قراءة في تشكيلة حكومة البشير القديمة/ الجديدة

 


 

 

 

لا أعرف حكومة في عقد الإنقاذ الأخير أصابت الموالين والمعارضين بالإحباط والدهشة مثل ما حدث عند إعلان حكومة محمد طاهر إيلا في يوم الأربعاء الماضي (13 مارس)، فقد وُعد الشعب في خطاب إعلان الطوارئ بحكومة كفاءات وطنية تستجيب لقدر من احتجاجات الشباب التي عمّت المدن والقرى في أنحاء السودان المختلفة. ولم أجد في الحكومة كفاءات وطنية تذكر ولا أدنى استجابة لمطالب المحتجين، بل العكس هو الصحيح أنها جاءت مستفزة لمطالب الشباب وكأن القصد منها هو (منازلة رجولية) في الشارع بين الحكومة والشباب! اتسمت الحكومة مثل سابقاتها بأنها حكومة محاصصة من الدرجة الأولى فقد بلغ عدد الوزراء الذين يمثلون تحالف الحكومة أكثر من عشرين وزيرا من جملة 39 وزير، يمثلون المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي والاتحادي الديمقراطي الأصل والاتحادي الديمقراطي المسجل وقيادات الحركات المسلحة التي عقدت اتفاقيات سلام مع الحكومة ومجموعة شركاء مؤتمر الحوار الوطني، كما أنهم جميعاً يتمتعون بثقة الرئيس الشخصية لأنهم انحازوا إليه ولو ضد رغبة حزبهم أو الانشقاق عنه! فان لم تكن هذه هي المحاصصة بعينها فما هي المحاصصة؟ ويغلب على هذه الحكومة اختيار الرئيس شخصيا لوزرائها خاصة الوزراء الاتحاديين. والسؤال المهم هو لماذا فعل الرئيس ذلك مع اتساع رقعة الاحتجاجات الشبابية وانسداد الأفق لحل المشكلتين الاقتصادية والسياسية وتطوير العلاقات الخارجية وتحسين أداء أجهزة الدولة؟ أظنه سؤال يحتاج إلى إجابة من المحللين والمراقبين لأن الرئيس الذي ظل في رئاسة الدولة لثلاثة عقود لا يقدم على خطوة كبيرة مثل هذه في هذا الوقت الصعب دون رؤية محددة ولأهداف واضحة. هذا لا يعني بالطبع أن رؤيته صائبة أو أن أهدافه قابلة للتنفيذ.

يظن الرئيس البشير أنه يستطيع كسر جرأة الشباب على الاحتجاج والتذمر بالوسائل الآتية:
أولاً: معالجة المشكلة الاقتصادية بتثبيت سعر الخبز والوقود وتوفير السيولة ولو بعد حين في البنوك والصرافات. ولا أظن أن الدولة تستطيع أن تفعل ذلك لمدة طويلة لأن التكلفة ستكون عالية ولن يستطيع الاقتصاد السوداني بمشاكله الهيكلية المزمنة تحملها لفترة طويلة، فمنصرفات الدولة أكثر بكثير من إيراداتها ووارداتها أكثر من صادراتها بما يساوي ضعف قيمة الصادرات، وديونها الخارجية الضخمة والعقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على البلد، وعدم الاستقرار السياسي الذي يمنع عنها الاقتراض والاستثمار لعدة سنوات قادمة. ولا يبدو أن طباعة العملة أو تغييرها ستحل مشكلة السيولة في وقت قريب لأن ثقة المواطنين انعدمت تماما في البنوك التي لا تصرف لهم أموالهم المودعة أو مرتباتهم الشهرية، بعض التقارير التي نشرت حديثا تقول ان المصارف لا تحوز على أكثر من 1% فقط من الكتلة النقدية المتداولة!

