قراءة في مبادرة رئيس الوزراء

 


 

 

قبل أن ادلف لمقالي هذا لابد من ازجاء الشكر والتقدير للسيد رئيس الوزراء د.عبدالله حمدوك على ايراد الحقائق المُرة والمهمة التي أطلعنا عليها من خلال عرضه للمبادرة، بغض النظر عن أسباب اختياره هذا التوقيت للاعلان عن مبادرته الوطنية التي اعتقد أنها جاءت في موعدها لأسباب كثيرة لا أريد الخوض فيها الآن.

في البد أعتقد أن حمدوك قد وُفق تماما في توصيف واقع الحال عندما وصفها بـ" أزمة وطنية شاملة"، وفي مكان آخر بـ"الأزمة السياسية العميقة"، وهذا مدخل في غاية الأهمية لأن هناك الكثير حتى من كبار المسؤولين في الحكومة الانتقالية يختلفون في فهمهم للأزمة برغم وضوحها للعيان والمكتوي بنارها وهم جماع الشعب السوداني، كذلك وُفق عندما ذكر بأن الثورة منحت فرصة تاريخية لبلادنا بما طرحته من ملامح المشروع الوطني المنشود عبر شعار (حرية سلام وعدالة).

أن توضيح د. حمدوك لمظاهر الأزمة التي يعشها السودان في هذه المرحلة وخطورتها على الانتقال لم يكن واضحا بالشكل المطلوب في قوله " أن التحديات العديدة التي تعترض مسار الانتقال أهمها الوضع الاقتصادي والترتيبات الأمنية والعدالة والسيادة الوطنية..إلخ"، وذكر العديد من النقاط التي لا أرى أنها تشكل عائق، لكن د. حمدوك أعفى نفسه من المسؤولية كرئيس وزراء ولديه الكثير من الصلاحيات التي كان بامكانه استخدامها في معالجة الكثير من الأمور، مع العِلم أن منصب " رئيس الوزراء" تنفيذي وليس شرفي، لكن للأسف حدث العكس تماما ان تهاون حمدوك في عدم استخدامه لصلاحياته جعل من هم في المنصب الشرفي يصدرون القرارات المهمة التي هي في الأصل من صلاحيات رئيس الوزراء، الأمر الذي مكّن من تعدد مراكز القرار وهو ما اعترف به سعادته.


غياب البرنامج..!!


وفي نفس النقطة يرجع رئيس الوزراء بعض الاشكالات إلى غياب الأولويات والتصور المشترك للانتقال، حقيقة صدمت من ذكر هذه النقطة صدمة شديدة، لأن د.حمدوك عندما تم اختياره لرئيس الوزراء رسميا وأدى القسم على تحمل هذه المسؤولية كان عليه أن يضع الأولويات الوطنية المهمة في كافة مجالات الحُكم، ومن ثم يضع برنامج زمني للتنفيذ، مع الوزراء المعينيين، لكن هذا للأسف لم يحدث وكثيرا من الكُتاب والمحللين في وقتها كانوا يطالبون ببرنامج واضح للحكومة، حتى تسهل عملية الرقابة الصحفية والاعلامية والتقييم بين فترة وأخرى، لذلك اعتقد أن غياب برنامج الحكومة كان له أثر كبير في الكثير من الاشكالات التي حدث في البلاد.


أتفق مع د. حمدوك كليا في وصفه لواقع الحال "الوجه الجديد للأزمة وخطره على السودان"، وتأكيده على "أن تصاعد الخلاف بين شُركاء الفترة الانتقالية يُشكل خطراً جدياً لا على الفترة الانتقالية فحسب بل على وجود السودان نفسه"، نحن نشهد على المجهودات الكبيرة التي قام بها في التواصل مع الأطراف المختلفة ونزع فتيل الأزمة، وفي هذا السياق يقول د. حمدوك في حديثه " أرى أن الأزمة لن تحل إلا في إطار تسوية سياسية شاملة تشمل توحيد الجبهة المدنية والعسكريين وإيجاد رؤية مشتركة"..إلخ نتفق جميعا على أهمية التسوية السياسية لإخراج البلاد من أزمتها لكن مع المحاذير القوية والمتمثلة في عدم الزج بمصالحة أرباب النظام البائد تحت أي ذريعة من الذرائع، وعدم التسويف في ملف فض اعتصام القيادة العامة، بل وضعه كأولوية من أهم الأولويات وكذلك محاكمة كل المتهمين في القضايا ذات الصلة بمقتل الثوار.


