قرية تقع في ذنب ناقة البُطانة
قومٌ هم الأنفُ والأذنابُ غيرهم .. ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
الشاعر الحُطيئة
(1)
موعدنا فاره من التطريب الذي نلناه قبل أن ننتهي من المسح الاجتماعي لقرية " عمارة البنا " ، فقد قضينا جلّ نهارنا مع عُمدة القرية الشاعر " عبدالله محمد عمر البنا ". نشرب من كؤوس راحه الشعرية، ونُشاهد تاريخ أجدادنا ، وهم يتحدثون من أفواههم وقد نهضوا من بعد كرري . نشأوا وتعلموا في مدرسة غردون التذكارية . جاء الحكم الثنائي ، الذي توجّس من شجاعة أهلنا في كرري ، فألهب الأرض والناس بالغلظة ، وأثخن الجراح . ولكن الأهل طووا صفحة الماضي وبدأوا أخرى.
*
ذهبنا : " يوسف" و"فاروق" وشخصي مع سوّاق السيارة " محمد " والحارس" عبدالرحمن " وقد عينه المجلس الريفي برفاعة ليكون رفيقاً لنا، في يوم اخترناه لزيارة القرية التي تقع في أدنى بدن ناقة البُطانة ، ولم نكُن نحن نعرف شأنها. سيارة "الجيب" التي صنعها الإنكليز لتُناسب صحراواتنا ، اختارها قسم العمارة بجامعة الخرطوم كي تصحبنا في تلك الرحلات . تفرد السيارة جناحي السرعة ، تكاد تطير، فالطريق الترابي ممهد ، وحشائش خضراء متفرقة من أثر ديسمبر 1971. عبرنا سهول أرض البُطانة المُشققة المُنبسطة وكأنها تطلُب الزراعة.
سُهُولَك وَاحَة للشوق ألمُسَوِّس فِينَا
وحُسنَك رَاحَة هَجِيع و النَسمَة هَابَة عَلينَا
مِن روحتَك خَلاص الدُنيا ضَاقَت بينا
في غِيابَك كِتِلنَا و عَضّ الصِبيع راجِينا
الهواء الصباحي العليل ، يأتينا عبر نوافذ السيارة ، نشتمّ فيه أريج سهول البُطانة ، رائحة الأرض وما عليها من عُشب. يقولون يوجد عشبٌ مُتفرد ،وفي درجات حرارة الصيف يشتعل ناراً ، فيحسبها البعض من أفعال الشياطين .
ثلاث ساعات وبلغنا القرية التي ننشُد .
وقفنا أمام " ديوان العُمدة " وانتظرناه هناك .
(2)
قالوا لنا ، عُمدة القرية يفترش خُضار في السوق ، ينتظر بيعه ، وسيأتي !. استغربنا قليلاً ، ثم طربنا لتواضع الشيخ ، إذ أنه يسلُك سلوك واحد من عامة فقراء القرية . نحن طلاب في السنة الجامعية الثانية ، نقوم ضمن فريق بحث اجتماعي مع مختصين ، نقوم بالمسح الاجتماعي في قرى الجزيرة ، تمهيداً لمعرفة طبيعة نقاط الغيار والمراكز الصحية التي توفرها الدولة ودرها في علاج أمراض أهل القرى ، و معرفة طبيعة الأمراض الشائعة بين الأهالي ، ليستنير بها الأستاذ في قسم العمارة بالجامعة " عبد الرحيم سالم " ويقدم مبحثه لدرجة الدكتوراه لا حقاً .
(3)
حضر عُمدة القرية التي تقع في ذنب ناقة البُطانة ، بعد أن باع كل الخُضروات التي كان يفترشها . وبدأنا عملنا ، بتسجيل أرباب الأسر . وقمنا باختيار عشرة أسر وفق جدول الاختيار العشوائي ، و قابلناهم ، وبدأنا شرح كيفية ملء الاستمارات المُبسطة وبيان الأمراض ثقيلة الظل على أهلنا في الأرياف ، وكيفية توفر وسائل العلاج.
قضينا وقتاً من الحادية عشر إلى الثالثة بعد الظهر. وبعد أن أكملنا العمل الميداني ، توادعنا مع الطيبين ، وخرجنا للسيارة " الجيب " ، وفاجأنا العُمدة وهو يقول :
- يا اخوانا أرجوا الشاي جايي..
استأذناه ، وشكرنا فضله ، وركبنا السيارة . وعندها تذكرنا أننا بالفعل لم نتناول أي شيء طوال أربع ساعات ! . وذلك على النقيض من كل القرى التي زرناها والمتناثرة على سهول البُطانة .
كان الحارس الذي ارسله معنا المسئولين من مجلس ريفي رفاعة ، يرتدي الجُبة والسروال "الكاكية " الخامة ، مع عمامة بيضاء ، وبندقية " أبوعشرة " . استعجبنا مسلك عُمدة هذه القرية ، وقارناه بقرى البُطانة التي زرناها من قبل ، فكانت القرية متفرّدة ، وهي بحق في ذنب ناقة البُطانة ، فسرد لنا الحارس حاج " عبد الرحمن " ، أن شاعر البُطانة : محمد أحمد أبوسن " الحاردلو " قد تزوج من هذه القرية ، وعندما أحس ببُخل القوم ، طلّق زوجته وقال فيهم قصيدة يذكر لنا منها :
عرباً تكُدّ الدوم تاكل العَكَا
ما بتكرِم الضيف كان بَكَا
( العكا هي النواة الخشبية في بطن ثمرة الدوم )
واستغرق جمعنا في الضحك . وقلنا ما ذنب المرأة التي تزوجها الشاعر ؟ .سألنا ، واستدرك حاج عبد الرحمن وهو يقول :
- كانت الرُجال تتزوج المرأة لاعتبار نسبتها لأهلها ، أصولهم و معدنهم و مسلكهم .
عبدالله الشقليني
4 مارس 2018
alshiglini@gmail.com