قصتي مع منصور خالد لورد أمدرمان

 


 

 


abusamira85@gmail.com
بدأت قصتي مع د.منصور خالد في العام 1978 عندما شاهدته وجهاً لوجه أثناء زيارته بصفته وزيراً للتربية والتعليم العالي في السودان، مدرسة الخرطوم الثانوية العليا الجديدة، التي كنت حينئذ طالباً فيه.
كان يرتدي بدلة ذات لون رمادي ناصع يميل إلى اللون الأبيض تخلله مربعات خطوطها من لون رمادي قاتم يميل إلى اللون الأسود.
أما الكرافتة فقد كانت عريضة جدا بألوان لم أستطع تبين كنهها حينئذ، لكن بدا لي أنها تكمل لوحة الألوان المتنأثرة في البدلة
وأذكر أن معظم حديثه في تلك الزيارة تركز حول مكتبة المدرسة، وأهمية أن يتوسع الطلاب في (القراءة المكثفة) في مختلف ضروب المعرفة.
أما معرفتي بـ د. منصور خالد أشهر من تولى وزارة الخارجية في السودان، فقد بدأت من طرف واحد في فترة مبكرة من بدايات وعيي الشخصي تعود إلى مطلع ثمانينيات القرن الماضي، عبر كتابه الأول والأشهر (حوار مع الصفوة).
وكان هذا الكتاب - حين اقتنيته - النجم البارز بين مطبوعات جناح دار جامعة الخرطوم للنشر في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الأولى في أرض المعارض بمدينة نصر خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة من شهر يناير للعام 1980، وكنت حينها طالباً في السنة الأولى من دراستي الجامعية.
وأعادت قراءة الكتاب إلى ذهني عبارة (القراءة المكثفة) التي اعترف أنها شغلتني كثيراً منذ ذلك الوقت، وساهمت كثيراً في تحسين وتطوير قدراتي القرائية.
ولد د.منصور خالد وتربى في بيئة دينية محافظة ومتفقهة، وغلبت الغربة على حياته الشخصية، لدرجة اعتبار أنه لورد من أزقة أمدرمان نشأ في منطقة يشهد بعراقتها كل أهل السودان تمتد من (علايل أبوروف إلى المزالق).
ولفت نظري في هذا الكتاب عندما قرأته للمرة الأولى قبل 35 عاماً ثلاثة شواهد:
أولها: إن د.منصور خالد رجل مستقيم الفكرة نزيه الرأي ليس له حسابات سياسية، وكان ذلك نوعاً نادراً من المثقفين السودانيين والعرب في ذلك الوقت.
ثانيها: إن د.منصور في حوار مع الصفوة كان رجلاً لا يمارس ألاعيب السياسة، ولم تشغله أي معارك سياسية تقتضي المجاملة أو شيئاً من التنازلات. كان يكتب ما يعتقد أنه الصواب.
ثالثهما: توفر د. منصور خالد على إمكانيات ذهنية وثقافية تشير إلى مفكر كبير متابع بدقة للتطورات السياسية والفكرية في العالم. وفوق كل ذلك فهو الدارس المتعمق للقانون والسياسة مما ساعده على تكوين عقلية مركبة تستلهم عبقرية التناقض وتكتشف الروابط بين التطورات.
كتاب حوار مع الصفوة
تعيدنا هذه المقدمة 50 عاماً إلى الوراء إلى مجموعة مقالات نشرها د.منصور خالد بتشجيع شديد اللهجة من عميد الصحافة السودانية الراحل بشير محمد سعيد (1923 ـ 1993) أحد مؤسسي كبرى الصحف السودانية (الأيام). منصور خالد يقدم في حواره مع الصفوة خطابه المعاكس الذي يمنع الضمير من أن يُشيح بنظره، أو أن يستسلم للنوم، فضلاً عن أن التاريخ لا ينتهي ولا يكتمل أبدا.
ومن ثم جمعت في كتاب قدم له رائد التنوير السوداني الراحل جمال محمد أحمد (1915 - 1986)، مرتين في عامي 1965 و1968، لكنها ظلت حبيسة حقيبة سفر لا ترتاح.
وأخيراً تيسر لهذه المقالات أن تصدر في كتاب بعنوان (حوار مع الصفوة) يحتوي على 230 صفحة نشرته جامعة الخرطوم في العام 1974، وقدم جمال محمد أحمد بمقدمة ضافية نلتقط منها عبارة مهمة جداً تقول منصور خالد قومي سوداني أكبر من كل بطاقة يسير بها الناس.
