قطار الغرب … ذكريات وتداعيات

 


 

 

" و ارتج قطار الغرب، تمطى فى القضبان
و وصايا لاهثة تأتى وإشارات و دخان
و زغاريد فهناك عريس فى الركبان
..........................................
..........................................
ساعات الأكل تعارفنا
الصمت الجاثم فى الحجرات انزاح
وتبادلنا تسآل فضوليين
تحدثنا فى ساس يسوس
وتحذلقنا عن جهد الإنسان الضائع
فغرسنا كل الأنحاء مزارع
جئنا بالجرارات حرثناها
هذى الأرض الممتدة كالتاريخ
حبلى بالشبع وبالخصب المخضل
والناس هنا خيرات الأرض تناديهم
لا أذن تصيخ ... "

محمّد المكى إبراهيم

إن أول عهد لى بالقطار كان عندما قبلت بمدرسة (أبوزبد الأميرية الوسطى) فى ستينيات القرن الماضى، قبل ذاك العهد لم أسمع بالقطار ولَم أشاهده إِلَّا فى (السينما الغشاشة) حيث كنت مولعاً بثنائي الشاشة المصرية فريد شوقى ومحمود المليجى. حينئذً كنت لا أفهم الدارجة المصرية فقد كان جل إعجابى وغرامى منصباً على مشاهدة هذين الغريمين وهما يتصارعان خيراً وشراً.

كان يسمح لنا بالذهاب إلى السينما فى ذاك العمر المبكر. كانت الدنيا أمان و دار السينما قريبة من البيت و كنّا مجموعة من الأصدقاء تجمع بيننا عدة روابط أسرية و إجتماعية. كنّا أخوان وأصدقاء وأولاد حارة واحدة. لم نكن نمنح ما يسمى و قت ذاك بحق السينما. كنت أقتصد فى مصروفى المدرسى؛ لأوفر ذلك الحق تعريفة تعريفة.

كانت مدرسة معهد التربية بالدلنج الأولية قريبة من بيتنا. و كان إفطارى عصيدة أو كسرة أو ما تبقى من أكل أمس، يوضع لنا فى إناء (كورة)، ذلك النوع من الاناء كتب عليه رمضان كريم؛ لأنه يستخدم فى تقديم العصائر الرمضانية كالليمون والعجينة والمديدة والحلومر، و حين لا يتوفر لدينا فى البيت باقى أكل؛ أمْنَح قرشاً واحداً فقط ليس غير، من هذا القرش أبدأ فى توفير حق السينما وهو ثلاثة قروش، قرشان ونصف ثمناً للتذكرة وتعريفة للتسالي. أفطر بتعريفة نصف رغيفة شاندوتش فول أو عدس وأوفر تعريفة. وحين يكتمل النصاب ، ندخل السينما فى أول خميس يكتمل فيه. وكنا نسكن فى حارة، لم نكن نعرف كلمة حى فى ذاك الزمان ، تسمى حارتنا حارة (أقوز) على اسم المأمور حقوص أيام الإنجليز ولكن تحور الإسم بعامل الزمن وأصبح ( أقوز ).

مدرسة معهد التربية بالدلنج الأولية ذات نهرين. يسمى أحدهما مدرسة والآخر تمرين. عدد تلاميذ فصل المدرسة أربعون تلميذاً فى حين أن عدد تلاميذ فصل التمرين لا يزيد عن خمسة عشر تلميذاً. فيقال مثلاً ... أولى مدرسة ثانية مدرسة للنوع الأول، وثالثة تمرين و رابعة تمرين للإخر. يقوم بالتدريس فى فصول المدرسة الأساتذة الكبار أساتذة علوم التربية والمناهج وطرق التدريس، فى فصول هى أشبه بالقاعات، حيث توجد مدرجات فى الفصل الواحد خلف كنبات التلاميذ يجلس عليها طلّاب المعهد الذين هم تحت التمرين لمتابعة المنهج الذى يقدمه لهم الأستاذ الكبير ومن ثمّ يقومون هم بتطبيقه فى فصول التمرين، وعلى هذا النحو، تقدم الحصص النموذجية فى فصول المدرسة ويحاكيها طلاب المعهد فى فصول التمرين. فهى بمثابة مدرسة لطلاب المعهد ينهلون منها ما يعينهم ليصبحوا معلمين أكفّاء فى مستقبل أيامهم. و من حسن الطالع أن كنت من ضمن تلاميذ هذه المدرسة المدرسة.

