قضية دارفور وفن صناعة وإدارة الأزمات

 


 

 

 

تناول كتاب كثر  موضوع إدارة الأزمات ، وهو بلاشك موضوع طغى على سطح الأحداث نسبة لما تشهده ساحات كثيرة فى أنحاء العالم من توترات قد تدفع بالإنسانية إلى حافة الهاوية . فكل أزمة من الأزمات ان لم يكن من ورائها إدارة جادة ممسكة بجميع جوانب الأزمة فستكون النتيجة إنفلات تام يعود بكوارث ونكبات يمتد أثرها إلى درجة تقضى على  الحرث والنسل .

إذا كانت إدارة الأزمات فن يمارسه متخصصون إتحيحت لهم أمكانات واسعة تسهل مهمة إدارتهم لتلك الأزمات ، فماذا عن صناعة الأزمات !؟  ربما يتساءل البعض عما إذا كانت الأزمات تصنع! وماهو متعارف عليه هو أن البشر خيرون بطبعهم ، وأنهم فى معظم الأحوال  يعملون لتفادى الأزمات وليس الإنغماس فيها . 

إبحث عن أزمة ، ستجد أن من ورائها مجموعة أو مجموعات أو دولة أو دول تجمعها مصالح مشتركة خططت ونفذت لتلك الأزمة أو على الأقل خلقت المناخ  الملائم لبلورتها والخروج بها إلى السطح . ولنأخذ مثالاً على ذلك ، قضية دارفور التى تمركزت فى الوقت الراهن حول قرار المحكمة الدولية ، والتى لن تنتهى بالقبض على الرئيس عمر البشير ، خاصة وأنه متهم فقط ولم تثبت إدانته ، لأنه لم يمثل بعد أمام المحكمة .

قضية دارفور لم يحسن إدارتها للأسباب التالية:

طفحت المشكلة على سطح الأحداث على أنها خلاف بين عرب ضد أفارقة – بيض ضد زرقة . ولانود هنا شرح عما إذا كان الخلاف من أجل " المرعى " و " الزراعة " ، المهم هو أنه قد تدخلت جهات دولية " رأت " أن قضية عرب ضد أفارقة لن توصل إلى الحصاد المطلوب فأضافوا إليها "إسلام ضد  مسيحية" !   هنا كان يجب على أبناء دارفور  التدخل لدحض ذلك الرأى ولكنهم صمتوا ظانين ان القضية ستصب لصالحهم . ولم يكن فى حسبانهم بأن قولهم أن القضية منشأها عرب ضد أفارقة ، بأنهم سيهمشون  أهل الشمال والعالم العربى ! وقولهم بأن القضية آساسها خلاف بين مسلمين ضد مسيحيين ، بأنهم سيهمشون المسلمين فى السودان والعالم الإسلامى !وبالتالى لن يكسبوا تعاطف هذا أو ذاك !

عمد أبناء دارفورعلى أن لا يلقوا بالقضية إلى وجدان المواطن السودانى أينما وجد ليشارك فى إيجاد حل توافقى يرضى كل الأطراف ، ورأوا أنه من المفيد " لهم " تعميق الهوة وتدويل القضية ! فى الحقيقة أن الحل القائم على تدويل قضية دارفور ماهو إلا فى مخيلة البعض حيث أن الغالبية لاترى فى تدويلها مايفيد على الأقل فى المدى المنظور .

تعددت الجبهات والفئات رافعة السلاح ضد السلطة  كما أن  تعدد من يسمون بالمستشارين من دول أخرى من " نافخى الكير " وكانت النتيجة أن ذلك لم يمهل تلك الفئات الوقت للتفكير فى الكيفية التى يمكن معها إخراج القضية بصورة يقبلها العالم المتحضر . وللتأكيد على ماذهبنا إليه نطرح بعض الأخطاء التى إرتكبتها بعض الحركات الدارفورية ، مثل محاولة تحييد أبناء وسط و شمال السودان ، ظانين أن حصر القضية فى أبناء دارفورفقط  سيدعم القضية ، خاصة وإن كانت قضيتهم آساساً  قائمة ضد العرب " الجانجويد " ومن لف لفهم من أبناء الوسط والشمال ! آخذين فى ذلك نظرة إثنية بحته ! ثم بدون أن يدرى أبناء دارفور " حسن النية متوفر " تدخلت جهات كنسية أجنبية مضيفة عنصراً آخر ، الا وهو أن القضية آساسها حرب دينية قوامها إسلام ضد مسيحية ! وذلك على نسق المد الدولى المتمثل فى محاربة الإرهاب مما سيعطى لقضية دارفور بعداً تتجه معه أنظار الدول الكبرى فتهب للنجدة تحاشياً من إلتفاف القاعدة فى الجانب الإفريقى من غرب منطقة الخليج العربى .

