قراءة في فكر الوليد مادبو … ثورة الوسط نموذجا (4-4)
م/محمد موسى ابراهيم
19 November, 2023
19 November, 2023
تكملة للمنفستو الذي طرحه الوليد في سفره , يقول :
1. (... كما إن التجارب قد أثبتت عمليا أن هذا البلد أفخم من أن يحتويه قالب أيديولوجي أو أن تستخفه نخبة تتعامل إصطفائيا مع الخصائص الثقافية للشعوب ..) اهـ , (... وأن ترجمة هذه القوانين ثقافيا واجتماعيا علّه يومئ إلى ان معرفة الآخر هي وسيلة لإثراء الذات ..) اهـ
يؤكد الكاتب هنا ما تناولناه سابقا بعدم جدوى "النظرة النرجسية" أو "الإنسان ذو البعد الواحد" , فالإنقاذ منذ أن أتت في ثوبها القشيب (الحركة الإسلامية), رفعت شعارات صارمة جعلت أصحاب مكة يتوارون خجلا وحياء. ثورة هائجة مائجة, ضرب عرّابها الأرض بعصاه فطرحت أناسٌ لا يشبهون بقية الناس, حتى قال فيهم أحد الحكماء: من أين أتى هؤلاء ؟ . خرجو هكذا من باطن الأرض, من اللامكان, أقوام بدون ذاكرة, تصطك أرجلهم غِيْرَةً وحِمْيةً على الثورة/الدين, تنتفخ أوداجهم وغراً وهوجاً إذا سمعوا كلمة ناقصة أو زائدة في القائد/المرشد. أسّسوا دولة (المدينة) المرتجاة, -الفردوس المفقود- وذلك حسب ما تمثّل لهم من تصوّرات ذهانية دينية, إختلطت بأفكار إشتراكية إلتمسوا فيها جوانب روحية, فوقعوا في وهدة تناقض بين جدلية اللاعقلاني وتصوّرات المبحوث عنه, فاستولدوا دولة مريضة منهكة, وشَعبٌ مَسخٌ تشوّهت ملامحه الداخلية والخارجية, فقرروا أن يعدموه ... ويحرقوا الوطن .
لا توجد دولة – حسب تقديرنا - ناجحة عقلها في رأسها تقوم على إيديولوجيا معيّنة تقهر به الشعب وتسومهم سوء العذاب, حتى يتّبعوه ويؤمنوا به. فحتى رب العباد عندما خاطب نبيّه محمد صلوات الله عليه, قال له " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" سورة يونس الآية (99). ما نرمي إليه , هو عدم وقوف مؤسسات الدولة إلى جوار عقيدة دون أخرى، فعلى كل عقيدة أن تبرز بقواها الذاتية، دون عون الدولة التي ربما تفسد المساواة بينهما إذا ساعدت إحداهما على الأخرى، وفي الوقت نفسه وحتى تكون هناك ديمقراطية وحرية حقيقية، يجب على مؤسسات الدولة أن تقف ضد كل الألوان الشمولية التي تزعم الطهارة المطلقة والوطنية المطلقة والحق المطلق، حيث الديمقراطية نصاب سياسي يقوم على مبدأ المواطنة لا الإيديولوجيا ولا العنصر ولا الجنس ولا الدين، والمواطنة مبدأ لا يقبل التجزئة كما الحرية, لأنها ملك الجميع حيث الوطن وطن الجميع كذا الحرية. ولكن للأسف الشديد, أن (هؤلاء) عملوا على اتّباع دينٍ غير دين محمد, ونبيّ أهوج لا يُسأل عمّا يفعل, فأتى خطابهم طائفي متعصّب (راديكالي) يضع الإنسان السوداني خارج التاريخ فلا يعيش عالمه ولا يتصالح معه أو يتكيف مع جديده, إنسان بلا هوية بلا ذاكرة بلا ماضٍ, بل ذهبوا أبعد من ذلك, أرادوا تغيير العالم كله ليتفق مع وجهة نظرهم, فبدّدوا ثروات ومدّخرات الدولة, فأرسلوا الرسل إلى الدول المجاورة, لا للتعاون المثمر المعهود بين الدول, بل لهدايتهم, (أسلم تسلم), أو لنأتينكم بجنود لا قبل لكم بها. فدخلت البلاد في فخاخ لا يستفيد منها المواطن السوداني شربة ماء, بمحاولات الإنقاذ الفاشلة في تغيير أنظمة البلدان المجاورة ومحاولة تصفية قادة بلدان آخَرين.