قبلت بمدرسة ( أبوزبد الأميرية الوسطى ) وقد كان حلمى الدلنج الريفية و كان على أن أسافر إلى مدينة ( أبوزبد ) حيث المدرسة. وقد تكفل المجلس الإدارى المحلى مجلس ريفى الدلنج بتكاليف السفر. وقيل وقت ذاك لأهلى أن هنالك عربة حكومية تابعة للمجلس ذاهبة فى مهمة رسمية إلى مدينة الدبيبات حيث توجد أقرب محطة لقطار نيالا (قطار الغرب) القادم من الخرطوم. سوف تأخذنى العربة إلى هناك ومن ثمّ أركب قطار الغرب. و أن الأمر ليست فيه مشقة ولا يحتاج إلى رفقة. وسوف يتكفل العم سائق اللاندروفر باللازم، وقد كان. أذكر أن جاءت بى جدتى إلى مكاتب المجلس الريفى تحمل شنطة صغيرة من الحديد فيها كل أشيائي الصغيرة، وسلمتنى لسائق اللاندروفر ، (صرة فى خيط)

فى الدبيبات وجدنا قطار الغرب قد غادر المحطة بدقائق لا تتعدى أصابع اليد الواحدة. وعلمت أن القطار يأتى مرتين فى الأسبوع و أن هنالك قطارات الشحن - أو ما تسمى بقطارات البضاعة - متوفرة وقد وعدنا ناظر المحطة أنه سوف يشحننى فى أقرب قطار بضاعة. وهكذا سلمت مرة أخرى صرة فى خيط لناظر المحطة. حين انفض سامر الذين كنت أعرفهم وجئت معهم وبقيت وحيداً قابعاً فى المحطة، طفقت أتأمل الدنيا حولى، إذ أننى لأول مرة أخرج للعالم الخارجي وحيداً فى هذا العمر المبكر وأكاد لا أعى ما يدور حولى ولا حتى أستوعب الذى يحدث. وأنا قابع فى المحطة جالساً على شنطتى الحديدية والتى هى كل ما أملك فى هذه الدنيا أراقب الحركة فى المحطة وأتابع ناظر المحطة و حركة المسافرين. لاحظت شيئين لم ألاحظهما من قبل، أو قل لاحظتهما ولكننى لم أنتبه لهما ... لاحظت أن كل العاملين فى المحطة، من الناظر إلى عمال الدريسة من أهلنا أهل الشمال النيلى وأن للرجال هنا شلوخ لم أتعود عليها فى منطقتي وقد إرتبطت الشلوخ عندى بالنساء.

شحننى ناظر المحطة فى أقرب قطار بضاعة مر بالدبيبات فى طريقه إلى نيالا. سلمنى للكمسارى حيث أجلسنى معه فى آخر قمرة بالقطار نطلق عليها عربة الفرملة ... ووجدته أيضاً من الشمال النيلى وذا شلوخ ... و حين إقترب القطار من مدينة (أبوزبد) ظهرت مبانى بيضاء على الجهة اليسرى من خط السكة حديد ليست ببعيدة، قال لى الكمسارى "هذه مدرستك الوسطى " و أشار إليها و نحن على مشارف المحطة، ثم أردف قائلاً .. "سوف تنزل هنا" وأشار للسائق بعلم أبيض أو أخضر لا أذكر ليتوقف القطار قبل المحطة. وتوقف القطار ونزلت وواصل القطار سيره فى أتجاه المحطة. لم أكن أتصور أن القطار يمكن ان يتوقف خارج المحطة ... و لقد فرحت وسعدت للذى حدث أيّما سعادة و كم كانت فرحتى وسعادتى بتوقف القطار من أجلى ... و لقد ظللت أحكى هذه الحكاية بكل فخرلأصدقائى كلما أنتابتنى الذكريات وشدني الشوق إلى أيام الطفولة ؛ إذ إننى قد ركبت فى صغرى قطار الغرب تاكسياً وأشرح لهم بأننا كنّا ثلاثة فقط فى القطار، السائق، الكمسارى وأنا. ويالها من أنا، أنا الراكب الوحيد .

تواصل سفرى بالقطار طيلة فترة المرحلة الوسطى واستمرت العشرة بيننا أربع سنوات متتاليات ثم إفترقنا فى المرحلة الثانوية حيث إنتقلت إلى السفر بالبصات واللوارى وتلكم قصة أخرى ... ولكننىً عدت لقطار الغرب حين إلتحقت بجامعة الخرطوم. وعلى الرغم من أن الجامعة تمنحنا فى العطلات تذاكر الدرجة الثانية إِلَّا أننى لم أفارق الدرجة الرابعة أبداً ... وما الحب إِلَّا للحبيب الأول ..

و مع حلى و ترحالى تبين لى أن ما لاحظته فى أول عهدى بالقطار بأن معظم العاملين فى سكك حديد السودان من جهة جغرافية واحدة وهى الشمال النيلى. لم يكن حصراً على قطاع السكك الحديدية فقط وإنما وجدته فى موظفى الجمارك و الخطوط الجوية السودانية (سودانير) و النقل النهرى و الخارجية والإذاعة والتلفزيون وكل قطاعات الخدمة المدنية المهمة والحساسة. و أدركت لاحقاً أن هذا الجزء من الوطن دخلته المعرفة فى وقت مبكّر بحكم جواره لمصر وبفضل الحركات الدؤوبة التى مرت عليه سواء كانت حملات تبشيرية أو جيوش غازية .

