قراءة نقدية.. حول تناقضات ..مواقف أبناء جبال النوبة

 


 

 

قراءة نقدية.. حول تناقضات ..مواقف أبناء جبال النوبة.. وما يثار عن الهيمنة والتهميش.. من أجل البحث عن الحكمة الغائبة.. نحو وعى قومى جديد ضد التعصب

 

)  3 – 6)

 

بقلم/ آدم جمال أحمد – القاهرة

 

 كما ذكرت في الحلقات السابقة والتي وعدت فيها القراء نواصل ……

ثالثاً: موقف الحركة الشعبية وعلاقاتها بجبال النوبة:

حينما أعلن أبناء جبال النوبة إنضمامهم الى الحركة الشعبية لتحرير السودان ، كان ذلك بمحض قناعتهم بأن قضية حبال النوبة لا يمكن أن تحل إلا باللجوء إلى حمل السلاح ، لا سيما أنهم قد جربوا كافة الوسائل السلمية مع كل الأنظمة التي حكمت السودان طيلة السنوات الماضية ، ولكن دون جدوى !! وانضمام أبناء النوبة إلى الحركة الشعبية إيمانا منهم بعدالة القضية ، التي تحارب من أجلها الحركة الشعبية ، بالاضافة الى وحدة الهدف والمصير التي تلتقي فيها مع الحركة الشعبية .. وأبناء النوبة هم الذين تمسكوا بثبات ووقفوا دفاعا عن الحركة الشعبية ومكتسباتها وأهدافها .. وواصلوا معها مشوار النضال المسلح ، إلى أن وصلت  إلى ما هي فيها الآن الحركة من التفاوض !! وإرغام الحكومة على الجلوس معها في طاولة المفاوضات.

 

وأبناء النوبة لثقتهم الكبيرة في قيادات الحركة الشعبية بزعامة الدكتور جون قرنق ، فقد فوضوا أمر قضيتهم في مؤتمر (كاودا) إلى زعيم الحركة للتفاوض نيابة عنهم .. والتي كانت مثار جدل واسع لقطاع كبير من أبناء النوبة وغيرهم ، ولكن لقد تفهمت الحركة موقف أبناء النوبة ومطالبهم ، والمبرر لا يوجد منبر ثالث للتفاوض إلا منبر الإيقاد بين الحكومة والحركة الشعبية طرفي النزاع ، ولا يسمح بتناول القضية ومناقشتها إلا عبر هذا المنبر ، فإذا كانت الحكومة تفهمت قضية أبناء النوبة ومطالبهم العادلة ، لا ضير بأن يتم تكليفها ولكن لتعنت موقفها تجاه النوبة أدى إلى تزمت الموقف.

 

           والتأثير له آليات مختلفة ، لأن البيان التي صدرت تشير إلى أن هناك مواقف متباينة لأبناء النوبة بشأن قضيتهم في الوسائل ، ولكنهم يتفقوا جميعا بأن تنال جبال النوبة الحكم الذاتي وأن يحكموا أنفسهم دون تدخل أي طرف أخر ، وأن يناولوا كل حقوقهم كاملة التي حرموا منها طيلة السنوات السابقة ، في ظل كل الحكومات المتعاقبة على حكم السودان .. بالإضافة إلى توجسات الخوف ، التي تنتابهم وما تسفر عنه هذه الجولة الأخيرة من المفاوضات حول الصراع في شأن المناطق الثلاث بين الحكومة والحركة الشعبية ، والصراعات المفتعلة التي بدأت تطفو على السطح ، مما تؤدى إلى تصدع وعصف جدار وحدة النوبة .. بين القيادات تارة .. وبين بعض أفراد جماهير النوبة تارة أخرى ، ولكن يجب أن يتجاوزها أبناء النوبة بكل وعى لتفويت الفرصة على المتربصين الذين لا يهدأ لهم بال إلا بشق الصف النوبي ، ولقد تحركت بعض قيادات النوبة دوماً وعلى رأس هؤلاء القائد الميداني عبدا لعزيز آدم الحلو .. فأصدر نداءات عديدة ناشد فيها قادة الأحزاب النوبية لنبذ أساليب الخلاف جانبا مهماً كان حجمها ، والإلتفات إلى الوحدة وإعادة الثقة بينهم من أجل القضية ، والبيت النوبي يتسع لكل الخلافات مهما كانت ، لخلق التواصل والتفا كر في كيفية الدفع بقضية جبال النوبة ، كل من موقعه ..  ثم إنتظام كل النوبة في وعاء جامع لتوحيد الصف في هذه المرحلة الحرجة.