يقول المولى عز وجل في محكم تنزيله "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" سورة الحجرات 13 . في هذه النص نجد تفريقاً لغوياً واضحاً بين القبيلة كمعنى للقبائلية المؤصلة لمعنى العنصرية , والشعوبية كمعنى أوسع لمفهوم التضامن والترابط بين الناس .إذ أن المجتمع يتكون من الفرد الذي يُكَوّن العائلة التي بدورها تعتمد كلياً على عائلات أخرى حتى تعضض من قوتها ويعين بعضهم البعض في قضاء حاجياتهم وبالتالي رفع سحابة الخوف المضمر من المجهول, فتعتمد العوائل على عائلات أخرى وبالتالي يتشكل ما يسمى بالقبيلة تحت مسمى ما, وهكذا تنجم عن هذه الدوائر الاجتماعية قبائل وقبائل فتتآلف وتتحالف فيما بينها لتقوي شوكتها عند البأس, فعندما يستنجد أحد أفراد القبيلة ويستصرخ باسم قبيلته أو إحدى القبائل المجاورة يجد النجدة والأمن .
هذا في البيئة البدوية, فتتشكل هوية الفرد من إعتماده الملموس لما هو منه - هو هو – فليس هناك شيء خارجي , لا وجود لقوة أو منعة غير معروفة لديه, حتى الأساطير التي يؤمن بها ويجعلها آلهة, هي من صميم صنعه ليأمنها ولتكون تحت سيطرته, مسكنه ملبسه طعامه شرابه دابته أرضه ... حتى إلهه من صنع يديه فهنا يعتز بما صنعت يداه وبالتالي يعتز بماهيته وهويته, ويعتز بذاته وذاتيته, يعتز بتحكمه بماضيه الذي صنعه هو, يعتز بتربيته لولده الذي يتربى بين كنفيه ويداعب حيوانه الأليف (مُهر , عجل , فصيل/ولد الناقة) في الخلاء فيشب الطفل والمهر معاً في باحة واحدة وساحة يألفان بعضهما البعض, من هنا تنشأ الهوية بمعرفة الفرد لريحة ترابه وتفاصيل حياته إذ تسكن فيه عبق رائحة جدته. هذا فيما مضى , فما هو التعريف الحقيقي لمعنى الهوية – الآن - ....؟ هل نحن ... نحن ؟
2. (... إن العوامل البنيوية والمؤسسية قد حيّدت إمكانية المثقف للتأثير كما ثبّطتْ همّته وأقعدته عن خوض معركة الوعي ..) اهـ (.. إن الحرية تجعل من الفرد شخصاً لأنها تحرّر وجدانه وتحرّر نطاق توجّهاته الفكرية , ليس هذا فقط بل أنها أيضا تجعل من الشخص كائناً منتجاً , إذ تغريه للإنعتاق من الخرافة وتستدفعه نحو الإبتكار الذي من دونه يستحيل السيل إلى جلمود والأفق إلى شاهد مسدود... ) اهـ , (.. إن التساؤل حول مفهوم الحرية هو تساؤل حيوي حول علاقة الفرد بالذات , الذات بالمجتمع , المجتمع بالدولة , الدولة بالمجتمع الدولي الكبير..) اهـ
لا أظن أن قضية ملأت الدنيا وشغلت الناس كقضية الحرية. وما أظن الإنسان ناضل منذ كان, من أجل قيمة إنسانية مثل ما ناضل من أجل الحرية. ذلك شيء طبيعي, لأن الحرية إرتبطت بشخص الإنسان وحياته وإرادته وسلوكه, قبل أن ترتبط بأفكاره وعقيدته وقوله وكتابته. طغيان الإنسان – شبه الطبيعي – الصادر عن قوته العضلية, إمتد إلى بسط نفوذه على الآخر ليسخّره, يستعبده, يحقق عن طريقه مصالحه ومتعه, فكانت العبودية وكان الرق. إن مناخ الحرية الكامل لا يعرف الوقوف في أحكامه بين الحلال والحرام وبين الإيمان والكفر، قدر ما يقف بين الصواب والخطأ العقلي على مستوى التفكير والمنهج العلمي، وبين المصالح والمنافع المرجوة على مستوى الفعل السلوكي, لا يمكن لإنسان قد اُنتُقِصَتْ حريته ومواطنته أن يُحرّر فكراً أو يبني منهجاً...الحرية الكاملة تعني ديمقراطية كاملة غير منقوصة، لتغييب الفاشية في التفكير، التي لا تغيب إلا بالإعتراف بالتعددية المؤدية إلى التكامل، وهو التكامل الذي لا ينفي التعارض بقدر ما يعني أن الرُّؤى المتعارضة لا تنفي بعضها، أو أن أحدها صحيح مطلقاً والآخر باطلٌ، لأنها جميعها في النهاية عملاً حُراً إرادياً تطوّعياً، تفرزه قناعة الناس وليس الإكراه وغسيل الأمخاخ المبرمج.
