قصة تظاهرة لم تبدأ،غياب المعارضة، وحضور الشرطة
نقد، كتب (حضرنا ولم نجدكم):
صبيحة الامس بدأت الحركة في منطقة السوق العربي بوسط الخرطوم علي غير عادتها.. فقد قل الازدحام الذي كان يميز طرقاتها، ونشرت قوات الشرطة مركباتها علي جنبات الطرق المؤدية للسوق العربي..وعند مداخل شارع القصر، وهو الطريق المؤدي الي «ميدان ابو جنزير» المكان الذي اختارته المعارضة السودانية مسرحاً لمسيرتها السلمية لمناصرة الثورات العربية في كل من «مصر وتونس». ولكن مسرح التظاهرات لم يكن مجهزا بما يكفي لاستقبال المتظاهرين، فقد سبقتهم إليه قوات الشرطة والاجهزة الامنية التي تمركزت بمركباتها وجنودها في قلب الميدان وعلي جنبات الطرق المؤدية إليه منذ الصباح الباكر، ولم يجد القادمون للمشاركة في المظاهرة علي قلتهم سبيلا للوصول الي المكان المحدد للتظاهر، حيث سيطرت الشرطة والامن علي مداخل الميدان منذ وقت طويل قبل موعد التظاهرة.
اذاً المسيرة التي شغلت سيرتها الناس طيلة الاسبوع الماضي بجدل التصديق لها من عدمه، كتبت لها التعزيزات الشرطية والامنية الا تري النور وسط الخرطوم..ليس لجهة رفض التصديق لها من قبل السلطات الأمنية، وانما كذلك لحالة الهلع التي تملكت كثيرين جراء الاخبار التي دمغتها بالتخريبية لزعزعة الامن والاستقرار من السلطات الرسمية والحزب الحاكم «المؤتمر الوطني» الذي تتهمه الاحزاب المعارضة بالسعي لمنع التظاهر السلمي وكبت الحريات وخوفه من ان تفلت الامور من بين يديه وخشية ان تنتقل التظاهرات السلمية الي ساحة مواجهة مفتوحة مع النظام من قبل كثير من المتربصين به. ولكن يبدو ان تقديرات السلطات الامنية كانت أكبر من قدرات المعارضة، فعندما حانت ساعة الموعد المضروب للتظاهر كان ميدان ابوجنزير خالياً إلا من عربات الشرطة التي تتوسطه وعدد من عربات تبدو للاجهزة الامنية يرتدون زياً مدنياً، وكان تحلق الصحافيين حول ميدان التظاهر أكثر وضوحاً من المتظاهرين، الذين لم يطل من قادة احزاب المعارضة بالميدان الذي تعاهدوا علي التجمع فيه سوي سكرتير الحزب الشيوعي محمد ابراهيم نقد، الذي حينما لم يجد قادة الاحزاب الذين تعاهدوا علي قيادة المظاهرات، والاعلان عن مخاطبة السيد الصادق المهدي للمتظاهرين بالميدان، كتب سكرتير الحزب الشيوعي محمد ابراهيم نقد علي احدي قطع الورق «كرتونة» كانت ملقاة جواره بقلمه بعد ان طلب «فحمه» ولم يجدها للكتابة بها النص الذي دونه علي الكرتونة بقلمه «حضرنا ولم نجدكم» وألقي بها علي الارض، قبل ان تحمله الاجهزة الامنية علي عرباتها بجانب مرافقيه، كما اقتحم ساحة الميدان أحد الانصار والذي بدأ يهتف ويكبر قبل ان تقبض عليه الاجهزة الامنية وكان الصوت الوحيد الذي هتف بميدان التظاهر.
