قرار المحكمة العليا بتأييد الحكم على عمر البشير في قضية التعامل بالنقد الأجنبي

 


 

 

قرار المحكمة العليا بتأييد الحكم على عمر البشير في قضية التعامل بالنقد الأجنبي ومخالفة قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه، والأسس التي انبنى عليها

د. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب
يعد حكم الدائرة الجنائية بالمحكمة العليا في محاكمة عمر حسن أحمد البشير الذي صاغه مولانا محمد علي أبو سبيحة بتاريخ 20/9/2020 أحد الأحكام المهمة في مواجهة رموز النظام الفائت. وهو بحق حكم تاريخي للظروف التي أحاطت به وللموضوعات التي تصدى لها، وأرسى بموجبها مبادئ ذات أهمية. فهو أول الأحكام التي أصدرت فيها المحكمة العليا حكماً باتاً في إطار النظر في قضايا الفساد المالي خلال فترة الإنقاذ، وهو أيضاً أول حكم يصدر في مواجهة رئيس جمهورية لجرائم ارتكبت في عهده منذ أن نال السودان استقلاله.

وتتلخص وقائع القضية كما ثبتت لدى المحكمة أنه بتاريخ 16 أبريل 2019 صدر أمر تفتيش لمقر الرئيس السابق عمر البشير وتم العثور على مبالغ مالية بالدولار واليورو والجنيه السوداني، إضافة إلى دفاتر شيكات سودانية وأجنبية باسمه. وتم استجوابه وسجل اعترافاً قضائياً بذلك، ومن ثم صدر حكم من أول درجة بإدانته تحت المواد (21) من القانون الجنائي لسنة 1991مقروءة مع المادتين (9) و (6) من قانون تنظيم النقد الأجنبي لسنة 1981 والمادتين (6) و(7) من قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه لسنة 1989. وقد حكمت المحكمة عليه بالايداع بإحدى مؤسسات الرعاية الاجتماعية لمدة سنتين نسبة لبلوغه (76) عاما. وأيدت المحكمة العليا ما سبق أن قررته محكمة أول درجة ومحكمة الاستئناف، وناقشت عدداً من النقاط التي أثارتها هيئة الدفاع، يمكن تحليل أهمها على النحو التالي:

أولاً: تسلم المدان هدية من ولي العهد السعودي تعادل خمسة وعشرين مليون دولار، إلا أنه قام بإخفائها عن الجهات الرسمية المختصة ومن ثم خالف مضمون إقرار براءة الذمة الذي يلزمه وفقاً لأحكام المادة (9) من قانون مكافحة الثراء الحرام والمشبوه بكشف أي أموال يحصل عليها بصورة دورية أو طارئة تدخل في ذمته، مع بيان سبب هذه الأموال ومصادرها.

دحضت المحكمة ما ذهبت إليه هيئة الدفاع بأن المدان لم يحول هذا المبلغ لمصلحته، وقررت أنه لم يودع المبلغ في أي من الحسابات المصرفية أو في بنك السودان وإنما احتفظ به بصورة شخصية. وقام بتوزيع جزء منه بموجب مستندات لا يحمل بعضها شعار رئاسة الجمهورية. ودفعت هيئة الدفاع بأن المدان لا تنطبق عليه صفة الموظف العام وهي شرط أساسي للادانة بموجب قانون الثراء الحرام والمشبوه. إلا أن المحكمة ارتأت أن المشرع لم يفرق بين منصب رئيس الجمهورية وشاغلي الوظائف العليا القيادية في الخدمة المدنية والنظامية بما في ذلك نوابه ومستشاروه والوزراء ورئيس القضاء وضباط قوات الشعب المسلحة والقوات النظامية من ذوي الرتب التي يقررها رئيس الجمهورية. فكل هؤلاء يعتبرون موظفين عموميين بالمعنى الوارد في المادة (3) من القانون الجنائي، ومن ثم يخضعون لأحكام قانون الثراء العام والمشبوه إذا حصلوا على أموال لم يكشفوا عنها. وأوضحت أن الحكمة من الإقرار أن المشار إليهم بحكم وظائفهم لهم السلطة في الشؤون الإدارية والمالية وأوجه النفوذ الأخرى، ويخشى استغلالهم لهذه السلطة لتحقيق مكاسب شخصية. فحرص القانون على إلزامهم بتقديم براءة الذمة لتحديد ما لديهم من أموال وطرق ومصادر الحصول عليها.

