قرن على مولد “جمال محمد أحمد”
هو الأستاذ / جمال محمد أحمد ، قرن مضى على مولده في سرة شرق (1915- 2015 ). قرية مُعذبة في السودان الشمالي ، نستأنس بذكراها ، وقد أخلدت إلى النسيان ، فجاء بها صاحبنا وزُفتْ إلى العالم الأول مجداً .قمر التاريخ يغيب وشمس المستقبل تتحدى الأضواء .
لا نعرف لسيدنا وصفاً دقيقاً ، فهو مجموعة مُبدعين اتفقوا أن يتكوّنوا في جسدٍ واحد ، يتنازعونه بينهم منذ الميلاد (1915) في الذكرى المائة لميلاده ، إلى أن تركت الروح لهم الجسد في ثمانينات القرن الماضي ، فأضحوا تماثيل ماثلة تكاد أنت تحس فيها الحياة و عيونها مفتوحة مُبصرة ، وروح صاحبها مُحلّقة في جلال ، وأنت تقرأ ...
(1)
تدخل معبد القراءة لنص من نصوص سيدنا " جمال " ، تتوقف الكائنات كلها عن المسير والركض والطيران والسباحة ، والنبض منك يكاد يتوقف ، أما الرئتان فهما اللتان يتمددان أو يتقلصان ، لا أحد يحسهما ، والجسد رافل في نعماء السُكون الطَرِب . ها أنت قد دخلت عالم " جمال " الساحر . صدق من قال قديماً " إن من البيان لسحر ".
تبلى كل الطرائق التي ينتهجها أصحاب النقد ، حين يجدون نصاً ، سبح وتمهل في طريقه للغة المستقبل . كل كلمة تخيرها صاحبها للمكان الذي يراها فيه ، في أكمل زينتها : المبنى قائماً في أزهى عِمارة للغة ، والمعنى يخاتل ، تحسبه بين يديك ، ولكنه يتسرّب من بين الأصابع .
في سينمائية مُترفة ، تجد عينيك معه والقلب أيضاً ، يستدعيك إلى بيوت مكتبات أصحابها بين سندس الجنان الثقافية الخُضر ، مما يحسبه المتعبدون مآلهم آخر المطاف . تدخل وتجده يصحبك معه يرافقك كتفاً بكتِف ، كضيف روح متألقة ، تجد أنك لا تقرأ ، ولكن تذوب في لُجين أنفاس المُحبين حين ينطق الرب بالمحبة الكُبرى .
(2)
اعتاد الأستاذ " جمال محمد أحمد " في منتصف عُمره المُبدع ، أن يجلس مساءً عند حديقة منزله وحيداً ، يجلس إلى طاولة ويكتُب بدم الروح عالماً ليس من السهل نسيانه .القليل من الأشربة و بعض الأطعمة ما يهيئ له مؤانسة نفسه ، فينطلق يكتُب . تحس أنت في أسفاره كلها أنه يجلس ليتعبد لا ليكتب . تلمح كلماته والأحرف فرحة بين يديه ، طروب تتقافزبين صويحباتها وقد عادهُنَّ الفرح والنضار، غير ما اعتاد أن يكتُب أنداده وأبناء جيله . كل جملة لوحة ، وسيناريو لقصة تتصور أنت كيف كانت وكيف ستصير في مُقبِل الأيام .
(3)
قال كاتب وروائي عن " جمال محمد أحمد " ( هو يكتُب برؤى غير عربية ) ! ، وأنا أعجبُ، إذ أن " جمال " مُتمكن حاذق اللُغتين ، غير ما قد سلف . ولكنك عندما تتفرس حياته وتاريخه ، وتعلم أنه كان مُمسكاً بلغة أم ٍ نوبيّة محليّة ،فيها التذكير والتأنيث على طرفا تماثُل كاللغة الإنجليزية . وهي وسيلة تندُّر لأصحاب لغة الأم العربية ( العامية)" من أن النوبيين يُخلطون التأنيث بالتذكير "، ولا يعلمون أنها مثل الإنكليزية تُخاطب أنتَ الأنثى والمذكر بـ ( YOU ) . ولكن الحسرة ليست في معرفة أصل اللغات وفخامتها عند النوبيين أصحاب التراث اللغوي المتقدم ، ولكن أن نستدل بلغة أجنبية هي هجين لغات ، لنتعرف على فخامة تُراثنا الذي كانت الإنسانية لديه سابقة الأمم في المماثلة بين المذكر والمؤنث .