وكانت الشرطة والاجهزة الامنية قد طوقت ميدان ابوجنزير ومنعت الاحزاب من التظاهر فيه، كما القت القبض علي حوالي «36» من المتظاهرين الذين حاولوا الوصول لميدان ابوجنزير، وعدد من الصحافيين قدموا لتغطية التظاهرة، تم اقتيادهم الي قسم الخرطوم شمال وبعد التحريات الاولية تم توزيعهم علي عدد من اقسام الشرطة لمباشرة اجراءات التحري معهم، ودونت في مواجهتهم بلاغات تحت المواد «69/77» من القانون الجنائي المتعلق بالازعاج والاخلال بالأمن العام، وقد تم اطلاق سراح بعض الموقوفين، فيما لازال بعض الموقوفين قيد التحري حتى كتابة هذه المادة، وأكد الناطق الرسمي باسم قوات الشرطة الفريق أحمد امام التهامي لـ»الصحافة» توقيف عدد من المتظاهرين وتدوين بلاغات في مواجهتهم تنفيذا لسيادة القانون وعملاً بنص المادة «127» من قانون الاجرءات الجنائية «الشروع في تنظيم وتسيير مواكب وتجمعات بدون اذن» ، واعتبر التهامي، ما تم بالامس من تظاهر غير مشروع لأنه لم يصدق به من قبل السلطات المختصة.
وكان معظم المشاركين في التظاهرة من قبل احزاب المعارضة يتحلقون حول مداخل ميدان ابوجنزير والطرق المؤدية له، ولم يستطيعوا الدخول للميدان بعد ان طوقته الاجهزة الشرطية والامنية. وقالت احزاب المعارضة في مؤتمر صحفي بدار الحزب الشعبي بالرياض امس، ان قوات الشرطة والأمن احتلت الميدان واغلقت الطرق من الجهات الاربع المؤدية اليه، وانها اعتقلت ثلاثة من قيادات احزاب التحالف وهم السكرتير العام للحزب الشيوعي محمد ابراهيم نقد، والاستاذ ابراهيم الشيخ، رئيس حزب المؤتمر السوداني، ودكتور جمال ادريس، رئيس الحزب الوحدوي الناصري، وعدد من القيادات والطلاب والقواعد لم يتم حصرهم، واعلنت اطلاق سراح معظم الذين تم القاء القبض عليهم، مشيرة الي ان عددا من المتظاهرين تعرضوا للضرب الشديد، وقال تحالف احزاب المعارضة انهم فوجئوا فجر امس بالقبض علي بعض قادة التحالف من منازلهم بدعوي انهم منظمون للتظاهرة «محمد ضياء، طارق عبد المجيد، ميرغني عبد الرحمن» ، وقالت ان الاسبوع القادم سيشهد اجتماع رؤساء الاحزاب لحسم مسألة الحوار مع المؤتمر الوطني، وقالت انها ستتقدم بشكوى، للامين العام للامم المتحدة، ضد قسم حقوق الانسان بـ»اليونمس» لأن لديهم تفويضا للدفاع عن حقوق الانسان وانهم متداخلون مع النظام بشكل مرفوض للمعارضة، وانها ستُشهد في ذلك الخبير الدولي لحقوق الانسان شاندي. وقال فاروق ابو عيسي رئيس هيئة احزاب التحالف الوطني، انهم كانوا متوقعين ان يمنعوا من التظاهر، واضاف «لكننا توقعنا هذه المرة ان يكونوا عقلانين..