إن الحرية تحتاج إلى تربة تُبذر فيها وتُروى لتنمو بتدريب العقل على المنهج العلمي في التفكير لا التكفير وليس منهج الانتظار البليد لحدوث المعجزات وعودة الأساطير الحفرية. بذرة العلم هي منهجها أما تربتها فهي مناخ التسامح الكامل. وهذا لا يمكن في ظل مناخ التجهيل العام السائد. لا يمكن لدولة تريد أن تصبوا إلى الأمام لتقف مع البلدان المتقدمة في صفّ واحد, تضع نقاط بعينها ما تقرب لخمس عشرة بنداً ممنوع تناوله في الصحف العامة (تجربة الإنقاذ) , فأصبحت الصحف اليومية عبارة عن نُسخ متشابهة لا تصلح إلا لتنظيف الواجهات الزجاجية. عن أي حريات نتحدث !! . هؤلاء لا يقبلون النصح ولا النقد, يصبح كل ناصح ناقد عدوٌ مبين, أما من يكشف عيوب النظام (الفاشي) ويفشيها أمام الملأ، فهو حتماً في عداد المفقودين. هؤلاء القوم نصّبوا أنفسهم وكلاء عن الله في الأرض، واستثمروا هذا التنصيب إلى حدوده العليا، فدمّروا العقل والثقافة والإنسان، عملوا على تزييف التاريخ السوداني على مدى ثلاث عقود , وكانت كذبتهم أنهم يعلون كلمة الله ويدافعون عنها. لقد إستثمروا الله في بنوك الجهل من أجل الدفاع عن مصالحهم الخاصة، وعن المصالح الاجتماعية التي ترى في إستمرار الوهم والتفكك العقلي أساساً لبقائهم. وإذا كان كل دين سماوي يحض على الرحمة والتعاون والغفران، فإن هؤلاء إنطلق دينهم من عقاله ليرفع شعار الإغتصاب والدمار والتقتيل، ولو كانوا يدافعون حقاً عن إرادة السماء وإعلاء كلمة الله, وهدفهم هو المواطن السوداني في المقام الأول, لدافعوا عن حاجاته الفعلية الأساسية كلها، ولأولى بهم أن يخرجوه من بؤسه الذي يرزح فيه إلى نعيم الدنيا وبرذخها. ولكنهم تناسوا الهدف الحقيقي من كل (ثورة) وبدّدوا الطاقات البشرية لحساب الوَهَمِي عندهم، المتخيّل لديهم, فقادوا معركة دامية من أجل الوَهَمْ كان ضحيتها الحقيقي والجوهري هوالإنسان السوداني.
