قضايا: اشتراط العقد اختصاص محكمة أجنبية.. مدى إلزاميته للمحاكم السودانية؟ .. ترجمة: عبد المنعم عجب الفَيا

 


 

 

محكمة الاستئناف (العليا)1
مطبعة مصر ................................. مستأنف
ضد
كامل محمد كامل وآخر ................ مستأنف ضدهما

خلاصة أسباب الحكم:
اتفاق أطراف العقد على أن يكون الاختصاص القضائي لمحاكم دولة أجنبية لا يسلب محاكم السودان اختصاصها القضائي لنظر الدعوى إذا انعقد لها الاختصاص لأي سبب من الأسباب القانونية. والأسباب التي تجعل لمحاكم السودان الاختصاص في قضايا العقود هي:
(1) وجود أطراف العقد شخصيا بالسودان.
(2) إذا كان تنفيذ العقد كليا أو جزئياً بالسودان.
(3) إذا كان سلب محاكم السودان الاختصاص يتعارض مع سياسة السودان التشريعية العامة فالمصلحة العامة لها الأولوية على حرية الأفراد في اختيار القانون الواجب التطبيق على العقد2.

ملخص وقائع الدعوى:
رفع المدعيان دعوى عمل ضد المدعى عليها مطالبين بالتعويض عن الفصل التعسفي. دفع المدعى عليهم بعدم اختصاص محاكم السودان نظر الدعوى على أساس أن عقد العمل قد تضمن نصاً يقصي بأن يخضع أي نزاع متعلق بالعقد للمحاكم القاهرة ولقوانين العمل المصرية. رفضت محكمة الموضوع هذا الدفع واستمرت في نظر الدعوى. طعن المدعى عليهم لمحكمة الاستئناف (العليا) فأيدت قرار محكمة الموضوع وشطبت الطعن إيجازياً.

المحامون:
قرنفلي/ عن المستأنفين
الحكم
5 مايو 1958
القاضي/ بابكر عوض الله3:
أرى أن يشطب هذا الاستئناف إيجازياً.
اقيمت هذه الدعوى على أساس الإخلال بعقد عمل إبرم بالقاهرة خلال عام 1955 على أن يعمل المدعيان بمطبعة المدعى عليهم بفرع الخرطوم كعامل بأجر يومي قدره واحد جنيه سوداني. وسبب الدعوى هو الفصل التعسفي وأسباب أخرى.
دفع المدعى عليهم (المطبعة) بعدم اختصاص المحاكم السودانية استنادا إلى أن البند 18 من العقد المكتوب قد أعطى محاكم القاهرة الاختصاص القضائي الحصري لنظر النزاع. وعقب محامي المدعي، على ذلك بأن البند 18 لم يعط محاكم القاهرة الاختصاص الحصري ولكنه اعطاها ببساطة اختصاص مشترك مع محاكم السودان.
كان يمكن أن يكون هذا التفسير صحيحا لولا أن البند 17 من العقد قد نص على أن "يخضع العقد لقوانين العمل المصرية". وأرى أن مجمل ما اشتمل عليه هذان البندان يكفي للدلالة على أن طرفي العقد قد انصرفت إرداتهما عند ابرام العقد إلى أن يكون خاضعاً فقط لاختصاص محاكم القاهرة.
ومهما يكن من أمر، فقد جاء قرار محكمة الموضوع صائبا في رفض الدفع القانوني بعد اختصاص المحاكم السودانية، حيث سببت قرارها على أن هذا الشرط ينبغي ألا يفسر بطريقة تسلب المحاكم السودانية سلطتها في نظر النزاع.
وقد استندت المحكمة في تأسيس قرارها إلى الحكم القضائي الذي صدر حديثا في السابقة الإنجليزية: The Fehmarn (1958) 1 All E.R. 333. وتتعلق المطالبة في هذه القضية ببوليصة شحن تضمنت شرطا يقضي بأن "كل المطالبات والنزاعات الناشئة عن البوليصة يجب التقاضي بشأنها بمحاكم الاتحاد السوفيتي".
رفض القاضي هذا الشرط وأيّدته محكمة الاستئناف الإنجليزية. القاضي لورد دينينق في سياق تأييده لقرار قاضي الموضوع، صفحة 335:
"يجب على المحاكم الإنجليزية أن تراعي القواعد والإجراءات القانونية الخاصة بها ومن هذه القواعد التي يجب مراعاتها هي أن الشرط الذي ينص على أن كل النزاعات يجب أن تنظر قضائيا أمام محاكم دولة بعينها غير ملزم لها باطلاقه. فمع أنه على المحاكم أن تنظر إلى هذا الشرط دائما بعين الاعتبار بحيث ينتج أثره القانوني، إلا أن هذا الشرط يجب أن يخضع للمبدأ الذي له الأولوية وهو أن ليس لأحد أن يسلب باتفاق خاص الاختصاص القضائي لمحاكم هذا البلد للنظر في مسألة تقع في نطاق ولايتها القضائية".
ويمضي لورد دينيق Denning لمناقشة الأسباب التي جعلته يرى أن المحاكم الإنجليزية أولى بنظر النزاع من المحاكم الروسية. ومن بين الأسباب التي ساقها، يبدو أن سهولة إثبات الدعوى بإنجلترا هي العامل الحاسم في الخلوص إلى ما انتهى إليه من رأى.
وفي هذه الدعوى الماثلة نرى أن هناك أكثر من سبب يدعو إلى رفض دفاع المدعى عليهم بعدم اختصاص محاكم السودان. وكان قاضي الموضوع قد ذكر من هذه الأسباب وجود المدعى عليهم بالسودان. وأرى أن هناك سببين آخريّن أكثر أهمية. أولهما واقعة أن العقد نُفذ كلياً بالسودان.
وثانيهما هو أنه إذا تخلت المحكمة عن اختصاصها في نظر الدعوى، فإنها سوف تجرد المدعي من أي وسيلة للمطالبة بحقوقه بالسودان، وبذلك تكون قد أتت بفعل يتعارض تماما مع السياسة العامة general policy التي وضعها المشرع لتنظيم العلاقة بين أرباب العمل والعمال والتي ينظمها قانون (المخدمين والأشخاص المستخدمين) والقوانين الأخرى ذات الصلة. ومعظم هذه القوانين لا تهدف فقط إلى حفظ حقوق العمال وحسب، بل تفرض على أرباب العمل إلتزامات يرقى خرقها في كثير من الحالات إلى المخالفة الجنائية.
إن إغفال هذه الإلتزامات بحيلة ذكية تسلب المحاكم الاختصاص القضائي من شأنه أن يشجع أرباب العمل على الاستخفاف بقوانين البلاد دون خشية من مساءلة أو عقاب بل ذلك يرقى إلى درجة الترخيص لهم بحرمان الطبقات العاملة من حقوقها ويؤدي في ذات الوقت إلى عدم المساواة بين أرباب العمل أنفسهم، الأمر الذي يتعارض مع القانون والنظام العام.

