قضايا: إذا حدثت الوفاة نتيجة إخفاء الجريمة لا نتيجة فعل الإعتداء ؟! .. ترجمة: عبد المنعم عجب الفَيا

 


 

 

حكومة السودان (1)
ضد
م. ح. ع.

موجز الوقائع الثابتة:
المتهم والمجني عليه المتوفى أخوان شقيقان ويمتلكان بقرة. كان المجني عليه يرغب في بيع البقرة والمتهم يمانع في بيعها. فاشتجرا. فضرب المتهم المجني عليه بعكاز غليظ فسقط أرضاً فاقد الوعي. حاول المتهم انعاش المجني عليه وإيقاظه لكن بلا جدوى، فايقن أن أخيه قد مات، فجرّه إلى بئر قريبة وألقاه فيها. لم يتمكن التقرير الطبي الإجابة عن السؤال ما إذا كان المجنى عليه قد توفي نتيجة ضربة العكاز أم نتيجة السقوط في البئر.
أدانت "محكمة كبرى" برئاسة القاضي/ محمد يوسف مضوي، المتهم بجريمة القتل العمد وحكمت عليه بعقوبة الإعدام.

ملحوظة المحرر: (أيّد رئيس القضاء الإدانة والحكم بالإعدام بالرقم AC-CP-433-1959- في 28 يناير 1960) وذلك بموجب صلاحياته تحت المادة 251 من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1925 .

خلاصة أسباب الحكم:
1- تتوقف المسألة كلها على تكييف الفعل الأول الذي أدى إلى نشوء الخطأ في توقيت حدوث الوفاة. فإذا كان الفعل الأول وهو الضربة في هذه القضية، يؤدي على الأرجح إلى تسبيب الموت، فإن الموت اللاحق بسبب الاعتقاد الخاطىء يعد قتلاً عمداً. وإما إذا كان الفعل الأول يحتمل فقط أن يسبب الموت فإن القتل يعد قتلاً شبه عمد.
2- في هذه القضية يدل الفعل الأول للمتهم دلالة واضحة على أن المتهم كان يعلم أن الموت نتيجة راجحة وليس فقط نتيجة محتملة.