أين نحنُ من خطاب " جمال محمد أحمد " ؟ ، وأثره في تحرير اللغة العربية من الأمثلة المعروفة ، ومن رتابة التوقُع إلى دهشة الإيقاع والتصوير لديه ، أعطى الموجز إضافة فوق نهج " الجاحظ " ، واستعان بالتأخير والتقديم ، واللعب بالمشهد ، حتى لكأنك تحس عبق المكان وروائحه .
إن هذا الإرث التراثي العظيم ، على جانب يجعلنا نُقارِن بين وبين " خليل فرح " ، حين كان الأخير ممسكاً بالعربية والإنكليزية والنوبية وعاميّة وسط السودان وباديته الوسطى ، فقد وُلِد " جمال محمد أحمد " عام 1915 ،انحدرملفوفاً في ملاءة أنثى نوبيّة في سرة شرق ، ونهض عالماً في اللغة ، اشرأب مجمع اللغة العربية في القاهرة ، وقطف ثمرته إلى حُضنه .
(4)
ليس بمقدورك أن تجد فُسحةً بين الأنا والـ أنتَ ، يستصحب " سيدنا ضيفه القارئ إلى مائدة النص ، وفضاء التخيُّل ، وهو هنا لا يبتني عالماً من القص المُتخَيَّل ، ولكنه يتحدث في مقاله الذي نحن بصدده عن وقائع عاشها في برهة من عمره ، أراد أن ينقل إحساسه بالحياة في زمانه إلى القارئ ، وأدخلنا جميعاً في فتنة ، بين أن نهوى عالمه الخاص ، وقد نحته من بيئة ملوكية لن يتردد فيها الفقراء عن القَبول بالفرح الهابط كمائدة السماء ، مع انبهار الرضا وخشوع الذين يرفعون سيقانهم إذ يحسبون مرآة أنفسهم على رُخام أرض المكان كأنه الماء !
لن نستكثر النص الذي اخترنا عليكم ، فسحره أشدّ وعلى المتوشحين شال اللغة الفخمة والجزلة أو المتدثرين بإزار الإبانة الناصعة الوضوح ، سيجدون غاية مُرامهم عند حديقة " جمال محمد أحمد" اللغوية ، ففراشاتها الملونة تُفرِح الخضرة الممتدة على الأفق ...
وإلى النص لأنه أبلغ من الحديث عنه :
(5)
مشاهِد من هارفارد
بقلمالكاتب الراحل الأستاذ / جمال محمد أحمد
هارفارد و بوسطن على ضفتي نهر شارلز طرفا شارب على شفة . دخلا التاريخ معا : بوسطن على نحو سمع العالم أصداء أحداثه ، هارفارد قرية بالقرب غير ذات شأن . هارفارد مشت مع الأيام . ازدادت صيتا و فسحة ، بوسطن أعياها ثقل التأريخ ، بلت . لو لم تكن هارفارد لأضحت بوسطن مدينة يروحها عشاق الآثار والباحثون عن أنساب أهل العُلا ، المتخيرون طعامهم وشرابهم من مطاعم و مشارب في مجتمع أوصد الأبواب على نفسه وقنع بالذي كان . هارفارد باعثة الحياة فيها بأساتذتها وطلابها و زائريها . لكنهما يحتاجان لبعض ، حاجة الزوج والزوجة يعرفان انهما لا " يلفقان " ، " كارهان معا يعيشان " .