 

          وفى هذا السياق نذكر القراء بأنه في المفاوضات التي عقدت في سويسرا باعتبارها العاصمة الثانية للأمم المتحدة ، وهى من العواصم المشهورة تاريخياً بإستضافة المؤتمرات الخاصة بالصلح ، الذي أسفر عنه اتفاق وقف إطلاق النار بجبال النوبة ( اتفاق سويسرا ) ، لقد أصر فيه وفد الحكومة بأنهم لن يفاوضوا إلا أبناء النوبة في فصيل جبال النوبة بالحركة الشعبية ، فقد تناسوا شيئاً مهماً بأن الحركة الشعبية هي حركة موحدة لا يوجد شئ إسمه فصيل جبال النوبة بالحركة الشعبية ، وحتى أن عبدا لعزيز آدم الحلو ضابط وقائد ميدانى لجون قرنق وحاكم الحركة الشعبية في جبال النوبة وفي تنسيق مباشر هناك .. ولذلك هو اتفاق غير مباشر مع زعيم الحركة قرنق لأن أبناء النوبة ليس كحلفاء مشاركين بل إختاروا بأن يصبحوا مقاتلين داخل صفوفها ، وحتى أن الوفد الحكومي الذي شكل كان خالياً من أي شخص من أبناء جبال النوبة ، مما شكل حرجاً بليغاً للحكومة.

 

       الحركة ما زالت في المفاوضات الجارية في نيفاشا بكينيا تتمسك بمسألة المناطق الثلاث ، وهو موقف ثابت .. يعتبر وسيلة للتأثير والتزام من جانب الحركة بالمسئولية التضمانية تجاه هذه المناطق الثلاث ، كما أن هناك تأثير للذين حملوا السلاح من أبناء النوبة في تغيير الخارطة السياسية والجغرافية لجبال النوبة ، وكذلك الذين هم في السلطة مع النظام الحاكم في الداخل لهم تأثير طالما بالقرب من مسرح الأحداث لقطاع كبير من جموع أبناء النوبة ، مما يتطلب بأن نكسب مثل هؤلاء مهما كانت مواقفهم حتى لو ضد رغبات النوبة في يوماً ما بأن نسعى على ترغيبهم بالانضمام إلى سياج وحدة الصف النوبي ، وحتى الذين بدأت تعلو أصواتهم خارج سرب مقررات مؤتمر (كاودا) بفتح الحوار معهم ، لضمهم إلى الوعاء النوبي للاستفادة من خبرات وتجارب وقدرات بعضنا البعض من أجل المصلحة العليا للنوبة ، ولا بد من الاعتراف بالأخر ، طالما كل هذا العمل التي تعددت وسائله تخدم القضية وتخاطب أشواق أبناء النوبة ، والحكمة النوبية هي التي تخسر عندما تسود الساحة النوبية نوع من السموم والضغائن وتبادل للاتهامات لبعضنا في مثل هذه المواقف التي تحتاج لوحدة النوبة.

 

          والحركة الشعبية جسم متماسك ذات أبعاد فكرية وسياسية وعسكرية وتنظيمية ، وفق أطر أيديولوجية ونظام أساسي وفقا لمنفستو الحركة ، والذي لا يقبل التجزئة بخلق كيانات أو منابر أو أصوات تؤدى إلى تفتيت وحدة صفها ، ولكن قد تنشأ أصوات لبعض الكيانات داخل أي منظومة حينما يكون هناك إحساساً بالظلم والتهميش وقع عليها من كيان المنظومة نفسها ، ولكن ما هي الدوافع والأسباب وكيفية المعالجات لتلافى مثل هذا الإحساس ؟ !