نحن الآن أمام كتاب يحتوي على مقالات صحفية نشرت في العام 1965، لكن عندما يدون تاريخ المقال الصحفي في السودان، سيتضح أن د.منصور خالد كاتب من طراز فريد، فهو أحد قلائل كتبوا المقال الصحفي عن خلفية علمية متميزة فقد كان إعداده الجامعي يؤهله لمهنة القانون التي سرعان ما هجرها للعمل في المجالات الإنسانية وممارسة السياسة التي سلك فيها دروبا وعرة منذ شبابه الغض. وهنا تحضرني شهادة الشاعر المطبوع حسين بازرعة وهو زميل لـ د.منصور خالد في مدرسة وادي سيدنا الثانوية.
يقول بازرعة في شهادته للصحفي المخضرم كمال حسن بخيت "شاهدت مجلتي النيوزويك والتايم لأول مرة في مدرسة وادي سيدنا في العام 1948 عند منصور خالد الذي لا تجده إلا ومعه كتاب.
كتاب لورد من أمدرمان
بعد 50 عاماً من نشر تلك المقالات رسخ في ذهني أن أعيد قراءة تلك المقالات وأجمعها في كتاب، لأن القضايا التي أثارتها ما تزال تملأ حياة أهل السودان السياسية بكل ما في كلمة تعقيد من معاني.
ويرى البعض أن حوار مع الصفوة عبارة ذات بريق ودلالة يُعتد بها، لكنها عبارة فضفاضة وضبابية كمدلول لاتجاه يعكس غموض الطبيعة البشرية.
لكن هذا الرأي يدحضه أن تحليل مضمون مقالات د.منصور خالد تعني بالحوار أن يحقق الإنسان بغض النظر عن الجنس أو اللون أو العرق أو الدين، أكبر قدر ممكن من التطابق بين أقواله وأفعاله، شريطة انطواء تلك الأقوال والأفعال على تثمين للحوار وللإنسان نفسه كأعلى قيمة في الوجود.
ولعل المفكر حين يثير الحوار، يقدمه بحسبانه (ذاكرة مضادة) على حد تعبير ادوارد سعيد، بمعنى أن د. منصور خالد يقدم في حواره مع الصفوة خطابه المعاكس الذي يمنع الضمير من أن يُشيح بنظره، أو أن يستسلم للنوم، فضلاً عن أن التاريخ لا ينتهي ولا يكتمل أبدا.
كذلك الأمر في قضايا الحوار الجدلية التي يستحيل تجاوزها، بل إنها ليست قابلة لأن تُطوى في توليفة راقية، أو نبيلة، وهذا ما يمكن ملاحظاته بوضوح في مقالات كتاب (حوار مع الصفوة).
تدوين التاريخ
هناك خاصية تنقل المقال الصحافي إلى تدوين التاريخ. ويستوقف القارئ لكتاب (حوار مع الصفوة) أن الكاتب اختار لحظة تاريخية حاسمة من تاريخ السودان، وتحديداً عقب ثورة أكتوبر 1964، كي يطرح أفكاراً يتجاوز بها نمط التفكير السائد واللغة التقليدية في إطار قراءة موسوعية للمتغيرات العالمية وإدراك عميق للتطور الإنساني بمنهجية صارمة ميزت الكتاب.
وجاءت خريطة تبويب الكتاب في ثلاثة أبواب غطت ثلاثة محاور متصلة سياسياً وتاريخياً بموقف الكاتب من الحدث والوصول إلى المعلومات التي تعد سيفه الباتر في طرح القضايا ومحاورة الأطراف، وهنا تصبح مرجعية الحوار والكتابة (المعلومات).
غير أن المعلومات عند د. منصور خالد لا تقف غايتها عند حدود الدليل، بل تصبح جزءاً من الذاكرة التي قد تقود الكاتب إلى صدامات مع رؤى وأفكار ومراكز قوى ومشاريع في الداخل والخارج.
كما تشكل ثقافته السياسية والتاريخية مراكز قوته في الكتابة، بل يكشف مؤلفه عن قدراته الكبيرة في تحليل الحدث والاعتماد على المعلومات في توضيح الأبعاد والمفارقات المصاحبة لدور الكاتب في تمتين النص.
ولعل الاعتماد على المعلومات قد جعل من كتابات د.منصور خالد في مستوى قراءة التاريخ، وربما قادته إلى مواجهات عاصفة على أصعدة مختلفة، وتلك صلة بين الصحافة والسياسة تحددها الأسباب في فترات من الزمان قلما تتكرر.