ثانياً: اجتهدت هيئة الدفاع في إقناع المحكمة بأن المتهم لم يتعامل بالنقد الأجنبي، ولم يثبت أن أنه كان يبيع أو يشتري أو يمول. واعتمد المحكمة على اعترافات المدان في تقرير تعامله بالنقد الأجنبي، فقد اقر بسداد مبالغ مالية لجامعة أفريقيا ومشروع القسطرة وهيئة التصنيع الحربي ومبلغ للرئيس التشادي ومجمع صافات القابضة وقوات الدعم السريع وشركة (س) وجهاز زراعة الكبد وقناة طيبة الفضائية. وأفاد بأنه كان يعطي طارق سر الختم قروش عندما يكون محتاجاً لعملة أجنبية ومن ثم يحضر له مقابلها بالعملة المحلية، وأنه لا يدري هل طارق يدفع بالسعر الرسمي أو السعر الموازي لأنه كان يستلم بالعملة الأجنبية ويسلمه بالعملة المحلية. وهذا يثبت أنه تعامل بالنقد الأجنبي بطريقة تخالف القانون.

ثالثاً: اثارت هيئة الدفاع مسألة إجرائية تتعلق بعدم اختصاص المحكمة، بحجة أن المحكمة الدستورية هي المختصة لأن الأفعال التي يحاكم عليها المتهم ارتكبها أثناء ولايته لرئاسة الجمهورية. وقد رفضت المحكمة هذه الحجة بناء على أن المدان أصبح مواطناً عادياً ويحاكم امام المحاكم العادية وقررت (أن سلوك المدان كان مشيناً ولم يصدر قرار من الهيئة التشريعية بمحاكمته أثناء تمتعه بمنصبه الرئاسي وأصبح مواطناً عادياً بعد عزله، فضلاً عن ذلك أن وضعه الرئاسي لا يخوله مخالفة قانون التعامل بالنقد الأجنبي ولا يخوله مخالفة قانون الثراء الحرام والمشبوه). وهذه القاعدة تقصر محاكمة رئيس الجمهورية أثناء توليه الرئاسة فقط فإذا انتقت الصفة فإن المحاكم العادية هي التي تتولى ذلك

رابعاً: تمسك الدفاع بنقطة ذات أهمية وهي أن الإقرار القضائي الذي قام بعمله المدان تم تدوينه داخل السجن، بينما السجون ليست مجلس قضاء. وقبلت المحكمة العليا هذا الدفع وأوضحت أن من يرغب في الإقرار فعليه أن يأتي طواعية لمجلس القاضي، وإن كان محبوساً يحضر أمام القاضي لتدوين اعترافه. أما ذهاب القاضي إلى المتهم في محبسه فيلقي بظلاله على عنصري الطواعية والاختيار كما يؤثر على حياد القضاء إلا في حالة الضرورة، وفي هذه الحالة على القاضي أن يدون الاعتراف القضائي وأن يوضح الأسباب التي حملته على الذهاب لتدوين اعتراف المتهم في محبسه وذلك لدرء الشبهات. إلا أن هذه النقطة لم تغير في مجرى الإدانة، حيث أن الإدانة لم تؤسس على الاعتراف القضائي الذي تم تدوينه في سجن كوبر وإنما على إقرار المتهم عند استجوابه في المحكمة وبحضور هيئة الدفاع، كما أنها اعتمدت على بينات أخرى تعضد الإقرار.

خامساً: اثار الدفاع نقطة أخرى قبلتها المحكمة العليا وكان يمكن أن تطيح بالإدانة وهي بطلان إجراءات التفتيش، التي تمت في غياب المتهم وذويه وهذا يخالف ضوابط وإجراءات التفتيش المقررة بأحكام المادة (95) من قانون الإجراءات الجنائية التي توجب إجراءات التفتيش في حضور شاهدين وأن يكونا بقدر الإمكان من أقرباء المتهم أو المقيمين معه أو الجيران ويسمح لشاغل المكان المراد تفتيشه بحضور إجراءات التفتيش، وتعرض المضبوطات على المتهم لإبداء رأيه ويوقع على محضر التنفيش وغيرها من الضوابط، وهذا ما لم يتم مراعاته. وقد قررت المحكمة أن المدان لو أنكر صلته بالأشياء المضبوطة لأضحت الدعوى الجنائية ضده بلا أساس قانوني. إلا أن المحكمة أسست الإدانة على إقرار المتهم أمامها عند استجوابه وعدم اعتراضه على نتيجة التفتيش.

بالطبع فإن هذه المحاكمة بينت بالدليل المادي أن تقديم قضية مؤسسة تأسيساً قانونياً أمام القضاء وفقاً للتشريعات الحاكمة، أكثر أماناً وعدالة وتحقيقاً لمقتضيات التصدي للفساد والكشف عنه وإصدار العقوبات في مواجهة مرتكبيه، بما في ذلك تطبيق قانون الثراء الحرام والمشبوه الذي يضع قواعد يمكن البناء عليها في استرداد الأموال الحكومية وفي ذات الوقت يمنع التدخلات السياسية التي يمكن أن تطيح بقضية العدالة وتفتح الباب أمام إجراءات غير مكتملة.

د. أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب

abuzerbashir@gmail.com
/////////////////////////

 

آراء