أسس التسوية


النقاط التي ذكرها د حمدوك حول أسس التسوية السياسية الشاملة في نقاطها الثمانية كشفت عن خلل كبير جدا، وجاء هذا الكشف متأخرا وفي الزمن الضائع بعد أن تسبب هذا الخلل في العديد من الأزمات التي عاني منها شعبنا على مدى عامين متواصلين، وهي أزمات ليست سياسية فحسب بل اقتصادية واجتماعية..إلخ، مثلا عندما ينادي حمدوك بتوحيد مراكز القرار داخل الدولة وعملها وفق رؤية مشتركة، هذا يعني أن البلاد كانت ولا زالت تتعدد فيها مراكز القرار، وهو ما اتاح للآخرين أن يتدخلوا في أمورنا وفي أدق تفاصيل أزمتنا، أعتقد أن الجميع يتفق معي على أن تعدد مراكز القرار مكن من صدور قرارات كثيرة غير متزنة وغير صالحة للتنفيذ في كافة المجالات بما فيها ما يتعلق بعلاقاتنا الخارجية، خاصة إذا أدركنا أن ما يقودون البلاد في المناصب العليا سواء كانت مدنية أو عسكرية يختلفون فيما بينهم فكريا ومعرفيا وعمليا، وتتباين خبراتهم العملية لذلك نجد ضحايا كثر لهذه القرارات التي صدرت بدون وجه حق منطقي..!.



أجد نفسي أتفق تماما فيما ذكره د. حمدوك حول أسس التسوية السياسية الشاملة في كل نقاطها الثمانية، ومن أهمها حسب تقديري الشروع مباشرة وعبر جدول زمني متفق عليه في عملية الوصول لجيش واحد مهني وقومي بعقيدة عسكرية جديدة عبر عملية للإصلاح الشامل وبما يعبر عن تنوع السودان الفريد، والاتفاق على آلية موحدة للسياسة الخارجية وإنهاء التضارب الذي شهدته الفترة الماضية، ومن أكثر النقاط الحساسة وذات الأبعاد المهمة في قيادة السودان نحو المستقبل هو ما عبر عنه د. عبدالله حمدوك في دعوته لـ"الالتزام بتفكيك دولة الحزب لصالح دولة الوطن وبناء دولة مؤسسات وطنية مستقلة، والتزام جميع الأطراف فعلاً لا قولاً بالعمل من أجل الوصول إلى نظام حكم ديمقراطي مدني يقوم على أساس المواطنة المتساوية وإجراء انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة".


نحو الانتقال الديمقراطي


واضح أن رئيس الحكومة د. عبدالله حمدوك قد بذلا جهدا كبيرا وواضحا حتى ترى هذه المبادرة النور، وقد يعتقد خطاءا الكثير من الناس بأن الاعلان عن خروج مليونية يوم (30 يونيو) هي التي جعلت حمدوك يعلن هذه المبادرة، لكن المتأمل في نصها وما احتوت عليه من رؤى وأفكار يجد أن المبادرة ليست وليدة يوم او يومين بل هي ثمرة جهد ربما امتد طويلا ويتضح ذلك من التفكير العميق في رؤية حمدوك في المخرج من الأزمة والذي اطلق عليها في نص المبادرة بـ"الطرق للأمام"، وهي رؤى اخذت في حسبانها مقرتحات كأساس لأي تسوية سياسية تبعد شبح الأزمة الحالية وتفتح الطريق نحو الانتقال الديمقراطي من خلال إصلاح القطاع الأمني والعسكري، إذ تنادي المبادرة بضرورة إصلاح هذا القطاع باعتباره "قضية وطنية شاملة لا تقتصر على العسكريين ويجب مشاركة المجتمع السياسي والمدني في رؤية الإصلاح، وهي قضية مفتاحية لكل قضايا الانتقال وبدونها لا يمكن حل قضايا الاقتصاد والعدالة الانتقالية وبناء الدولة المدنية".


وحول ما يتعلق بقضايا العدالة أعتقد ان المبادرة عالجتها بشكل كبير ومقبول للجميع وتقول أن "قضايا العدالة هي أحد أركان ثورة ديسمبر وشعاراتها وهي قضية ممتدة طوال امتداد سنوات نظام الإنقاذ الثلاثين وصولاً لجريمة فض الاعتصام ويجب حلها وفق الأسس التي تتمثل في عدم الإفلات من العقاب، إنصاف الضحايا وأسرهم،  ضمان إصلاح المؤسسات العدلية والأمنية، تحقيق الأهداف التي من أجلها استشهد الآلاف وضمان عدم تكرار هذه الجرائم في المستقبل".


سيناريو تحقيق العدالة..!


المبادرة وضعت سيناريو محدد لتحقيق هذه النقاط وفق خطوات تتمثل في "تكوين لجنة وطنية للعدالة الانتقالية تتولى مهمة الاتفاق على القانون والمفوضية وتصميم عملية شاملة بمشاركة ذوي الضحايا تضمن كشف الحقائق وإنصاف الضحايا والمصالحة الشاملة والإصلاح المؤسسي الذي يضمن عدم تكرار جرائم الماضي مجدداً"، و" الفراغ من تحقيقات فض الاعتصام وتحديد المسؤولين جنائياً عنها والإعلان عن إجراءات عملية بشأنها تنصف الضحايا وتحقق أهداف الثورة وتضمن نجاح المرحلة الانتقالية، ومثول المطلوبين أمام المحكمة الجنائية الدولية، وإصلاح الأجهزة العدلية وإكمال بنيانها المؤسسي وتفكيك التمكين بداخلها.