ثانياً: الاعتماد على قانون الطوارئ وإطلاق يد القوات النظامية في اعتقال المتظاهرين السلميين وضربهم بالخراطيش والعصي وخنقهم بالغاز المسيل للدموع وتأديبهم داخل غرف الاحتجاز بوسائل غير قانونية وغير مهذبة. وفي تقدير جهاز الأمن أن الاحتجاجات الشبابية بدأت تنحسر نسبة لأنشطة الأمن في الاعتقال والضرب والتأديب، وهي في طريقها للتوقف تماما في وقت قريب. وأحسب أن عناصر الشباب الغض التي تواجه العسكر برهنت على أنها أكثر جرأة وشجاعة من عناصر الأمن التي تخفي زيها الرسمي وتلثم وجهها بقطعة قماش متسخة وتمتطي عربات بدون لوحات رقمية. صحيح أن هناك قدرا من الإنحسار في حشد الشباب بالشوارع والميادين ولكني أظن أن السبب في ذلك غير الذي يدعيه جهاز الأمن: فقد أنهك هؤلاء الشباب بحراك مستمر معظم أيام الأسبوع وبالطبع يحتاجون لقدر من الاستجمام من فترة لأخرى، كما أن قيادة تجمع المهنيين التي تنظم الحراك مركزية إلى حدٍ مفرط وغير معروفة لعامة الناس بما فيهم الشباب الذي تقوده ويستجيب لتوجيهاتها التنظيمية. والبشرية منذ الأذل تريد آلهة محسوسة تراها بعينيها لتعبدها وتطيعها وإن لم تجد ذلك اصطنعت لنفسها صنما أو عجلا معجزاً أو نبيا بُعث بعد مقتله أو قديساً من البشر معصوماً من الخطأ أو شيخاً يدعي الكرامات وعلم الغيب. فمعظم الناس لا يستطيعون التعامل مع المجرد المطلق لذلك وصف الله الجنة بما يعرفه الناس من الخيرات لكن حقيقتها أن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر بقلب بشر. وفي حال أهل السودان فقد ضعُفت عندهم مكانة السياسي الذي يتلبس القيادة الروحية والسياسية معاً ولا يخالط الناس في المنشط والمكره، فلا بد للشباب من رمزية معروفة (فردا أو مجموعة) تحتمل معهم التضحية والأذى، تخاطبهم ويخاطبونها، ويلتفون حولها خاصة إذا حانت ساعة الخلاص. وربما كان الدخول في تجربة الاضراب السياسي والاعتصام المدني في هذه المرحلة غير موفقة لأنها تحتاج إلى أدوات اتصال وتفاهم غير الشبكة العنكبوتية التي يستجيب لها الشباب بسبب الضيم المتراكم الذي وقع عليهم لسنوات عديدة ولأنهم يتواصلون عبرها مع مجموعات كثيرة من الأصدقاء والمعارف لا تحصى ولا تعد في مختلف البلدان. لذلك كانت تجارب الاضراب العام والاعتصام تحتاج إلى لقاء مكثف مع مجموعات الفئات المختلفة والأحياء المنتشرة عبر قيادات محلية قريبة منهم ومعروفة وموثوقة، ويحتاج ذلك لإعداد طويل قبل أن تُعلن الجاهزية لدخول التجربة. وليس من الضروري أن تكون التجربة على طول السودان وعرضه، يمكن أن تكون في مدينة واحدة أو عدة مدن أو ولاية واحدة تجد من القيادة التركيز والدعم والتعبئة اللازمة لإنجاح النشاط المعني.

• وينبغي للحكومة أن تدرك أن القوات النظامية العسكرية ليس مثل الطوائف الدينية (العلويون في سوريا، والشيعة في العراق، والحوثيون في اليمن) تعطي ولاءها لشخص واحد مهما كانت مكانته عندها؛ وليس مثل الأحزاب السياسية التي لا تهتم كثيرا بنظمها وتقاليدها ولوائحها الداخلية لذلك يستطيع أن يفعل رئيس الحزب ما يريد، كما فعل البشير بالمؤتمر الوطني الذي جاء به إلى الحكم فاستلمه وسجن أمينه العام الذي بذل معظم سنوات عمره في بنائه ثم أسلموه الحركة الإسلامية التي لا يعرف عنها الكثير، وعندما وجد نفسه محاصرا باحتجاجات لا قبل له بها احتمى بالجيش ولفظ الحزب والحركة في يوم واحد بضربة قاضية، بل عين لهم رئيسا بديلا من أصفيائه متخطيا كل قياداتهم السابقة التي خنعت له تماما دون أن يطرف له جفن! وهي مهانة مستحقة بجدارة فقد قبلوا طغيان الرئيس عليهم مقابل وظائف دستورية ومخصصات مادية أخرجتهم من الفقر إلى الغنى ومن الخمول إلى النفوذ والشهرة. ولكن الرئيس البشير لا يستطيع أن يفعل ذات الشئ مع القوات النظامية خاصة القوات المسلحة رغم أنه يحتل موقع قائدها الأعلى، فالقوات النظامية مؤسسات عريقة منضبطة لها نظمها وتقاليدها التي لا تقبل التضحية بها في كل الأحوال، ولا يستطيع رأس الدولة أن يعتبرها تحت تصرفه يفعل بها ما يشاء لأنها ذات سنون حادة يخشاها رأس الدولة كما يخشاها الآخرون.