قبل الختام, نود الإشارة إلى أننا نعيش الأن حداثة معاقة ومبتسرة, كما أننا نعيش في ذات الوقت إسلام معاق ومشوّه إلى أبعد الحدود. إذ أن الحياة ليست تجربة دينية فقط, إننا بنينا مجتمعاً على أساس ديني, فالدين لا يمكن أن يكون عاملاً لتوحيد الأمم والشعوب ولا يمكن أن يكون سمة لهوية ما. إن هويّة أي أمّة ما يجب أن تكون جامعة لمختلف قومياتها وثقافاتها , إذ السودان يعتبر من البلدان المتعددة القوميات. فمن حق أي مواطن أن يكون ما يكون, بصرف النظر عن ماهيّة إعتقاده أو إنتماءاته العقدية أو المذهبية فهي لا تُمثّل هويّته الرسمية التي بها ينتمي إلى بلده أو قوميّته. إن الهوية الرسمية للدولة يجب أن تكون جامعة واضعة في الإعتبار جميع القوميات والثقافات لهذه الأمة. لم يكن الساسة يوما كاذبين, كما لم يصدق فقهاء الدين على مرّ التاريخ, فالساسة (صادقون) لإلتزمهم دين النفاق وتعاملوا مع الدين ورجالاته كأدوات لتوطيد دعائم حُكمهم, دون الحاجة الى الجانب الروحي من الدين. أما الفقهاء فعلى النقيض تماماً, فقد سخّروا نفوذهم الإجتماعي وجنّدوا حواريِّيهم ومهّدوا زواياهم كمرابط وحصون لهؤلاء الساسة, وبالتالي وقعوا في وهدة التناقض الأدائي الذي أفقدهم جميع أرصدتهم على مرّ السنين .
وعليه, نود أن نقول بأننا نحن نعيش في زمان ترهّلت فيه كل القيم وأصبحت المُثُل والأخلاق عبارة عن تفاهات تُشَادُ عليها معتقدات زائفة لترميم ما أحدثته شروخ الزمان وأكاذيب (النُّخَب) .
أخيرا , وليس آخرا , أن ما بذله الوليد في سفره ثورة الوسط , يأتي ضمن أدبيات جلد الذات وناقوس يدق في رؤوس الطغاة ويؤرق مضجعهم . فلا سبيل إلى الإصلاح إلا عبر نقد الذات , ولا مناص من نقد الذات إلا بمواجهة الحقائق المُرّة والجهر بالمكتوم المسكوت عنه.
المراجع
1. القراءان الكريم
2. ثورة الوسط – الوليد ادم مادبو , دار مدارك للنشر , 2013 .
3. دارفور صراع السلطة والموارد - يوسف تكنة , دار مدارك للنشر 2013 .
4. أوهام النخبة أو نقد المثقف - علي حرب , المركز الثقافي العربي 1998 .
5. المعجم الفلسفي – جميل صليبا , دار الكتاب اللبناني - 1982م .
1. (... كما إن التجارب قد أثبتت عمليا أن هذا البلد أفخم من أن يحتويه قالب أيديولوجي أو أن تستخفه نخبة تتعامل إصطفائيا مع الخصائص الثقافية للشعوب ..) اهـ , (... وأن ترجمة هذه القوانين ثقافيا واجتماعيا علّه يومئ إلى ان معرفة الآخر هي وسيلة لإثراء الذات ..) اهـ
يؤكد الكاتب هنا ما تناولناه سابقا بعدم جدوى "النظرة النرجسية" أو "الإنسان ذو البعد الواحد" , فالإنقاذ منذ أن أتت في ثوبها القشيب (الحركة الإسلامية), رفعت شعارات صارمة جعلت أصحاب مكة يتوارون خجلا وحياء. ثورة هائجة مائجة, ضرب عرّابها الأرض بعصاه فطرحت أناسٌ لا يشبهون بقية الناس, حتى قال فيهم أحد الحكماء: من أين أتى هؤلاء ؟ . خرجو هكذا من باطن الأرض, من اللامكان, أقوام بدون ذاكرة, تصطك أرجلهم غِيْرَةً وحِمْيةً على الثورة/الدين, تنتفخ أوداجهم وغراً وهوجاً إذا سمعوا كلمة ناقصة أو زائدة في القائد/المرشد. أسّسوا دولة (المدينة) المرتجاة, -الفردوس المفقود- وذلك حسب ما تمثّل لهم من تصوّرات ذهانية دينية, إختلطت بأفكار إشتراكية إلتمسوا فيها جوانب روحية, فوقعوا في وهدة تناقض بين جدلية اللاعقلاني وتصوّرات المبحوث عنه, فاستولدوا دولة مريضة منهكة, وشَعبٌ مَسخٌ تشوّهت ملامحه الداخلية والخارجية, فقرروا أن يعدموه ... ويحرقوا الوطن .