 

           فان ما يسمى ب (صوت أبناء جبال النوبة بالحركة الشعبية ) ولد وتشكل لظرف مرحلى نتيجة لإحساس هذه المجموعة بالتهميش الذى يعيشونه داخل جسم الحركة ، في عدم إتاحة الفرصة لهم بتمثيلهم داخل مواعين الحركة الشعبية إسوة بزملائهم رفقاء النضال من الجنوبيين في المواقع الإدارية والسياسية والعسكرية أو في التدرج إلى مواقع ذات تأثير للقرار ، أو التمتع بالدورات التأهيلية لتدريب كوادر الحركة في أوربا وأمريكا وكوبا ودول أفريقيا ، بالإضافة إلى فرص التأهيل الاكاديمى للجامعات والدراسات العليا ، أو صقلهم في دورات محلية وهى أضعف الإيمان ، لتخلق منها قيادات فاعلة ومقتدرة في العمل السياسي والادارى والتنظيمي ليمثلوا الحركة في مكاتبها الخارجية ، التي يسيطر عليها أبناء الجنوبيين فقط ، أو إعدادها لقيادة دفة العمل السياسي في بلادهم بعد تحقيق السلام.

 

نتفق أن هنالك عدم توزيع عادل للفرص فلا بد أن تكون هناك عدالة في توزيع هذه الفرص والمهام التنظيمية والإدارية على الكفاءة والعطاء ، ونحن نثق في كفاءة وعطاء وجهود صوت أبناء جبال النوبة إذا اتيحت لهم الفرصة داخل الحركة الشعبية لتجاربهم وخبراتهم في مجالات مختلفة ولكن في نفس الوقت الجسم وليد ظروف مرحلة لذلك لا يمثل منبر ولكن له أهداف يحتاج أن يعرفها الآخرين ، وحتى أن هناك همساً بدء يعلوا بين صفوف بعض قيادات الحركة الشعبية في زيارتهم الأخيرة إلى القاهرة تتسأل باستغراب عن صوت أبناء جبال النوبة وإلى ماذا يهدف وما هي أجندته.

 

ولكن ما يهمنا أن القضية المباشرة المتصلة بقضية جبال النوبة في الوقت الحالي ، هي إصرار الحكومة على حدود 1956 والتي تضم الجنوب بحدوده الجغرافية المعروفة ، وعليها وقعت الحركة اتفاق "مشاكوس" قبل رحيل الاستعمار البريطاني من السودان بولاياته الثلاث (أعالي النيل – الاستوائية – بحر الغزال) ، وبينما تصر الحركة على ضم المناطق الثلاث (جبال النوبة – النيل الأزرق – أبيي) إلى الجنوب بحيث أن هذه المناطق تتمتع بأهمية إستراتيجية واقتصادية ، وتعد مناطق عازلة بين الشمال في حالة إختيار الجنوب للانفصال.

والآن كثيراً من أهالي تلك المناطق حاربوا مع الحركة الشعبية ، وكانوا وقوداً للحرب بالجنوب منذ عام 1985م ، وبما أن منطقة أبيي وخاصةً من خلال مطالبة أبنائها وقيادات الحركة بإلحاقها إدارياً إلى بحر الغزال بالجنوب ، كما ألحقت إدارياً من قبل إلى الشمال ولقد سعت مجموعات كبيرة من أبناء منطقة أبيي بعقد مؤتمر للإجماع على قرار بشأن منطقهم .. والحركة تدرك أنه سيكون من الصعب عليها الوصول إلى نتائج محددة بشان قضية الحدود الجغرافية للجنوب ، وهي تلح في مطالبها من خلال رؤية ورقتها التي قدمتها في معالجة إشكالية هذه المناطق الثلاث ، من أجل الضغط على الحكومة لتقديم تنازلات في مجالات لإرضاء حلفائها في جبال النوبة ، الذين حاربوا معها على مدى 18 عاماً ولا تزال أعداداً كبيرة منهم تحت لواء الحركة ، وإذا حدث أى تهاون أو مساومة من الحركة في المطالبة بحقوقهم ، فسوف يشعرون بأنهم قد خدعوا وتم الغدر بهم .. ولكن ما زال موقف الحركة ثابت وهي تلح في التمسك بهذه المناطق ، والتي تحتاج إلى دعم من أبناء هذه المناطق ، بالتحرك السريع من خلال ممارسة أسلوب دبلوماسية المذكرات لتحريك المجتمع الدولي وتسيير المظاهرات والضغط بكافة الوسائل لإرغام الحكومة للقبول بمطالب أبناء هذه المناطق العادلة.