وبالطبع ، خاب ظن من حملوا ذلك الرأى وبها سقط ذلك العنصر فى أول إختبار له . فما كان إلا أن تبنت القضية فئة يهودية وصلت بها إلى درجة تشبيه قضية دارفور بالإبادة الجماعية المتمثلة فى " المحرقة " وظلت تسوق للقضية إعلامياً فأقامت لها عروضاً وتظاهرات فى واشنطن !

كل تلك الدروب التى فتحت وجرى فيها نهر القضية متدفقاً إلى مالانهاية ، عجز معها أبناء دارفور من إدارة الأزمة والإمساك بزمام الموقف ، فإنفرط العقد وتصعب عليهم لملمته !

لا أحد ينكر أن هناك إختراقات حدثت متمثلة فى جرائم أرتكبت فى حق أبرياء ، ولكن أين كان صوت العقل منذ بداية المشكلة !؟

أعلم كل العلم أنه كلما كانت القضية آخذة فى الإتساع كانت السلطة تحاول بقدر الإمكان تلافى المصاعب التى ربما تنتج عن الأزمة ، وكان ذلك على حساب مواطن سودانى آخر فى مناطق أخرى! وبذا تكون قضية دارفور قد بعدت عن كونها قضية منطقة جغرافية معينة ، لتشمل مناطق جغرافية أخرى فى مناطق السودان المختلفة ! فالضغط على السلطة فى الخرطوم جعلها تقدم تنازلات فى الجغرافية والسياسة والإقتصاد وفى أمنها القومى بصفة عامة ! فهل إستفاد أبناء دارفور من الإختراقات التى شملت السودان كله ، وكذا التدهور العام فى شتى المناحى الحياتية للإنسان السودانى !؟

لقد كان عجز أبناء دارفور فى إدارة الأزمة واضح منذ البدء ، بحيث أنهم إبتعدوا بالقضية من حيزها القومى والإقليمى إلى محاولة تدويلها بدون الإمساك بخيوط اللعبة ، فإنفلت الزمام ، وتوسعت القضية توسعاً رأسياً أبعدها عن أرض الواقع ، فأصبحت معلقة فى مهب الريح تتأرجح بين أطماع فئات متقاتلة  وبين منظمات أجنبية وبعض من الدول التى يهمها عدم إستقرار المنطقة ككل وليس السودان فحسب .     

من الأخطاء البائنة للعيان التى إرتكبتها فئة من الفئات المقاتلة فى دارفور تلك الهجمة على أم درمان أو على " العاصمة " التى بكل تأكيد انها وحتى إن قصد منها إبراز العضلات إلا انها كانت  ذات مردود سلبى  برر للسلطة بعض من مواقفها حيال من يحملون السلاح ويهددون أمن الوطن . ومعها سلمت تلك الفئة وبدون أن تدرى مبرراً يمنح السلطة المركزية حق قتال من حملوا السلاح ولم يتوقف ذلك عند جماعة خليل إبراهيم ، بل تعداها إلى مجابهة كل الفئات حاملة السلاح فى دارفور ! أين إذن كان خليل إبر اهيم من فن إدارة الأزمات !؟ وهل ماتقوم به حركته من مفاوضات فى الدوحة سيوصل قضية دارفور إلى الحل المرجو من قبل الجميع ؟ أشك فى ذلك . فالسلطة أطالت زمن المفاوضات فى نفس الوقت الذى كانت تعمل فية على إجراء الإنتخابات بالطريقة التى تروق لها ، فنجحت فى مخططها ! ماذا كسب من جلسوا خلف الطاولة للتباحث فى الدوحة !؟ الأيام القادمة كفيلة بالإجابة . 

ثم أن الخلاف بين  أبناء دارفور الناتج عن تعدد الآراء حيال المشكلة برمتها ، أدى فى إعتقادى إلى صعوبة التفكير فى الحل . فإذا طرحنا اليوم على كل الجبهات المتصارعة فى دارفور سؤالاً واحداً مثل ما هو الحل المناسب للقضية الذى تراه  كل منها ؟. فلا أخالنى ساجد إجابة واحدة أو إجابات مترابطة تصب فى الحل النهائى للقضية ! وكل ماسيطرح لن يتعدى القول بأن المنطقة مهمشة وتحتاج إلى إهتمام المركز وأن على المركز إتاحة فرص المشاركة فى السلطة والثروة !