حكم المحكمة الكبرى
2 ديسمبر 1959
القاضي/ محمد يوسف مضوي (رئيس المحكمة الكبرى):
(بعد سرد الوقائع جاء في أسباب الحكم) ما يجدر ذكره منذ البداية هو أن الدليل الطبي لا يساعد أبدا وذلك نسبة لظروف الحادث ولمضي فترة طويلة بين تاريخ وقوع الجريمة وبين تاريخ تشريح الجثة post-mortem وهي تقريبا 21 يوما. ولذلك اعتمدنا في هذه المسألة اعتمادا كليا على إعتراف/ إقرار المتهم.
فقد أفادنا المتهم أنه استعمل عكازا يزن 14 وقيه ونصف الوقية "معروضات أ" وأن الضربة كانت قوية واستقرت في منطقة الرقبة والكتف فوقع المجنى عليه فورا على الأرض "فوقفت بجانبه لبعض الوقت محاولا ايقاظه وانعاشه ليعود إلى وعيه ولكن بلا جدوى فأدركت لا بد أنه قد مات".
هذه الأدلة: العكاز الغليظ وموضع الضربة والقوة المستعملة في الضربة ووفاة المجني عليه الفورية بعد الضربة، تشكل معا أدلة حاسمة لإثبات أن وفاة المجني عليه كانت نتيجة للضربة. وكما ذكرنا أن التقرير الطبي جاء غامضا ولم يقدم أي دليل إيجابي في ذلك. فالطبيب، نسبة لفوات الوقت، لم يكن واثقاً ما إذا كانت عظام الجمجمة والفك قد كسرت قبل أم بعد وفاة المجنى عليه. كما أنه لم يكن متأكداً ما إذا كان المجني عليه قد مات مباشرة عند الضربة أم مات نتيجة الإختناق والسقوط في البئر.
إن فشل التقرير الطبي في تحديد هذه الوقائع يقلل كثيرا من قيمته في الإثبات ولا مفر لنا سوى الاعتماد على إقرار المتهم نفسه، وهو كما ظهر للمحكمة شخص سوي وعاقل وقد أخبر المحكمة بكلمات لا يشوبها أي غموض أنه انتظر لبعض الوقت لكي يوقظ أخيه بعد سقوطه أرضاً إثر الضربة لكنه أيقن أخيرا أنه قد مات سلفاً. وهذا يكفي لاقناع المحكمة أن المجني عليه قد مات نتيجة الضربة.
ولكن مهما يكن من أمر، وحتى ولو كان المتهم مخطئا حين ظن أن المجنى عليه قد توفى إثر الضربة مباشرة، وحتى لو ثبت أن الوفاة كانت بسبب الاختناق والسقوط في البئر، فلدينا مصادر قضائية وقانونية رفيعة تدلنا على أن ذلك لن يغير شيئا من النتيجة التي خلصنا إليها.
فقد أورد البروفيسير Glanville-Williams بصفحة 137 بالقسم العام من مؤلفه Criminal Law "القانون الجنائي" اقتباسات من أحكام قضائية في قضيتين: الأولى قضية أمريكية وهي قضية: Jackson vs. The Commonwealth وقد فصلت فيها محكمة "كينتكي" سنة 1896 والقضية الثانية هندية وهي قضية: Reg. vs. Khandu والتي فصلت فيها محكمة "بومباي" سنة 1890.
في القضية "الأمريكية" شرع المتهم جاكسون في قتل فتاة في ولاية "أوهايو" وذلك باعطائها جرعة كوكايين ولما ظن مخطئا أنها توفيت فور تعاطيها الجرعة، نقلها إلى ولاية "كينتكي" حيث قطع راسها وذلك بغرض الحيلولة دون التعرف على الجثة.
أثار دفاع المتهم في المحاكمة أنه لا يجوز إدانة المتهم في ولاية "كينتكي" بجريمة القتل العمد بزعم أن القتل لم يكن مقصودا فعندما قام المتهم بفصل رأس الفتاة كان يظن أنه إنما يتعامل مع جسد ميت. وغرض دفاع المتهم من إثارة هذه الحجة هو اقناع المحكمة أن قطع الرأس الذي نتجت عنه الوفاة لم يكن مقصوداً وذلك لكي يكون الإجراء القانوني الصحيح هو إعادة المتهم إلى ولاية "أوهايو" ليحاكم هناك فقط على جريمة الشروع في القتل.
غير أن محكمة ولاية "كينتكي" رفضت هذا الدفاع وقررت أن لديها الاختصاص القضائي بإدانة المتهم جاكسون بجريمة القتل وذلك سندا للقاعدة القانونية "ان الجريمة يعاقب عليها في نطاق الاختصاص القضائي الذي وقعت فيه".
وأما القضية الثانية فلم يورد بروفيسير "وليامز" وقائعها في مؤلفه، وقد فشلنا في العثور عليها بالمجلات القضائية الهندية. غير أن بروفيسير وليامز، قد ذكر بصفحة 138 من مؤلفه المشار إليه، أن محكمة "بومباي" الهندية كان لها رأيا مغايرا لرأي محكمة "كينيكي" في قضية جاكسون.
ولكن المهم في الأمر أن البروفيسير وليامز، يفضل الحكم الصادر في القضية الأمريكية لأن "فعل المتهم في تلك القضية يرقى بلا شك إلى القتل العمد، فهو قد قصد أن يقتل، وقتل بالفعل، فقط أخطأ في تقدير لحظة حدوث الوفاة وفي الفعل الحاسم الذي أدى إلى الوفاة" ولأن "الفكرة العامة عن العدالة والحس المشترك العام يقتضيان أن هذه الحالة يجب تعامل بوصفها قتلاً عمداً".
ونحن نرى أن المسألة كلها تتوقف على تكييف الفعل الأول الذي أدى إلى نشوء الخطأ في توقيت حدوث الوفاة. فإذا كان الفعل الأول وهو الضربة في هذه القضية، يؤدي على الأرجح إلى تسبيب الموت، فإن واقعة الموت اللاحق تعد قتلاً عمداً. وإما إذا كان الفعل الأول يحتمل فقط أن يسبب الموت فإن القتل يعد قتلاً شبه عمد.
وفي هذه القضية الماثلة يدل الفعل الأول للمتهم دلالة واضحة على أن المتهم كان يعلم ان الموت نتيجة راجحة وليس فقط نتيجة محتملة(2) لفعلهprobable and not only a likely consequence of his act. وعليه حتى على لو أن المجنى عليه توفي نتيجة السقوط في البئر، وهو ما نرفضه كليةً، فإن المتهم يظل مفترضا فيه أنه تسبب في موت المجني عليه.

هوامش:
(1) ترجمناها من الإنجليزية إلى العربية عن "مجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة 1959 ص66 ، Sudan Law Journal and Reports, 1959 وكانت المحاكم السودانية تصدر الأحكام القضائية بالانجليزية حتى سنة 1970.
(2) أخذ القانون الجنائي السوداني لسنة 1991 بتعريف المصطلحات القانونية "نتيجة راجحة" probable consequence و"نتيجة محتملة"likely consequence من قانون العقوبات السوداني لسنة 1925 كما هي:
حيث جاء بالأحكام التمهيدية بالباب الأول للقانون الجنائي لسنة 1991 : "يقال عن الفعل أنه يحتمل أن تكون له نتيجة معينة أو أثر معين، إذا كان حدوث تلك النتيجة أو الأثر لا يستبعد عن الشخص العادي".
وجاء: "يقال عن الشيء أنه نتيجة راجحة للفعل إذا كان الفعل أو الوسيلة التي استخدمت فيه مما يؤدي إلى حدوث تلك النتيجة في غالب الأحوال". (المترجم).

عبد المنعم عجب الفَيا – 7 أكتوبر 2022

 

abusara21@gmail.com
//////////////////////////////////

 

آراء