اليزابيث هاردوك
*
" بوسطن " نوفمبر 1959 م
(يقولون عن هارفارد إنها عن نفسها راضية ، وبها مزهوة . كثيرون يرمونها بهذا وهي كمن لا يعي بالقالة ماضية شأنها ، بعض الأحايين تضع في يد القائلين المُبرر . فعلت هذا وهي تحتفي بمن تخرجوا عام 1935 م منها . كان حافلا برنامج الحفاوة وشملت محاضرة عنوانها " واستوت في السماوات هارفارد " قصد الذين قاموا على الحفل أن يروحوا عن أنفسهم وأنفس زوارهم بعنوان كهذا للمحاضرة ، ولكن ما كان بد من أن يتساءل الناس ، قالوا ، أتصدر النكتة إلا عن فئة من الناس تكاد تقول لغيرها أنظروا هاهُنا نحن القلة السعيدة ، لا يرقى لقمم سعدنا إلا المصطفون . )
ماكس كنلف " هارفارد "
*
يوليو 71
في الشقة رقم 34 من الطابق الثالث والأخير في عمارة تُمسِكْ باثنتين أخريين عن يمين ويسار ،تطل كلها على بستانها الخاص وأشجارها الطوال حولها ، قضيت فترة الدراسية في هارفارد بدءا بأول الشتاء ختماً بأوائل الصيف ، مائة وخمسة وثلاثين يوماً . ما رأيت كل هذه الفسحة في شبه هذه الرقعة ، كان أفسح بيت صغير سكنته ، لا اذكرني افتقدت شيئا فيه . تدخل تجدك تواً فيه . قبالتكْ خزانة المعاطف ، للبرد والحر ، ومشاجب للطواقي صُنعت لتحمي الرأس والأذنين ، وقبعات خفيف بعضها للرذاذ ثقيل بعضها لحمأة الشمس، وأخرى للمظلة ، ومسندة لأحذية الشتاء وخفها وأحذية الصيف ، وفراغاً لغير هذه من واقيات الحر والبرد ، فمااشتهر هذا الإقليم بطيب المناخ .خزانة الصيف والشتاء هذه داخل الحائط في الصالون ، حيث مجلس أضيافك و مجلسك . خطوات قليلة عبر هذا الصالون يسار مدخلك فتحة لدهليز عرضه متر طوله أمتار معدودة . تقف لدى الفتحة وجها لوجه أمام خزانة شبيهة بأختها أكثر عرضاً و عمقاً داخل الحائط ملئت مفارش وأكياس وفوط و زجاجات كثيرة . هذه للبلاط ، تلك للحمام ، جنبها فوط أخرى صفراء صفت على بعضها لنظافة الغرف والأثاث . يسار هذه الغرفة باب يقود لحجرة نومك ، يمينها باب آخر لحمامك ، و خطوات من بعد قبالتك ، باب آخر يقود لمطبخك أعدّ ليخدم من يخدم نفسه ، على اليسار فتحة أخرى كفتحة المدخل على الدهليز تقود للمكتبة ، أفسح غرف البيت ، اقتعدتْ فيها طاولة الكتابة والقراءة مكاناً وسطاً وهي تكاد أن تملأ الحجرة طولا وتملاها عرضاً ، على يسارها رف للكتب بعرض الحائط هي خزانة ملابس سيد البيت ، وفي منحنى الحائط فراغ يبدأ عنده رف آخر للكتب . ترك هذا الفراغ في الحائط مكاناً لنافذتين تطل منهما إن شئت وترى من حيث تجلس إن شئت أشجارا طوالا تكاد أن تلامس النافذتين ، وراءهما شارع غير ضيق غير فسيح ، فساحة مرصوفة هي الأخرى يحف بأركانها الثلاثة شجر ، تطل عليها عمارات ثلاث شبيهات بأختها هذه في فرنالد درايف . أول المساء تمتلئ الساحة سيارات حين يعود المعلمون والمعلمون الزائرون وأهلوهم من أعمالهم في مدارس هارفارد العدة ، وتفرغ منها أول الصباح حين يروحون ، و عندها يتسلم الأطفال والأمهات الساحة ، وتملؤها لعب الأطفال وصياحهم ، وتتنقل الأمهات جماعات من دفء الشمس حين يشتد ذلك الدفء يستحيل حرارة ، إلى ظل الأشجار معهن أقفاصهن والإبر والخيوط ذات الألوان ، مكورة داخل أقفاصها الصغيرة .
إن اضطررت ليوم تقضيه داخل البيت لن توحش . النافذتان على يسارك عيناك لهذه الرئة الخضراء للطوابق الثلاثة هنا وأخواتها هناك عبر الطريق . تخضر الأشجار ويخضر العُشب في الربيع ، و تزهر الشجيرات فتؤنس ، أول الصيف يذوي الورق تسمعه يتساقط وتهرع عربات البلدية تجمعه من على الطريق ، والصفرة تستحيل مع الصيف الحارق سُمرة لها هيأيضا مذاقها ، كما لبياض الثلج على رؤوسها مذاق آخر تنسيك فرحتك بالبياض ، أن أوراق خضراء حية صحبتك ، زماناً ، آنستك . طبيعة رحيمة بك .