إذا أخذنا المشاركة فى السلطة كمثال، هل ذلك يمكن أن يحقق لأهل  دارفور الحد الأدنى من مطالبهم !؟ بالطبع لا ،  فهناك السيد منى مناوى قابع فى القصر لسنوات عدة ، ماذا حقق وماذا تحقق لدارفور من مثل تلك المشاركات !؟ ثم عنصر إقتسام الثروة ، أى ثروة يتحدثون عنها ، وهل هناك ثروة بائنة واضحة المعالم مدرجة فى وثائق يمكن لهم مراجعتها والمطالبة بنسبة معينة منها !؟ وهل هناك ثروة حقيقية إستثمرت فى المركز من قبل  السلطة الحاكمة !؟ ناهيك عن أن يكون هناك فائضاً يطالب بإقتسامه !؟

إننى هنا أقر بأن أبناء دارفور لم يتمكنوا حتى تاريخه  من إدارة أزمة دارفور !؟ وإذا إستمر الحال على ماهو عليه لأعوام أو عقود قادمة ، أخاف أن لا تعود دارفور إلى الحالة التى كانت عليها قبل الحرب ! وبذا يكون حصاد السنين ذرات تراب فى العيون تحجب الرؤيا مؤقتاً قبل أن تظهر الحقيقة التى حتما ستكون موجعة للجميع .

إن من أولويات إدارة الأزمات هى الحاجة  إلى التروى والإمساك بزمام الموقف ، ثم العمل بسياسة " فن الممكن " مع إفساح المجال للعقل ليعمل بأقصى طاقته لدراسة الأهداف " القريبة والبعيدة " ثم وضع إستراتيجيات يتفق عليها كل الأطراف ، أما إذا ما إستمر الحال على ماهو عليه بمانشاهده من تعدد للمحاور بدون تنسيق يذكر ، فهذا من وجهة نظرى لن يقدم أو يؤخر فى إيجاد الحل المناسب للقضية ، وسيظل التجاذب بين الأطراف قائماً ، الشئ الذى سيعمق من الفجوة بين الأطراف المتنازعة من جهة ، والسلطة من جهة أخرى ، وذلك حتما سيؤدى إلى تفاقم المشكة ويعمق من الإبتعاد عن فرص إيجاد الحلول .

بالطبع أن بقاء أهل  دارفور فى المخيمات وفى الشتات لتلك الفترة الطويلة لابد وأن يكون قد ترك أثرا واضحاً على المواطن وذلك من الناحية النفسية والإقتصادية والإجتماعية . فالبقاء فى المعسكرات التى بطبيعتها مغلقة أو ذات  مدى معلوم يحد من حرية الفرد الذى كان فى السابق طليقا يصادق الأفق ليل نهار فى مرتع صباه ، ذلك الذى شارك فى تكوينه البنيوى والنفسى . وحصاد ذلك  لابد وأن يكون سلبا على المواطن الشئ الذى سيحتاج معه لسنوات عدة لإعادة تأهيله . خاصة وأنه لاتوجد بتلك المعسكرات خدمات نفسية قادرة على مساعدة الفرد وتعميق مفهوم " الحالة المؤقتة " من حيث الزمان الذى سيقضيه  بعيداً عن الديار .  ففى الحالة الراهنة التى لاتعرف الأطراف المتنازعة  فيها إلا الإقتتال أشك أنها مدركة حقيقة أنه كلما مضى الوقت كلما تعمقت المشكلة وإبتعدت عن دائرة الحل . لذا على الجميع " سلطة وفئات مقاتلة " التمعن فى حال أولئك الذين زج بهم فى معسكرات بدون ذنب إقترفوه ، وأن يعملوا لإيجاد المخرج المناسب لهم ، وذلك بأسرع ما أمكن بإسم حق الإنسان والوطن . لتخمد أصوات البندقية ليحل محلها صوت العقل . وكفى إتهامات لاطائل من ورائها . فالمنظمات مهما أبدت من روح إنسانية فهى أولاً وأخيراً تعمل من أجل البقاء ، وكذا الدول التى تبحث عن مناطق نفوذ ، وبقاؤها يأتى فى إستمرارية بؤر الصراع فى العالم ، وبالطبع درافور بالنسبة لهم لاتتعدى أن تكون واحدة من تلك البؤر!            

Ahmed Kheir [aikheir@yahoo.com]

 

آراء