ابتدر د. منصور خالد، مقالاته بموضوع الدستور الذي يعد أشهر قضية مؤجلة في السودان منذ استقلاله في يناير 1956، وهنا تكمن المفارقة، فالأفكار التي دونها د. منصور خالد في جريدة (الأيام) بتاريخ 28 فبراير 1965، هي ذات الأفكار التي أذاعها جمال محمود وزير الدولة بمجلس الوزراء السوداني بتاريخ 28 يوليو 2015 حول اتفاق الأجهزة العدلية في السودان على 14 موجهاً لإعداد دستور دائم يتوافق حوله المجتمع وتلتف حوله القوى السياسية مكوناتها.
الليلة والبارحة
أثار د. منصور خالد أفكاراً حول الخدمة المدنية في فبراير 1965 حول مستقبل التنمية في السودان، يقرر فيها أن الخدمة المدنية لكي تكون خدمة عامة سليمة تتطلب غرس قيم المسؤولية الشخصية واحترام الملك العام والمواطنة الصالحة.
د. منصور خالد تناول الدور الذي تلعبه الثقافة والتربية في تأكيد الشخصية القومية وخلق الفكر الوطني الجديد الأصيل.والآراء التي طرحها قبل 50 عاماً محتفظة بصلاحيتها وملاءمتها لأوضاعنا الحالية.
وقد لا تشبه الليلة البارحة، إلا أن المفارقة أيضاً أن مؤتمراً بدأ الإعداد له في فبراير 2015، وضم 1200 من قيادات الخدمة المدنية التقوا في 30 يوليو 2015 بمقر مجلس الوزراء السوداني برئاسة الفريق أول بكري حسن صالح النائب الأول للرئيس السوداني، انتهى إلى إصلاح الخدمة المدنية وتنمية مواردها البشرية، تحقيقاً لمبدأ العدالة والمساواة ومراجعة تشريعاتها وآلياتها.
رغم أن د. منصور خالد تناول الدور الذي تلعبه الثقافة والتربية في تأكيد الشخصية القومية وخلق الفكر الوطني الجديد الأصيل.
إلا أن الآراء التي طرحها قبل 50 عاماً محتفظة بصلاحيتها وملاءمتها لأوضاعنا الحالية، خاصة حديثه عن التثقيف الشعبي كعنصر مكمل للتربية والتعليم.
عندما كتب د. منصور خالد مقال (يوم أكل الثور الأبيض الشيوعية وخطرها الداهم) كان عمره بالضبط 34 عاماً و10 أشهر و15 يوماً، ولعله كان يسلك طريقاً جديداً ينقلنا إلى القواعد الأخلاقية التي يجب أن يرعاها الناس في العمل السياسي.
والشاهد أن د. منصور خالد كشف أن اهتمامه بالوطن ليس اهتمام أهل السياسة الذين يجمعون الأخبار للتندر على الحكومة في آخر الليل.
أما الجديد الذي تقدمه 12 مقالة توزعت على 78 صفحة من الباب الثاني الذي يحمل عنوان الكتاب (حوار مع الصفوة)، فهو اختفاء لغة معقدة الصياغة في الكتابة السودانية، أخذت زخمها السياسي من سطوة اليسار في ستينيات القرن الماضي.
وهي لغة تزدحم بالجمل الطويلة والشعارات الباهتة التي يضيع القارئ في إحالة المعاني أو الضمائر إلى كلمات مفهومة مباشرة ذات معانٍ واضحة، والذي حصل في ذلك الوقت أي قبل 50 عاماً من زماننا هذا، أن لغة د. منصور خالد حلت بجملها القصيرة أكسبت النص حيوية وحركة تجعل المعاني حاضرة نابضة.
وقد يقول قائل إن هذه الحيوية ناتجة من أن العودة للتراث، تعني العودة للأصل الثقافي؟.
عمليتا القراءة والفهم
تتفق قراءتي مع مقولة الناقد بول دي مان عملية القراءة حري بها أن توضع فيما بعد عملية الفهم، وهذا ما ينطبق تماما على كتاب (حوار مع الصفوة).
فقد كان واضحا لـ د.منصور خالد أن المستقبل يتجه نحو تزايد التراجع وإغراءات الانكفاء على الذوات المحلية، إضافة إلى نمط التفكير المثالي عند فريق ومظهر حسن النية عند فريق ثاني وغلبة الجماعة المهيمنة عند الكثيرين قد ساهمت هذه العوامل في الركون إلى وهم يمكن أن نطلق عليه اسم (التوحد القومي).
وكان واضحاً أن الغزو الثقافي وتزايد الاختلاط بالخارج سيفضي إلى تآكل القيم وأنماط السلوك لصالح أنماط واردة أهمها المزاج الاستهلاكي والتفاخري.