لكن مُنعنا» ، وقال ابوعيسي اننا نعتبر انفسنا انجزنا، واننا ماضون في الطريق الصحيح للاعداد ليوم المفاصلة بيننا وبين هؤلاء الناس، واشار الي ان قوات الامن طاردت المتظاهرين وضربت وقبضت علي بعضهم من داخل الجامع الكبير بالخرطوم، مشيرا الي ان هدفهم الاستراتيجي هو المضي قدما في تغيير النظام، واضاف «سواء بالتي هي احسن نحن لها، او بغير التي هي احسن فنحن اهل لها» ، وقال «اننا ليس لدينا مشكلة مع الشرطة، وان الشرطة عمرها لم تكن منحازة ويجب الاتكون لهم مشكلة معنا، واشار الي انهم تقدموا باخطار للشرطه بناءً علي توجيه وزير الداخلية العام الماضي بتقديم اخطار فقط لقيام اي منشط سياسي، وقال انهم لم يطلبوا ترخيصا ومن هنا ومستقبلا لن نطلب ترخيصا». ومن جهته قال الاستاد الاستاذ وجدي صالح ان تهديد المؤتمر الوطني بقمع المظاهرات قبل أجهزة الامن تصريح خطير يهدد البلاد، يثبت به المؤتمر الوطني انه لا يحترم القانون ولا الاجهزة التي تطبق القانون، ووصف تصرف الاجهزة الأمنية في قمع المظاهرات بأنه غير قانوني وغير اخلاقي في كثير من الاحيان. من جهتها قالت القيادية بحزب الامة مريم الصادق، ان هذه التظاهرة فيها رسائل واضحة، منها ان الحكومة تصنفهم عند التعبير عن رأيهم بأنهم خيانة، وتسمح لفئاتها بالتظاهر، ثانياً: ان هناك تماهياً بين قوات الشرطة والأمن يقدح في مهنية الشرطة ، ثالثا: المجتمع الدولي صامت فيما يتعلق بالحفاظ علي حقوق الانسان، وقالت انه لا مناص من التغيير.
الاعداد القليلة التي قدرها الصحافيون، من المتظاهرين الذين حاولوا العبور الي ميدان ابو جنزير، لم يجدوا سبيلا لذلك ولم تمض ساعتان علي موعد بدء التظاهرة حتى بدأت الحركة علي الطرقات المؤدية الي ميدان ابو جنزير بشكلها العادي، في وقت خلا فيه المكان من أي مظهر من مظاهر التظاهر. فيما أرجع البعض ضعف المشاركة الجماهيرية في التظاهرة التي دعت لها احزاب المعارضة امس، الي الطريقة التي تعاملت بها الشرطة مع الوقفة الاحتجاجية التي نظمتها مبادرة «لا لقهر النساء» أول أمس، حيث أوقفت الشرطة «48» من المشاركات في الوقفة الاحتجاجية ، ودونت في مواجهتهن بلاغات تتعلق بالازعاج والاخلال بالأمن والسلامة قبل ان تطلق سراح بعضهن بالضمان، كما قررت السلطات محاكمة الموقوفات، وكانت المحتجات ترددن هتافات تندد بممارسات شرطة النظام العام، ويطالبن بحلها قبل ان تستخدم قوات الشرطة العصي والغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرات.
وفي مسرح أخر بدا وكأنه استجابة للمظاهرة التي دعت لها احزاب المعارضة أمس، وبعيداً عن ميدان ابو جنزير، كان هناك مشهد آخر بدا متأثراً بما يجري في ابوجنزير ، حيث وقعت اشتباكات بين طلاب احزاب المعارضة والطلاب الاسلاميين بجامعة النيلين، وقد حاصرت قوات الشرطة جامعة النيلين بمنطقة المقرن غربي الخرطوم، التي شهدت اشتباكات بين طلاب قوي احزاب المعارضة والطلاب الاسلاميين، وكان طلاب المعارضة يعتزمون الخروج للشارع لمؤازرة المتظاهرين في ميدان ابوجنزير، تصدت لهم الشرطة التي منعتهم من الخروج من سور الجامعة بعد أن ضربت طوقاً أمنياً حول الجامعة مما ادي لاشتباكهم مع الطلاب الاسلاميين بكلية الاداب بالجامعة.
