قصص وأمثال طريفة من التراث العبقري لقبيلة البقارة … بقلم: د. محمد وقيع الله

 


 

 


 تقع مباحث هذا الكتاب ما بين التخصصين اللغوي و(الأنثروبولوجي)، أو في نقطة  التماس والتشابك ما بين هذين التخصصين الدقيقين.
وفوق ما في هذه المباحث من دقة النظر وأصالة البحث وقوة الاجتهاد، فالقول فيها شائق، وطريف، وممتع.
ومؤلف  الكتاب هو الدكتور محي الين خليل الريَّح، الذي عمل أستاذاً للغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعات أمدرمان، والخرطوم، والرياض، وعاش حياة علمية خصبة، إلى أن توفاه الله تعالى، وهو يؤدي مناسك الحج إلى البيت الحرام.
جمع المادة كفاحاً:
جاءت هذه المباحث نتاجاً لعمل ميداني مباشر، حيث عكف الباحث على جمع مادته كفاحاً من أفواه المواطنين من قبيلة (البقَّارة)، بإقليم كردفان بغرب السودان، وقد نزل ديارهم مزوداً بأجهزة التسجيل والتصوير، وتنقل معهم على ظهور الحمر والثيران، في رحلتي الشتاء والصيف، سعياً وراء الكلأ والماء.
وانتخب للاختبار رواة للغة أقحاحاً من أهل المنطقة الذين لم يبرجوها طوال حياتهم، وآثر الأميين منهم الذين لم تختلط عاميتهم الأصيلة بلغة التعليم الحديث، التي هي العربية الفصحى، واجتهد في ضبط أصوات عامية شعوب البقَّارة برموز وعلامات مميزة تساعد القارئ على نطقها كما ينطقها أهلوها تماماً.
وفي هذه المباحث حيوية شديدة وخفة ظل مسعدة، وبعد ونأي عن التجريد المتكلف، الذي يولع به الباحثون غير المتمكنين، الذين يحاولون خداع القارئ بطنين الرطانة الأكاديمية المزعجة، وإيراد المصطلحات الفنية العويصة بمناسبة أوغير مناسبة. وما كان الدكتور الريَّح  ليلجأ لذلك وهو الذي عايش البقَّارة - موضوع مباحثه - في عمق حياتهم، واجتلب صوراً متحركة منها في الكتاب، سواء في أجزائه التمهيدية التي حدَّث فيها القارئ عن تاريخ البقَّارة، وتوزيعهم القبلي، وصفاتهم الجسمانية، وأحوالهم الاجتماعية والاقتصادية، أو تلك التي ولَجَ فيها في لبِّ الموضوع اللغوي.
في الجانب الذي اختاره الباحث لتحليل قصص وأساطير البقارة اختار مادة شيقة أورد فيها أشياء في غاية الطرافة والابداع، وألحقها في الهامش بشرح المفردات الغامضة التي التوت عن نهج الفصحى في الصرف، أو الاملاء، أو الاعراب. وبقراءة الشرح  يكتمل المعنى للقارئ، ويتضح له مرمى القصة أو الحكاية، ويستجلي بذلك عبقرية الأمة التي أفرزت تلك الآداب ورفدت بها التراث الإنساني.
شوارد الأمثال:
وقل مثل ذلك في الأجزاء التي استعرض فيها الباحث بعض المحاورات والمنافرات : " بين الزوج وزوجه، والولد وأبيه، والبنت وأبيها، والثلاث الكذابين..."، وتلك القصة التي استعرض فيها الألغاز التي يستخدمها البقَّارة كتمارين عقلية لشحذ الذكاء، والأمثال الوفيرة التي ورثوها من آبائهم في كلمات رنانة وجيزة. وقد استعرض الباحث أكثر من ثلاثمائة مثل شعبي من أمثلة القبيلة، منها ما يدرك القارئ معناه لأول وهلة، ومنها ما يحتاج لشرح يسير لكي يستجلي ويستبين.
مثال الواضح من تلك الأمثال قولهم : " البيض ما بزاحم الحجر "، ويضرب مثلاً للنهي عن اختلاط الجنسين. وقولهم : " النصيحة مربوطة في ضنب نمر "، أي في ذيل النمر، فهي لذلك تُحذر وترهب. وقولهم :" لا تندس بين العصا وقرفتها "، أي بين العصا ولحاها، ويضرب مثلاً للنهي عن التحشر فيما لا يعني. وقولهم :" الدقيق كان دفق ما بنخم كل "، ويضرب مثلاً لحتمية خسارة بعض الشيئ المضاع. وقولهم :" الكلم الحلو تطلع الداب من بيتها "، أي يستدرج الدبيب أو الثعبان ليخرج من جحره. وقولهم :" المبلول مبال بالرَّش "، وهو شبيه في معناه بقولهم :" أنا الغريق فما خوفي من البللِ". ومن أمثال البقَّارة وقولهم :" كن فاهم ما تمشي قداَّم الخبير " أي لا تمشي أمام الخبير. . وقولهم :" العندُ دقيق ما بعوز النار"، أي أن من حاز الأسمى حاز الأدنى. وقولهم :" الكلب أب سيد أخير من الهامل "،  وهو قريب في المعنى من  قول الأفوه الأزدي:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم         ولا سراة إذا جهالهم سادوا!