وكل هذا الوضوح يعزز نظرية ظلت مستمرة حتى الآن، وفحواها أن الأنظمة السياسية المتعاقبة على حكم السودان منذ استقلاله في يناير 1956، لم تنطلق من رؤية ثقافية ولا مشروع مجتمعي يستند إلى منظومة قيم بعينها.
وواقع الحال الآن قد يصل بهذه النظرية إلى القول إن المثقفين الذين اجتذبتهم الأنظمة السياسية المتعاقبة على حكم السودان قد خدموا أنفسهم، وتلك الأنظمة أكثر مما خدموا أفكارهم ومشاريعهم المجتمعية.
والحاصل أن المعارف والتقنيات الغربية قد أحدثت حالة استلاب شبه كامل اختفت معه كل مظاهر النقد والانتقاء.
ومن أكثر المجالات التي حدث فيها الاستلاب المجال الاقتصادي.
ويمثل د. منصور خالد في حواره مع الصفوة حالة مختلفة، لم يتوقف عند النقد، بل سعى إلى تقديم بديل مستنداً إلى رؤية اقتصادية تقوم على مفهوم العدالة ومعالجة التفاوت المريع بين فئات المجتمع دون تعطيل لقوى الإنتاج.
والمؤسف أن التحذير الذي أطلقه قبل 50 عاماً ضد تفشي الاستهلاك التفاخري والقطاع الطفيلي، قد صار اليوم السمة الغالبة لمجمل الاقتصاد السوداني.
وللأسف أيضاً أن دعوته إلى تأسيس رؤية سودانية اقتصادية، لم تجد من ينبري لها حتى الآن.
الحذر وعدم الثقة
تعمل النخب السودانية في جو سياسي قوامه الحذر وعدم الثقة بين مختلف الفرقاء السياسيين وسيادة ثقافة المعارضة، وتزايد أدوار البيروقراطية ضمن المناصب العليا للدولة.
النخب السودانية ظلّت تعمل في جو سياسي قوامه الحذر وعدم الثقة بين مختلف الفرقاء السياسيين وسيادة ثقافة المعارضة، وتزايد أدوار البيروقراطية ضمن المناصب العليا للدولة.
وهنا أحس د. منصور خالد بالمسؤولية الأخلاقية والتاريخية تجاه ما يجري وتجاه الحقيقة، لا ضمن تقاليد جيله فحسب، بل وبوعي متزايد واستشراف اللحظة والوقوف في مهب الآتي عبر الحديث في قضايا مثل: القومية، أصالة الثقافة السودانية، فاعلية الإسلام، ومكانة السودان في أسرته العربية وقارته الأفريقية.
ورغم أن هذه القضايا لا تزال ترواح مكانها في حياة أهل السودان، إلا أن د. منصور خالد قد قدمها قبل 50 عاماً بالشكل الذي سيسمح بحدوث نوع من التجديد والتبدل في الأدوار.
ولعله كان مشغولاً في (حوار مع الصفوة) بإثارة أسئلة مهمة مثل هل يمكن لنخبة سياسية تفضل مصالحها الذاتية أن تراعي مصلحة الوطن والأمة؟ وهنا تصطدم إجابة السؤال بأن خطابات اليمين السياسي فقيرة وبئيسة، تردد نفس الألحان والأوزان وقصص البطولات.
أما اليساريون فلا يزالون تائهين بين ماضيهم ومستقبلهم وتشرذم جماعاتهم.
وضمن هذا السياق، تعيش الصفوة في الأحزاب السياسية السودانية أزمة حقيقية على مستوى تدبير اختلافاتها الداخلية ووظائفها الاجتماعية والسياسية.
فالديموقراطية الداخلية تصبح بدون جدوى كلما تم الاقتراب من مراكز القرار داخل الهياكل الرئيسية للحزب، حيث يفرض أسلوب التزكية والتعيين نفسه بقوة، ويسود منطق الوراثة في بناء الشرعية السياسية، بالشكل الذي يكرس (شخصنة) هذه الأحزاب ويحول دون تجددها.
وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن مدى جدية ومصداقية مطالبة هذه الأحزاب للأنظمة السياسية بإعمال أسلوب الديمقراطية، وذلك في الوقت الذي تتنكر له هي نفسها في ممارساتها الداخلية.
على أن المهم في ثنايا حوار د. منصور خالد مع الصفوة السودانية تأكيده القاطع على حاجة مثقفي السودان الشديدة، إلى إلغاء الفصل التعسفي بين القول والعمل، وبين الفكر والكتابة، وبين الرأي الخاص والرأي العام، أو بين الحياة الخاصة والحياة العامة.