 

والحركة تعلن بان ضم هذه المناطق الثلاث وفي مقدمتها جبال النوبة لحدود الجنوب ستكون ضمانة لوحدة السودان عند إجراء استفتاء لسكان الجنوب بعد السنوات الست ، التي نص عليها اتفاق مشاكوس .. لأن سكان تلك المناطق ليسوا انفصاليين .. ولكن بنفس القدر لهم مطالب شتئ تتمثل في الحكم الذاتي وحق تقرير المصير بعد الفترة الانتقالية بالانضمام إلى الجنوب ، الذىيربطهم به وحدة النضال المسلح والهوية الإفريقية ، أو إلى الشمال الذي عانوا منه طيلة العقود الماضية من ويلات الإهمال والمظالم والتهميش ، ولم تنل نصيبها في التنمية والبنية التحتية ، وقد أدى ذلك إلى ترسب المرارات والضغائن في نفوسهم ، وكثرة إحتجاتهم في المطالبة بالعدالة والمساواة لحقوقهم ، ومتى ما تم سيكونون مع السودان الموحد ، وفي حالة التعذر الشروع في إقامة دولة خاصة بهم ، ومع ذلك فان النوبة بإعتبارهم من سكان السودان الأصليين يؤمنون بوحدة تراب السودان ، إذا ما تمت بأسس جديدة تحفظ لهم حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كاملة دون تقصان أو وصاية من أحد ، سواء كان ذلك على مستوى المركز أو الإقليم ، ومن ثم فأن المطالبة بحق تقرير المصير يعتبر حق مشروع وطبيعي تكلفه كل المواثيق الدولية فهو لا يعنى الانفصال.

 

والمحادثات الجارية الآن مضروب عليها نوع من السرية في كثير من المسائل التي تم حسمها بضغوط أمريكية ، لأن السلام الجاري سوف يصبح واقع ولكنه بصنع أيادي خارجية تربطها مصالح وعلى رأسها أمريكا ، فيجب علينا كنوبة الإنتباه لها وفهمها وإدراك مراميها من ثم التدبير والتفكير فيما يمكن عمله لدرء المخاطر القادمة ، وهاجس الخوف في عدم إنصاف النوبة في قضيتهم وليس في إمكاننا تعديلها أو تغييرها طالما تتمتع به من حماية عالمية ذات حول وقوة.

لقد أصبحت آمال وأشواق وتطلعات أبناء النوبة موزعة بين هاجس الخوف والأمل الذي يحدوهم ، بأن تحقق لهم جولة مفاوضات نيفاشا كل حلمهم ، الذي يكمن في معالجة إشكالية المناطق الثلاث بإيجاد الحل العادل والشامل لها .. !! والحكومة من جانبها ما زالت تصر على التمسك بهذه المناطق الثلاث ، وتعتبرها جزءاً من الشمال لا يمكن التفريط فيها للأهمية الاستراتيجية لها ، فأصبح صراع ( الهلبة) يدور الآن بين الحكومة والحركة الشعبية حول منطقة جبال النوبة والنيل الأزرق ، وصارت التنبؤات صعبة وشائكة بشأن جبال النوبة ، ونحن لا سيما لقد أمتطينا قطار الحركة الشعبية للمفاوضات المتجه إلى تحقيق السلام ، والذي لا محالة أنه قادم ، فلا ندري أين تكون المحطة النهائية للقطار ، ونحن قد فوضناها للتحدث نيابة عننا في قضية جبال النوبة .. فأصبحنا نعيش على أمل الانتظار لكي تسلمنا الحركة مفاتيح السلام بمنطقة جبال النوبة على ظهر حصان طروادة !! فما هي رؤيتنا نحن كأبناء النوبة لهذا السلام الذي لا محالة قادم ولكن كيف ومتى ؟! وما هي رؤيتنا إذا فشل هذا السلام في تحقيق مطالب أبناء النوبة وما هي البدائل والضمانات ؟.. نعم لقد عزمنا العقد إذا لم تحقق هذه المفاوضات أهدافنا ومطالبنا في جبال النوبة سوف نواصل مسيرة النضال المسلح وتناسينا بأن هناك اتفاق دولي وقوة تمنع نشوء أى قوة مسلحة جديدة ومن أين يأتى النوبة بالدعم وما هى ضمان إستمرارية ونجاح هذا النضال المسلح الجديد ومسارح القتال ومن نحاربه الشمال أم الجنوب.

والى اللقاء في الحلقة القادمة.................

القاهرة   -   18 يناير 2004 م

 

آراء