لا توجد دولة – حسب تقديرنا - ناجحة عقلها في رأسها تقوم على إيديولوجيا معيّنة تقهر به الشعب وتسومهم سوء العذاب, حتى يتّبعوه ويؤمنوا به. فحتى رب العباد عندما خاطب نبيّه محمد صلوات الله عليه, قال له " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" سورة يونس الآية (99). ما نرمي إليه , هو عدم وقوف مؤسسات الدولة إلى جوار عقيدة دون أخرى، فعلى كل عقيدة أن تبرز بقواها الذاتية، دون عون الدولة التي ربما تفسد المساواة بينهما إذا ساعدت إحداهما على الأخرى، وفي الوقت نفسه وحتى تكون هناك ديمقراطية وحرية حقيقية، يجب على مؤسسات الدولة أن تقف ضد كل الألوان الشمولية التي تزعم الطهارة المطلقة والوطنية المطلقة والحق المطلق، حيث الديمقراطية نصاب سياسي يقوم على مبدأ المواطنة لا الإيديولوجيا ولا العنصر ولا الجنس ولا الدين، والمواطنة مبدأ لا يقبل التجزئة كما الحرية, لأنها ملك الجميع حيث الوطن وطن الجميع كذا الحرية. ولكن للأسف الشديد, أن (هؤلاء) عملوا على اتّباع دينٍ غير دين محمد, ونبيّ أهوج لا يُسأل عمّا يفعل, فأتى خطابهم طائفي متعصّب (راديكالي) يضع الإنسان السوداني خارج التاريخ فلا يعيش عالمه ولا يتصالح معه أو يتكيف مع جديده, إنسان بلا هوية بلا ذاكرة بلا ماضٍ, بل ذهبوا أبعد من ذلك, أرادوا تغيير العالم كله ليتفق مع وجهة نظرهم, فبدّدوا ثروات ومدّخرات الدولة, فأرسلوا الرسل إلى الدول المجاورة, لا للتعاون المثمر المعهود بين الدول, بل لهدايتهم, (أسلم تسلم), أو لنأتينكم بجنود لا قبل لكم بها. فدخلت البلاد في فخاخ لا يستفيد منها المواطن السوداني شربة ماء, بمحاولات الإنقاذ الفاشلة في تغيير أنظمة البلدان المجاورة ومحاولة تصفية قادة بلدان آخَرين.
يقول المولى عز وجل في محكم تنزيله "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" سورة الحجرات 13 . في هذه النص نجد تفريقاً لغوياً واضحاً بين القبيلة كمعنى للقبائلية المؤصلة لمعنى العنصرية , والشعوبية كمعنى أوسع لمفهوم التضامن والترابط بين الناس .إذ أن المجتمع يتكون من الفرد الذي يُكَوّن العائلة التي بدورها تعتمد كلياً على عائلات أخرى حتى تعضض من قوتها ويعين بعضهم البعض في قضاء حاجياتهم وبالتالي رفع سحابة الخوف المضمر من المجهول, فتعتمد العوائل على عائلات أخرى وبالتالي يتشكل ما يسمى بالقبيلة تحت مسمى ما, وهكذا تنجم عن هذه الدوائر الاجتماعية قبائل وقبائل فتتآلف وتتحالف فيما بينها لتقوي شوكتها عند البأس, فعندما يستنجد أحد أفراد القبيلة ويستصرخ باسم قبيلته أو إحدى القبائل المجاورة يجد النجدة والأمن .