البيوت مرايا
بيوت الناس مرايا الناس . ظلها . سيد هذا البيت هو الأستاذ روبرت فتزجرالد ، أستاذ الدراسات الإغريقية والرومانية في هارفارد . ما أتيح لي أن أراه ، و لا عرفت على التحقيق إن كان واحداً ممن في الصور الفوتوغرافية الصغيرة الثلاث في المكتبة . هذا بيت لا يسكنه غير
رجل يحيا طمأنينة مُبدعة . كل ما في البيت سلام ، وبعيد ألا يكون هذا السلام إلا من صنع صاحبه . كل ما في البيت زاهد ، لكنه زهد من عرف كيف يجد السكينة داخله . لا يقول الواحد جديداً حين يقول إن لدراسات وقراءات واهتمامات الناس يداً في حياتهم التي يحيون والذي يتركونه وحاله . و صاحب هذه الدار ذهب المدى كله في هذا ، ذهبت به قراءاته ودراساته واهتماماته مدى أبعد مما تذهب بعامة الناس . ترى أثر هذا المتاع الذي يقتنيه ، لكني أحب أن أترك هذا من أجل نظرة نُلقيها معاً على كتبه ، وتحس سلامة وطمأنينة إن قاومت إغراء أن تخرج كتاباً من مكانه ، إنه هناك لغرض ، يريد أن يبقى جنب عترته ليس عدلاً قلقه . إنها كتب رجل يعني بكتبه عنايته بأعضاء جسده ، عينيه ، أذنيه ، ساعديه . لا سعد إن قلق كتاب ، عفر أو اتكأ .
في الصالون رف ، وفي المكتبة ثلاثة . كل ما في المكتبة ، غير القليل ، طبعات قديمة وحديثة لهومر و هيرودوتس و ثيودوسيس و هسيودو غيرهم من سدنة تأريخ وفكر و خيال و شعر الإغريق في الأصل وفي الترجمات العدة . وفي المكتبة أوفيدوفرجيل في الأصل وفي الترجمات .ما مللت الطواف على رفاق صاحب داري ، ليلة من ليالي في الشقة ولا يوماً من الآحاد التيقد تطول حين تفرغ العمارات من ساكنيها ، ذهبوا يريحون أجسادهم وأذهانهم المنهوكة أو يمتعون أنفسهم ويذكرون إن لها شهوات غير شهوة العلم ، في كيب كود ، مارتافنيارد أو بيوت ريف ، يقتنون . ما اختار صاحبي هذه الرفقة غيرها ، إلا قلة أثيرة ، اعتباطاً في الذي رأيت حولي من كُتب و من متاع . هذه فئة من الناس كبرت على الطموح نفسه ، سكونها كان داخلها علواً على صخب حروب المذهب والسلطان ، يستحيل لغير كبير على السلطان والجاه والمال والرفاه ، أن يغني كما فعل أفيد في " ايكولوجي "أغانيه التي جمعها عشاق الحياة ، ما كان يدرك وهو يغني بأنا نهتز لها نحن اليوم ألفا سنة من بعد ، بالذي كان يشدو به في زمان غير شاعر ، زمان ضجيج الفتوح ، بسالات الدماء ، سمو الغدر ، صراخ الساسة ، جدل الفقهاء حول شرعة الإمبراطورية ، عرق الناس تحت صخور الطرق يبنونها لسكارى الجند ، وعباقرة الحرب من القادة . شأنه شأن الأولين هومروهيرودوتس ممن اختاروا مجد الكلمة و جلسوا ، طوفوا ، يرقبون يكتبون خالد الشعر ويسجلون دقائق أفعال الرجال والنساء .
قرب هؤلاء يجلس وينام فتـزجرالد يستريح لأصواتهم الناعمة تصف أقسى القلوب بأنعم النغم ، يستنيم لها ، تجيئه من وراء القرون ، أصلحت صوتها السنون ، السنون تُلامسك في حنان جدك الكبير الرحيم ، على ظهرك وصدرك و ساقيك ، تخدر كلها يلذها منامهاتنام .لنخرج منشقة فتـزجرالد التي أسكن ، لدنيا هارفارد ، كمبردج ، أطلنا الوقوف عند الكتب ، والذي توحي الكتب . كفاية .