• وأحسب أن الرئيس يريد أن يبقى في السلطة ليس إلى 2020 ولكن إلى ما بعدها بانتخابات مخجوجة أو بغيرها، وسيفعل كل ما يستطيع لتحقيق ذلك دون رعاية لدستور أو قانون. وأظن أنه يعتمد في ذلك على قراءة جهاز الأمن أن هذا الحراك الشبابي مصيره أن ينتهي في وقت ليس ببعيد لأنه فشل في تحقيق أهدافه بعد مرور أكثر من ثلاثة شهور من النشاط المستمر. وقد أعادت الحكومة بعض ملاهيه المحببة مثل وجود ستات الشاي على شارع النيل، وستقصقص بعض مواد النظام العام التي تشتكي منها الفتيات، وربما يتم الهجوم على البنوك الإسلامية ويعلق على رقبتها فشل إدارة الاقتصاد، وقد تجتهد الحكومة في توفير بعض الوظائف للشباب الجامعي الذي أصبح يسوق الركشات ويعمل في سوق الخضار. أظن أن هذا سوء تقدير كبير لدوافع الشباب المحتج. فشباب اليوم يحمل رؤية جديدة لما يريد أن يصنعه في الحياة، ويحمل ثقافة جديدة تتطلب سلوكاً مختلفا عن سلوك الآباء والأمهات، وهو أكثر جدية من سلوك الشباب قبل الإنقاذ وأكثر جرأة لاقتحام ميادين جديدة حتى لو كانت خطرة. وكل أب وأم يراقب أبناءه يدرك ذلك جيدا، فهم لا يأكلون ما نأكل ولا يهتمون كثيرا بالتواصل مع الأهل والجيران في حين يتابعون أخبار أصدقائهم في شتى بلاد العالم، وهم منفتحون لثقافات الدنيا التي يعرفون ما يجري فيها. لقد أحدثت وسائل التواصل الاجتماعي في الشبكة العنكبوتية ثورة في تفكير الناس غير مسبوقة خاصة بالنسبة للشباب. باختصار هؤلاء الشباب هم الذين أشعلوا احتجاجات الربيع العربي في كثير من البلاد العربية نجح بعضها في إسقاط الأنظمة الاستبدادية وفشل بعضها بتآمر وتخطيط ممنهج من الحكومات الملكية والأنظمة العسكرية التي تدخلت بكل إمكاناتها المالية والعسكرية لوقف تيار الحرية والديمقراطية في العالم العربي لأن العدوى ستصلها إليها آجلا أو عاجلا. وهي الآن قد اشتعلت في السودان وفي الجزائر وأظنها ستعود مرة ثانية للبلاد الأخرى التي فشلت فيها فهي لم تقل كلمتها الأخيرة بعد. لا ينبغي لحكومة السودان أن تطمئن لانحسار احتجاجات الشباب في الشوارع لأنها لا بد عائدة مرة وأخرى وثالثة حتى تحقق أهدافها في الحرية والديمقراطية والسلام والعدالة الاجتماعية والتداول السلمي للسلطة، فقد أصبحت تلك الأهداف جزءا من ثقافتها وعقيدتها في الحياة وليس مطلبا سياسيا عارضا يمكن تجاوزه.

altayib39alabdin@gmail.com

 

آراء