تهدم الصورة المثالية
انتهى الفصل الأخير من كتاب د. منصور خالد (حوار مع الصفوة)، إلى أن النخبة السودانية لم يعد لها دور في صنع القرار، وبعد ذلك تهدمت صورتها المثالية وفقدت بمرور الوقت قيمتها التأثيرية على الجماهير.
وهنا يتناول د. منصور خالد، مسألة تتعلق بممارسة النخبة قد أدت إلى "خلق شعور غريب على المجتمع السوداني.. شعور الاستعلاء الطبقي الذي تبدو مظاهره ليس فقط في أسلوب الحياة، بل وفي قيم الحكم التي نسعى جاهدين لغرسها"، منتهيا إلى أن هذا (خطر كبير داهم).
على أن المهم في خواطر د. منصور خالد العشرة تأكيده على أن أهم حدث سياسي عقب ثورة أكتوبر 1964، تمثل في مشاركة العمال والمزراعين في الحكومة. واستند في هذه الأهمية إلى أن الوسط السياسي في السودان يحسب أن الحكم في أحسن الأحوال، تكليفاً لصفوة تنتمي لطوائف اجتماعية أو تشريفاً لا يستحقه لمن ينتمون لطبقات بعينها.
ورغم أن عمر هذا التأكيد تجاوز الـ 50 عاماً، إلا أنه صالح في التجريب على كل الأنظمة السياسية التي سادت في البلاد خلال الـ 50 عاماً، وربما كانت النتائج كارثية، بغض النظر عن نوع الحكم الذي تجرى عليه التجربة.
ما يمكن أن نضيفه لحوار د. منصور خالد مع الصفوة التأكيد على أن ثمة (استثنائية سودانية) ليس على مستوى تطور العلاقة بين الثقافة والديمقراطية، بل على مستوى تطور العلاقة بين الأمة والهوية القومية.
وكتب التايخ تفيدنا أن عدم حسم هذه العلاقة، يؤدي إلى تفتيت الكيانات الوطنية القائمة، ويساهم أيضاً بطرق متعددة في عرقلة التحول الديمقراطي، لأنه يكرّس (السلطة)، وليس (الدولة) كضمان لوحدة الكيانات السياسية، في مقابل صراع الجماعات ما تحت القومية.
تشكيل الرأي العام
ليس من ثمة شك، في أن الصفوة السودانية تربت في ظل ثقافة سياسية وأدبية مزدوجة، وعاشت في كنف حكومات مزدوجة تعلن عن الحرية والديمقراطية ثم تمارس القمع والاستبداد والقهر لكل من يخالفها الرأي.
الصفوة السودانية تربت في ظل ثقافة سياسية وأدبية مزدوجة، وعاشت في كنف حكومات مزدوجة تعلن عن الحرية والديمقراطية ثم تمارس القمع والاستبداد والقهر لكل من يخالفها الرأي، وهنا يثور سؤال ما هي المشكلة فهذه تربية تعرضت النخب في معظم دول العالم الثالث؟ المشكلة أن هذه النخبة أنها المسؤولة عن تشكيل الرأي العام في البلاد، فهي تحتل أغلب المناصب العليا في مجالات السياسة والثقافة والأدب، وهي تعلي من شأن من نسميهم كبار السياسيين، الذين يلعبون مع هذه النخبة الدور الرئيسي في إنتاج وإعادة إنتاج الازدواجية الفكرية والسياسية والأخلاقية في حياتنا العامة والخاصة.
ورغم كل هذا فإن لـ د. منصور خالد مقام السبق في إثارة دور الصفوة.
وصحيح أنه أمضى زهرة شبابه متعالياً على مجايليه بأناقته، والبكور في الكتابة من خلال الركض في بلاط صاحبات الجلالة، والرحيل لأوروبا، وهذا يعطي الرجل حقه في أن يكون أكثر إبهاراً؟ لعل د. منصور خالد مصاب بنار تقيم في داخله.
لم يسمح لقفازات الدبلوماسية أن تغتال قدرته على الغضب حين يتفشى الظلم، ولم يسمح لهبية الوزير أن تدفع المفكر إلى النسيان، بل صاغ ببراعة ميزان التعايش في شخصه بين جدوى الواقعية ورمانسية الأحلام.
ولعل حصاد القول إن السودان أمام تحديات ولادة مشروع وطني حقيقي يلبي طموح السودانيين، ولسنا بصدد تقييم الصفوة، لكننا نقول يا سيدي منصور خالد جبر الله مصابك في الصفوة.
شبكة الشروق

 

آراء