وتسجل هذه المظاهرة السلمية التي كان من المفترض ان تنطلق أمس لاحزاب المعارضة، الثالثة من نوعها، منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل في العام 2005م وانخراط الاحزاب المعارضة في العمل السلمي من الداخل، بعد تجربة التجمع الوطني الديمقراطي من الخارج، وفي كل تلك التظاهرات السابقة كانت احزاب المعارضة تصفها بالسلمية والحق المشروع للتعبير عن الرأي، فيما تدمغها الحكومة والمؤتمر الوطني بالخروج علي القانون ومحاولة احداث الفوضي والتخريب، لذا تقوم السلطات الأمنية بعدم السماح لها وتعقب المشاركين فيها، بدواعي عدم الحصول علي تصديق لها من جهات الاختصاص. حيث شهد شهر ديسمبر 2009م، المظاهرة الثانية، تزامنت مع اشتداد الصراع السياسي حول تعديل القوانين خاصة قانون الأمن الوطني واجازة قانون الاستفتاء لجنوب السودان، حيث اقدمت قوي تحالف المعارضة او ما اصطلح علي تسميته وقتها «بتحالف جوبا» علي القيام بمظاهرة أمام المجلس الوطني في السابع من ديسمبر، من أجل الضغط علي البرلمان لإجازة قانون الاستفتاء والامن الوطني، واحتجاجاً علي الاوضاع السياسية التي يصفونها بالمكرسة للشمولية والخانقة لمسيرة التحول الديمقراطي الذي اقرته اتفاقيات السلام المختلفة «نيفاشا، ابوجا، اسمرا» الموقعة بين كافة اطراف الصراع السوداني والحكومة، حيث تصدت لتلك التظاهرة قوات الشرطة التي فضتها بالغاز المسيل للدموع، كما تم اعتقال عدد من القيادات كان اشهرها الامين العام للحركة الشعبية باقان اموم ونائبه ياسر عرمان، وقد مثلت تلك التظاهرات التي تكررت بعد اسبوع في ام درمان اول مواجهة سياسية بين احزاب المعارضة والحكومة، كما كانت الاكثر مشاركة من حيث المتظاهرين مقارنة بمظاهرتي الأمس، و «الاربعاء 2008م» التي عرفت بمظاهرة زيادات الاسعار. وقد اكتسبت تظاهرة تعديل القوانين في ديسمبر 2009م قيمتها الجماهيرية من الحراك السياسي الذي كانت تشهده الساحة السياسية، حيث كانت في اوج الحراك الانتخابي الذي افرز العديد من التداعيات السياسية، كما أن تلك المظاهرة شاركت فيها الحركة الشعبية الشريك الأكبر في حكومة الوحدة الوطنية وصاحبة الرصيد الجماهيري الكبير في العاصمة الخرطوم، وقد دعت جماهيرها للمشاركة في التظاهرة كما اعلنت وقتها مشاركة وزرائها بالحكومة في التظاهرة، الأمر الذي عزز من ثقل التظاهرة جماهيرياً بالاضافة الي مشاركة كل الاحزاب السياسية المعارضة فيها.
وكانت أول مظاهرة قادتها احزاب المعارضة بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل في اغسطس من العام 2008م، احتجاجاً علي زيادات اسعار السكر التي اقرتها الحكومة وقتها لتغطية العجز في الميزانية، حيث كان عدد المشاركين في تلك التظاهرة قليلاً مقارنة بالرشح الاعلامي الذي صاحبها وقتها، في وقت لم يظهر في تلك المظاهرة أي من رؤساء الاحزاب الذين أعلنوا مسبقاً قيادتهم لتلك التظاهرة، وقال مراقبون وقتها ان تلك المظاهرة أبانت الضعف الجماهيري الكبير الذي تشهده الاحزاب السياسية وبُعدها عن العمل الجماهيري في السنوات التي سبقت توقيع اتفاقية السلام الشامل ، الامر الذي جعل الالتفاف الجماهيري حولها والاستجابة لنداءاتها بالخروج للتظاهر ضعيفاً بدرجة كبيرة انعكست علي المظاهرة، وهو ذات الأمر الذي تكرر أمس بميدان ابو جنزير من ضعف للمشاركة في التظاهرة ، عزاه مراقبون لعدة اعتبارات تكتنف العمل الحزبي الجماهيري للقوي المعارضة في السودان.
khalid balola [dolib33@hotmail.com]