في طريقي
أنا على مسيرة نصف ساعة من صخب هارفارد . أعبر بستان العمارات الثلاث أول الصباح أدخل فرنالد درايف ، يمينها ويسارها عمارات أخرى كهذه التي في شقة منها أسكن . لكل ثلاثمن العمارات بستانها وأشجارها وشجيراتها . تنتهي كلها بعمارة مطبعة جامعة هارفارد ، ذات التأريخ الطويل ، حماها من عبدة اللوائح وسدنة الموازنات أخريات الستينات الدكتور درك بك رئيس هارفارد اليوم / كادوا بمنطقهم المالي أن يقصوا من جناحها قالوا إنها لا تنشر غير كتب العلم الخالص التي لا تنشرها المطابع التجارية ، لو لم تكن مطبعة هارفارد لماتت في أدراجها كتب من لا يكتبون لغير أضرابهم وغير طلابهم . الكتابة لطلابك وأصفيائك إثم نكير . هذه قلة . فقراء أكثرهم لا يشترون . يسار هذه المطبعة تدخل جاردن ستريت ، شارع من أطول شوارع كمبردج ، يمينك على رابية متحف النباتات ، قربه عند بييودي بيت من طوابق خمسة فيه لطلاب علم وصف الإنسان ، الأنثروبولوجيا ، كل ما يحتاجونه هنا . من خط الاستواء ومن قطب الشمال . يسارك رادكلف كلية البنات التي بدأت منذ مائة عام في زقاق قرب قلب المدينة كانت ذلك الزمان أزهر الشوارع . غير بعيد من هذه العمارة الحديثة يحيط بجوانبها كلها العليا زجاج صقيل شفاف ، منـزل الطلاب الكبار في 29 قاردن ستريت منـزل بابل كانت في بابل سيدة من السودان ، تعد لدراساتها العليا في الحقوق . أذكر دارها فأذكر منـزلا في عين شمس أظل حافظ .
ما أعرف كيف يستطعن . قال لي أستاذها إنها تسعده بالذي تكتب . في دارها كل مساء أزواج من أمريكا اللاتينية ، وأزواج من كينيا ، أنا حين يلح بي الحنين أجدني هناك . يأكلون مما تعد لهم من طعام السودان ، يأكلون كما لو كانوا يخشون أن لن يكون طعام غدا ، يرفع للسماء ثم يسترخون . يبحثون ، يأنسون ، يجدون ، يهزلون خالد الصغير ابن سيدة الدار وحده عالم . لو كان لسيدة غيرها لما كتبت بطاقة عيد . دعك بحث في فقه قانون ، قال لي أستاذها فشر ، إنه يقرأ ما تكتب كأنه يقرأ ضوءا جديدا على موضوع الكتابة .
سأسرع بك من هنا ، لن نقف عند منازل بعض المعلمين ، لن نقف عند فندق شيراتون فأمامنا ساحة لا يسعنا إلا أن نقف عندها ، إنها ساحة كمبردج . تحدثك أشجارها عن عمرها ،وكنباتها الصغيرة يمينها آية من آيات كمبردج في المعمار ، تباهي كل واحدة أختها بتاريخها وما هي في عمر سنت بول في لندن ، لكنها واحة في الصخب الذي يمر أمامها من حافلات و سيارات ومارة . حين تجيئها تجيء طرف المدينة ، بينك وبينها دقائق تطول وتطول في الشتاء ، فالأرصفة هي هي التي وسعت الناس أخريات القرن الثامن عشر حين بنيت الكنائس . ويتراكم عليها الجليد ، فتجدك تلتقط خطوك بخفية . تقف لسيدة قادمة بعض الأحايين ، وتلف جسمك يميناً أو يساراً لغيرها ، تحس لوقتك إن كنت في عجلة من أمرك إن مشيت نحو براتل ستريت حيث الطريق أفسح ، وحيث لويب دراما سنتر . إنه لا يدعك . ما عندك معدي من أن تقف عنده ، إنه مسرح المدينة الأرقى وإليه تدعى فرق الولايات المتحدة وفرق أوربا ، وكمبردج مفتونة بكل شيء حتى تخالها دعيّة . في مسرح لوب تجيء فرق أعقد الباليه وتجيء أعقد الأوبرات ، لكنك رأيت صدر حديثي هذا الحياة التي بعثتها وطلابها الأساتذة ، فلنلق من نستطيع لقاءهم في سيرنا السريع هذا ، ونلطُف بهارفارد .
جمال محمد أحمد
مجلة الدوحة القطرية ( 1978 م ـ 1979)
*
انتهى النص.
*
عبدالله الشقليني
25 يونيو 2015
abdallashiglini@hotmail.com
////////