القاضي/ محمد أحمد أبو رنات/ رئيس القضاء4:
أوافق.
يشطب الاستئاف إيجازياً.

هوامش المترجم :
(1) ترجمناها من الإنجليزية إلى العربية عن "مجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة 1959 ص3 ، Sudan Law Journal and Reports, 1959
(2) يجب التمييز بين اشتراط العقد اختصاص المحاكم الأجنبية للفصل في النزاع وبين اشتراطه تطبيق قانون أجنبي على النزاع. (للمزيد انظر كتابنا: القانون الدولي الخارص - تنازع القوانين) في طبعته الأولى 2012.
(3) القاضي/ بابكر عوض الله، شغل منصب رئيس القضاء خلفا لأبي رنّات سنة 1964 واستقال سنة 1968 احتجاجا على عدم امتثال البرلمان والحكومة لقرار القضاء بعدم دستورية تعديل البرلمان لمادة الحريات العامة بالدستور والذي استغل لحظر وطرد عضوية نواب الحزب الشيوعي. تخرج بابكر عوض الله من كلية غردون (جامعة الخرطوم) سنة 1940 الدفعة الثانية بمدرسة القانون وكان في هذه الدفعة: عثمان الطيب وعبد المجيد إمام ومبارك زروق وأحمد خير. توفي بابكر عوض الله بالقاهرة في سنة 2019
(4) محمد أحمد أبو رنّات أول رئيس قضاء سوداني وشغل هذا المنصب في سنة 1954 وحتى سنة 1964. تخرج في مدرسة القانون بكلية غردون (جامعة الخرطوم) سنة 1938 وكان أحد سبعة جرى اختيارهم من موظفي الدولة للدفعة الأولى لدراسة القانون، وهم: محمد أحمد أبو رنات، ومحمد أحمد محجوب، ومجذوب علي حسيب، ومحمد إبراهيم النور، وأحمد متولي العتباني، وأحمد المفتي، ومحمد هاشم. ترأس أبو رنّات اللجنة القانونية التي وضعت قوانين سنة 1974. توفي بلندن في 1977.

عبد المنعم عجب الفَيا – 29 نوفمير 2022

abusara21@gmail.com
/////////////////////////////

 

آراء