هذا في البيئة البدوية, فتتشكل هوية الفرد من إعتماده الملموس لما هو منه - هو هو – فليس هناك شيء خارجي , لا وجود لقوة أو منعة غير معروفة لديه, حتى الأساطير التي يؤمن بها ويجعلها آلهة, هي من صميم صنعه ليأمنها ولتكون تحت سيطرته, مسكنه ملبسه طعامه شرابه دابته أرضه ... حتى إلهه من صنع يديه فهنا يعتز بما صنعت يداه وبالتالي يعتز بماهيته وهويته, ويعتز بذاته وذاتيته, يعتز بتحكمه بماضيه الذي صنعه هو, يعتز بتربيته لولده الذي يتربى بين كنفيه ويداعب حيوانه الأليف (مُهر , عجل , فصيل/ولد الناقة) في الخلاء فيشب الطفل والمهر معاً في باحة واحدة وساحة يألفان بعضهما البعض, من هنا تنشأ الهوية بمعرفة الفرد لريحة ترابه وتفاصيل حياته إذ تسكن فيه عبق رائحة جدته. هذا فيما مضى , فما هو التعريف الحقيقي لمعنى الهوية – الآن - ....؟ هل نحن ... نحن ؟
2. (... إن العوامل البنيوية والمؤسسية قد حيّدت إمكانية المثقف للتأثير كما ثبّطتْ همّته وأقعدته عن خوض معركة الوعي ..) اهـ (.. إن الحرية تجعل من الفرد شخصاً لأنها تحرّر وجدانه وتحرّر نطاق توجّهاته الفكرية , ليس هذا فقط بل أنها أيضا تجعل من الشخص كائناً منتجاً , إذ تغريه للإنعتاق من الخرافة وتستدفعه نحو الإبتكار الذي من دونه يستحيل السيل إلى جلمود والأفق إلى شاهد مسدود... ) اهـ , (.. إن التساؤل حول مفهوم الحرية هو تساؤل حيوي حول علاقة الفرد بالذات , الذات بالمجتمع , المجتمع بالدولة , الدولة بالمجتمع الدولي الكبير..) اهـ
لا أظن أن قضية ملأت الدنيا وشغلت الناس كقضية الحرية. وما أظن الإنسان ناضل منذ كان, من أجل قيمة إنسانية مثل ما ناضل من أجل الحرية. ذلك شيء طبيعي, لأن الحرية إرتبطت بشخص الإنسان وحياته وإرادته وسلوكه, قبل أن ترتبط بأفكاره وعقيدته وقوله وكتابته. طغيان الإنسان – شبه الطبيعي – الصادر عن قوته العضلية, إمتد إلى بسط نفوذه على الآخر ليسخّره, يستعبده, يحقق عن طريقه مصالحه ومتعه, فكانت العبودية وكان الرق. إن مناخ الحرية الكامل لا يعرف الوقوف في أحكامه بين الحلال والحرام وبين الإيمان والكفر، قدر ما يقف بين الصواب والخطأ العقلي على مستوى التفكير والمنهج العلمي، وبين المصالح والمنافع المرجوة على مستوى الفعل السلوكي, لا يمكن لإنسان قد اُنتُقِصَتْ حريته ومواطنته أن يُحرّر فكراً أو يبني منهجاً...الحرية الكاملة تعني ديمقراطية كاملة غير منقوصة، لتغييب الفاشية في التفكير، التي لا تغيب إلا بالإعتراف بالتعددية المؤدية إلى التكامل، وهو التكامل الذي لا ينفي التعارض بقدر ما يعني أن الرُّؤى المتعارضة لا تنفي بعضها، أو أن أحدها صحيح مطلقاً والآخر باطلٌ، لأنها جميعها في النهاية عملاً حُراً إرادياً تطوّعياً، تفرزه قناعة الناس وليس الإكراه وغسيل الأمخاخ المبرمج.
إن الحرية تحتاج إلى تربة تُبذر فيها وتُروى لتنمو بتدريب العقل على المنهج العلمي في التفكير لا التكفير وليس منهج الانتظار البليد لحدوث المعجزات وعودة الأساطير الحفرية. بذرة العلم هي منهجها أما تربتها فهي مناخ التسامح الكامل. وهذا لا يمكن في ظل مناخ التجهيل العام السائد. لا يمكن لدولة تريد أن تصبوا إلى الأمام لتقف مع البلدان المتقدمة في صفّ واحد, تضع نقاط بعينها ما تقرب لخمس عشرة بنداً ممنوع تناوله في الصحف العامة (تجربة الإنقاذ) , فأصبحت الصحف اليومية عبارة عن نُسخ متشابهة لا تصلح إلا لتنظيف الواجهات الزجاجية. عن