من الملاحظات السلبية للمبادرة في ما يتصل بتحقيق العدالة أن د. حمدوك وضع من ضمن الخطة " تكوين لجنة وطنية للعدالة الانتقالية"، وهذه من أكثر الاشكالات التي نعاني منها لأن تجاربنا مع تكوين اللجان تجارب مريرة جدا ولنا في ذلك تاريخ من الاحباط وأكبر دليل على ذلك (لجنة التحقيق في فض الاعتصام) ورئيسها نبيل أديب، أعتقد ان د. حمدوك في هذه لم يوفق، حتى أطفالنا يعرفون القولة الشهيرة "إذا أردت ان تقتل قضية شكل لها لجنة"، هذا واقع لا أحد ينكره، لذلك على د. حمدوك والمجتمع المدني والسياسي في البلاد عند تناولهم لملف العدالة أن يتحسبوا لموضوع اللجنة المشار إليها، بالنسبة لما يتعلق بموضوع الضائقة المعيشية وملف السلام في صلب المبادرة اتفق تماما مع ما جاء في رؤية السيد حمدوك وفي ما دعا إليه ووضعه من ضمن الملفات المهمة في مبادرته القيمة.


التفكيك ومحاربة الفساد والخارجية


المبادرة اعتقد لمست باهتمام كبير غالبية الملفات المهمة وفي ما يتعلق بتفكيك النظام البائد وتصفية ركائزه، ودعوة حمدوك لإتزام جميع الأطراف بتحقيق هذه المهمة داخل المؤسسات المدنية والعسكرية هو أمر في غاية الأهمية الاستراتيجية لأن لجنة ازالة التمكين تعتبر من أهم مخرجات الثورة كونها تسترد الأموال المنهوبة وتعيد صياغة مكونات الانتاج الوطني بصورة أكثر حرفية لذلك يعول عليها كثيرا في الانتقال الاقتصادي خاصة وان الفترة الاخيرة شهدنا متغيرات ايجابية في هذا المسار، إن دعوة المبادرة لمراجعة تجربة لجنة إزالة التمكين وتطويرها نحو تحقيق أهدافها، أمر محمود ومهم في ذات الوقت.. الجميع يتفق معه.

وبالنسبة للسياسة الخارجية والسيادة الوطنية أعتقد ان المبادرة عالجت هذا الملف بطريقة جيدة لكنها دعت أيضا إلى "تشكيل آلية واحدة بين الأطراف المكونة للمرحلة الانتقالية للإشراف على ملف العلاقات الخارجية، وتوحيد الرؤى وتمتين علاقاتنا الإقليمية والدولية"، اعتقد انه من الافضل تشكيل لجنة من الخبراء في المجال الدبلوماسي يعهد إليهم هذا الأمر، بدلا من تشكيل الآلية من الاطراف المكونة للمرحلة الانتقالية، ربما لا تتفق الأطراف على اسماء المرشحين ولا على عدد الأشخاص الممثلين لهم في اللجنة.


المجلس التشريعي الانتقالي


من المدهش في خطاب رئيس الوزراء حول تشكيل المجلس التشريعي ما ذكره حول " محركة" المكونات المدنية في وضع أمر المجلس موضع الاهمية، وأن عبارة "محركة" في الدارجة السودانية تعبر عن حالة الارتباك والتخبط لدى هذه المكونات، لذلك ارى أن دعوة د. حمدوك بالتزام جميع الأطراف بتكوين المجلس التشريعي في مدة أقصاها شهر من الآن وبمشاركة جميع الأطراف باستثناء المؤتمر الوطني ومن أجرم وأفسد في حق البلاد، أمر صائب جدا ويدخل كافة المكونات في تحدي مع أنفسهم لطي صفحة هذا الأمر الجلل.


خلاصة القول أن رئيس الحكومة د. عبدالله حمدوك قد وضع الجميع في تحدي كبير جدا وأعتقد انه بتقديمه لهذه المبادرة الوطنية القيمة قد برأ نفسه تماما من اتهامات بالتقصير مستقبلا، ورمى الكرة في ميدان المكونين المدني والعسكري بأن يتحملوا المسؤولية الوطنية وان يتركوا عنهم المكائدات لبعضهم البعض، لأن الشعب السوداني قد تحمل بما فيه الكفاية.


خالد عبدالله- ابواحمد

صحيفة (الديمقراطي)

 khssen@gmail.com

 

آراء