ينبغي أن تتفق عليه هذه الجبهة المتحدة هو ضرورة تعديل الاتفاقية للنص على تكرر الاستفتاء كل عشرة سنوات مثلا! وثاني الأشياء، الاتفاق حول الصيغ الممكنة لترجيح خيار الوحدة للناخب الجنوبي- بترول الجنوب للجنوب- البروتوكول الثقافي والديني- القسمة الإعلامية العادلة- الحريات وحقوق الإنسان..الخ. وثالثها كيفية حل قضية دارفور ومسألة المحكمة الجنائية الدولية بشكل متراضى عليه يضمن رقبة الوطن، إن الناخب الجنوبي ليفر فرارك من الأجرب مما يدور في دارفور، وما تجره هذه القضية على الدولة السودانية من غضب دولي، بينما دولته مرضي عنها فلماذا يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ ورابعها- الاتفاق على إجراءات التوأمة في حالة الانفصال، وذلك يشمل الحديث عن قضايا المواطنة والجنسية (وهو أمر لنا له عودة بإذن الله)، وقضايا النفط والحدود، وقضايا الديون الخارجية، وقضايا النازحين والطلبة والسجناء والمياه وغيرها.. فكما يقول الأستاذ ياسر عرمان: لو انفصل الجنوب فلن يكون جنوب كمبوديا، ولا الشمال سيكون شمال أفغانستان! سيكون الجنوب جنوب السودان والشمال شماله!
صحيح إن الانفصال راجح وراجح للغاية، ولكن السؤال.. هل بحرب أم بسلام؟ المعادلة الحالية تجعل الحرب نتيجة الحالين: الوحدة أو الانفصال. معادلة صفرية. لو أجري الاستفتاء في موعده وكان مختلف عليه والنتيجة وحدة سيسعى الجنوب للحرب، ولو كان مختلف عليه والنتيجة انفصال سيسعى الشمال للحرب! ولو تأجل الاستفتاء ستنشب الحرب: حرب، حرب، حرب!
فكيف نحوّل هذه النقمة الحتمية إلى نعمة ممكنة؟ كيف نجعل السلام هو الناتج في الحالين سواء وحدة أم انفصال؟ كيف نجعلها معادلة كسبية، طرفاها قريري العينين. بحيث يكون الاستفتاء متفق عليه تجريه جهة متفق عليها (الأمم المتحدة)، وترتيبات ما بعده واضحة في حالتي الوحدة والانفصال.. هل ذلك ممكن؟ وهل هذه المطالب محترمة بالأصل لدى حكامنا اليوم أم هي بنظرهم كما كانت مطالب المتمنية والتي سمعها سيدنا العادل عمر بن الخطاب تقول:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها؟ أم من سبيل إلى نصر بن حجاج؟
والغريبة أن عمراً (رض) لم يتهم المرأة، بل سأل عن نصر وعلم بجماله فأمر بحلاقته فإذا به أحسن منظرا فوجه بنفيه عن الأرض لكيلا يفتن نساء المسلمين! ونخشى ما نخشاه أن تكون هذه المطالب هي في مقام تلك بالنسبة لماسكي زمام السودان الآن، فنتهم في وطنيتنا ويقال إننا نثير الكراهية ضد الدولة، أما أمنياتنا فإما تُزهق أو تستبعد، لئلا نجد أمنية جميلة في زمان الشهيق والمهوى السحيق، هذا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نواصل بإذن الله،
وليبق ما بيننا.
نشرت بصحيفة الأحداث في 12/11/2010م
مع بعض التعديلات أجرتها الكاتبة في النسخة الإلكترونية.
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]