أي حريات نتحدث !! . هؤلاء لا يقبلون النصح ولا النقد, يصبح كل ناصح ناقد عدوٌ مبين, أما من يكشف عيوب النظام (الفاشي) ويفشيها أمام الملأ، فهو حتماً في عداد المفقودين. هؤلاء القوم نصّبوا أنفسهم وكلاء عن الله في الأرض، واستثمروا هذا التنصيب إلى حدوده العليا، فدمّروا العقل والثقافة والإنسان، عملوا على تزييف التاريخ السوداني على مدى ثلاث عقود , وكانت كذبتهم أنهم يعلون كلمة الله ويدافعون عنها. لقد إستثمروا الله في بنوك الجهل من أجل الدفاع عن مصالحهم الخاصة، وعن المصالح الاجتماعية التي ترى في إستمرار الوهم والتفكك العقلي أساساً لبقائهم. وإذا كان كل دين سماوي يحض على الرحمة والتعاون والغفران، فإن هؤلاء إنطلق دينهم من عقاله ليرفع شعار الإغتصاب والدمار والتقتيل، ولو كانوا يدافعون حقاً عن إرادة السماء وإعلاء كلمة الله, وهدفهم هو المواطن السوداني في المقام الأول, لدافعوا عن حاجاته الفعلية الأساسية كلها، ولأولى بهم أن يخرجوه من بؤسه الذي يرزح فيه إلى نعيم الدنيا وبرذخها. ولكنهم تناسوا الهدف الحقيقي من كل (ثورة) وبدّدوا الطاقات البشرية لحساب الوَهَمِي عندهم، المتخيّل لديهم, فقادوا معركة دامية من أجل الوَهَمْ كان ضحيتها الحقيقي والجوهري هوالإنسان السوداني.
قبل الختام, نود الإشارة إلى أننا نعيش الأن حداثة معاقة ومبتسرة, كما أننا نعيش في ذات الوقت إسلام معاق ومشوّه إلى أبعد الحدود. إذ أن الحياة ليست تجربة دينية فقط, إننا بنينا مجتمعاً على أساس ديني, فالدين لا يمكن أن يكون عاملاً لتوحيد الأمم والشعوب ولا يمكن أن يكون سمة لهوية ما. إن هويّة أي أمّة ما يجب أن تكون جامعة لمختلف قومياتها وثقافاتها , إذ السودان يعتبر من البلدان المتعددة القوميات. فمن حق أي مواطن أن يكون ما يكون, بصرف النظر عن ماهيّة إعتقاده أو إنتماءاته العقدية أو المذهبية فهي لا تُمثّل هويّته الرسمية التي بها ينتمي إلى بلده أو قوميّته. إن الهوية الرسمية للدولة يجب أن تكون جامعة واضعة في الإعتبار جميع القوميات والثقافات لهذه الأمة. لم يكن الساسة يوما كاذبين, كما لم يصدق فقهاء الدين على مرّ التاريخ, فالساسة (صادقون) لإلتزمهم دين النفاق وتعاملوا مع الدين ورجالاته كأدوات لتوطيد دعائم حُكمهم, دون الحاجة الى الجانب الروحي من الدين. أما الفقهاء فعلى النقيض تماماً, فقد سخّروا نفوذهم الإجتماعي وجنّدوا حواريِّيهم ومهّدوا زواياهم كمرابط وحصون لهؤلاء الساسة, وبالتالي وقعوا في وهدة التناقض الأدائي الذي أفقدهم جميع أرصدتهم على مرّ السنين .
وعليه, نود أن نقول بأننا نحن نعيش في زمان ترهّلت فيه كل القيم وأصبحت المُثُل والأخلاق عبارة عن تفاهات تُشَادُ عليها معتقدات زائفة لترميم ما أحدثته شروخ الزمان وأكاذيب (النُّخَب) .
أخيرا , وليس آخرا , أن ما بذله الوليد في سفره ثورة الوسط , يأتي ضمن أدبيات جلد الذات وناقوس يدق في رؤوس الطغاة ويؤرق مضجعهم . فلا سبيل إلى الإصلاح إلا عبر نقد الذات , ولا مناص من نقد الذات إلا بمواجهة الحقائق المُرّة والجهر بالمكتوم المسكوت عنه.
المراجع
1. القراءان الكريم
2. ثورة الوسط – الوليد ادم مادبو , دار مدارك للنشر , 2013 .
3. دارفور صراع السلطة والموارد - يوسف تكنة , دار مدارك للنشر 2013 .
4. أوهام النخبة أو نقد المثقف - علي حرب , المركز الثقافي العربي 1998 .
5. المعجم الفلسفي – جميل صليبا , دار الكتاب اللبناني - 1982م .