ومن الأمثال التي تحتاج لمزيد الايضاح قولهم : " الخريف البديك له، أمك وأبوك ما بدوك له"، وهو يضرب للحث على الزراعة في الخريف فعطاؤها جزيل جد جزيل. وقولهم :" المتمسكن ما بتمكن "، وهو تحريف للمثل القائل :" تمسكن حتى تتمكن "، وقولهم : " القِلِّ بعلم الضِّل "، وهو يعني أن الفقر قد يعلم ذويه المسكنة والضعة،  وقولهم : " المِعَضِّ الدبيب بخاف من مجر الحبل "، وهو مثل يضرب للحذر المبالغ فيه، وهو حذر مرضي  كخوف من لدغه الثعبان يوماً ما فأمسى يخاف من أثر مجرِّ الحبال على الأرض. وقولهم :"  العندو تيراب ما بدخل به التراب "، والتيراب هو البذور،  ويقال المثل لمن ينجب بعد طول عقم  أو انقطاع عن الانجاب. وقولهم :" البفارح الجريوات بنخشنُ "  . والجريوات صيغة جمع (بقَّارية) للجرو، والبفارح: من يلاعب، وينخشنَ: يخدشنَ، والمعنى بعد هذا واضح !
الشعر المُرقص:
وهنالك جانب فيه من شعر البقَّارة المرقص، قصائد ومقطوعات، تشبه أن تكون من بحر الرجز والخفيف. وقد أوردها الباحث وشفعها بالشرح، ووصف طريقة الرقص التي تصحب كلاً منها. فهنالك قصائد شعر (السنجك)  ينشده الرجال، وهناك شعر (الكاتم) تنشده النساء الحكَّامات، وهناك شعر (كورقل) وهو شعر الفروسية والفرسان، ولا يُصحب بالرقصات، وهناك أشعار تنشد للبهائم من أبقار وأغنام، و أشعار أخرى للصيد، والمطر، وأشعار في الإفصاح عن  ضروب الحكمة، والتعبير عن لواعج الأشواق والحنين، وأغراض الهجاء والرثاء والشكوى. وقد أعطى الباحث نماذج من كل ذلك وشرحها جيداً واستخرج منها الدلات العلمية التي تخدم الفرضيات التي نهض عليها البحث  .
فالقارئ المتخصص المتابع لبناء البحث وتراصِّ لبناته تشده استقامته، وتوخيه الموضوعي العلمية، والقارئ غير المتخصص ممن ينشد المعرفة الرحبة الطليقة من القيود الأكاديمية يجد بغيته من المعلومات الكثيرة التي احتواها، وكثير منها جديد لم يحظ بالتدوين من قبل، إذ كان الدكتور الريَّح أول من تصدى لتقييد شوارد الأدب الشعبي لأمة البقارة في ثنايا هذا الكتاب.
وبما أني من هذه الزمرة الثانية من القراء فأشهد أني وجدت به قسطاً طيباً من المعرفة الممتزجة بالمتعة الشاحذة للتأمل في علاقة العامية الويدة بالفصحى. وهذا بلا ريب بعض فيض عبقرية ومرونة هذه اللغة العربية الفصحى الشريفة المقتدرة على الانتشار في كل حال محتفظة بجوهرها ومتأقلمة مع الخصائص اللغوية للاقليم الذي احتوته واحتواها.
المنهجُ الأسدُّ في دراسة العامية :
إن عامية البقَّارة لم تصبح لغة جديدة، وإنما هي ظل للفصحى. ويكشف بحث الدكتور الريَّح هذا عن روابطها الوثيقة بالفصحى، كما يكشف قاموس اللهجات العامية في السودان، الذي ابتدر تكوينه وتنسيقه أحد المستشرقين، وأكمله الدكتور عون الشريف قاسم عن روابط سائر اللهجات العامية السودانية بلغة الضاد الفصحى.
وهكذا ينبغي أن نوائم بين تراث العامية والفصحى عن طريق البحث العلمى. فتراث اللهجات العامية يستحق الاهتمام العلمي المتزن، بعيداً عن غُلُواء بعض سدنة الفصحى المتشددين الذين لا يرتضون معها نَفَسَاً عامياً قط.
وبعيداً كذلك عن تنكر وتطرف الإيديولوجيين من خصوم الإسلام، وعَدَاة العروبة، وذوي الاهتمام الفائق المريب بالتراث العامي، والطامحين إلى اعلائه فوق مقام التراث الفصيح.
وبعيداً عن هذين النقيضين عمل الدكتور الريَّح على إنصاف بعض التراث، باختياره لقضايا الأدب الشعبي موضوعاً للبحث الأكاديمي الجاد، والشروع في تحليله بالأساليب المتجردة عن التحاملات والتحيزات.
وقد وفق في توظيف لغته الفصحى المتينة في الشرح والايضاح، فأجاد وأبدع، وأرانا من (المعاني المخترعة)، و(الأخيلة المجنحة)، و (العواطف الملتهبة)، والنظرات بعيدة الغور في أدب البقارة الشعبي الكثير.

mohamed ahmed [waqialla1234@yahoo.com]
 

 

آراء