و حين جاء اللورد كتشنر فى مارس من العام 1986 على رأس جيش قوّامه المصريون و عدد مُقدَّر من الجنود البريطانيين والسودانيين، بتعليمات من المندوب السامى يومذاك اللورد كرومر ؛ لإنجاز عدة مهام من بينها إنقاذ غوردون باشا من ثوار المهدية. جاء كتشنر زاحفاً من الشمال و متقدما ببطء وفى مراحل. تبدأ بحشد القوات ثم التقدم والهجوم. ثم التمركز مجدداً ومد خطوط الإمداد، ثم حشد القوات والتقدم من جديد. وقد تعددت وسائل نقله للجنود والعتاد بين السكك الحديدية، البواخر النيلية و القوارب الشراعية.
وكانت حملة كتشنر العسكرية الغازية وهى تبنى خطوط السكة حديد لتسهيل حركة الجنود والعتاد إستعانت بأهل الشمال النيلى واستخدمتهم - بالاضافة إلى تجنيدهم كجنود - فى كل أنشطتها و أعمالها، فمنهم المرشدون و سائسو الخيول والطباخين والسفرجية والخدم. وإحتك أهل الشمال النيلى بالغزاة الإنجليز ولازموهم وعاشروهم فى الكبيرة والصغيرة ونالوا حظاً من المعرفة واكتسبوا شيئاً ليس بالقليل من الوعى. و بالوعى أستطاعوا أن يخططوا لحياتهم الجديدة. وحاكوا الإنجليز فى كل شىء فانتبهوا إلى تعليم أبنائهم فى وقت مبكّر تشبهاً بالإنجليز وقد ساعدهم الإنجليز فى ذلك فأدخلوهم المدارس وأرسلوهم إلى الخارج لنهل المزيد من العلم والمعرفة.
وحين آل لهم الوضع فى السودان بعد خروج الإنجليز، ورثوا كل شىء تركه الغزاة خلفهم، و بقيت المناطق الجغرافية الأخرى التى كانت بعيدة كل البعد عن إشعاع المعرفة والوعى فى سباتها العميق - عدا بعض الإدارات الأهلية التي إستطاعت الإستفادة من و ضعها في تعليم أبنائها - إلّا أنها فى حقيقة أمرها لا ترى فى وضعها المتخلف تخلفاً بل العكس يَرَون أنهم أفضل وأنهم أكثر حرية وكرامة. كان جدى لأبى يرى أن التعليم مفسدة وكان يقف ضد دخولى المدرسة؛ لأن المدرسة فى نظره تفسد الطفل وتعلمه التدخين الذى يقود إلى تعاطى الخمر و من ثمّ يصبح خائباً، والخائب عند جدى هو المثلى جنسياً. فهو يرى أن الأفضل لى وله أن أبقى بجانبه أحمل له إبريق الوضوء، و والدى لا يستطيع فى هذا المقام أن يحرك ساكناً أو يعترض فرضخ للأمر الواقع و استسلم. الشخص الوحيد الذى أبدى إعتراضاً و وقف بشدة فى طريق جدى ودعم فكرة تعليمى و دخولى المدرسة هى جدتى أم أبى و هي التي ربتنى - لأن أمى البيولوجية فارقت الحياة و أنا ابن إثنى عشر شهراً - ( أم الغايب ) هكذا يناديها الناس؛ لأن الغائب هو إبنها الأكبر ولكننى كنت أناديها (أيباى) ومعناها أمى و الدة أبى (أى يعنى أم) و (باى يعنى الغايب)، حتى أصبح الكل يعرفها ويناديها مثلى (أيباى). أربعتهم فارقوا هذه الفانية و بقت ذكراهم عطرة ندية. عفى الله عنهم و غفر لهم و رحمهم رحمة واسعة و تقبلهم قبولاً حسناً و أدخلهم فسيح جناته .. إنا لله و إنا إليه راجعون .

وقفت أيباى بجانبى و ظلت تدعمني و تتابع تعليمى حتى الجامعة ، كانت تسألنى ماذا تعلمت اليوم فكنت أحكى لها بكل إريحية ما تعلمته و أنا سعيد و فخور بذلكً. أحكى لها مثلاً بأننا تعلمنا كذا و كذا فى الحساب و قرأنا سورة كذا من القرآن الكريم و أن المعلم حكى لنا اليوم قصة و أسردها لها، و هكذا كانت تتابعني و تقف على تحصيلي المعرفى اليومى. أذكر مرة و نحن فى السنة الثانية من المرحلة الأولية أن أعطانا معلم اللغة العربية قطعة إملائية نصف صفحة و قد إخطأت فى أربع كلمات و كانت عقوبة من يخطئ فى كلمة إلى ثلاث كلمات أن يكتب الكلمة الواحدة و يكررها في ثلاثة أسطر أما من كانت أخطاؤه أكثر من ثلاث فعليه أن يعيد كتابة القطعة كاملة عشر مرات. و الهدف المرجو من هذه العقوبة هو حفظ هذه الكلمات حتى لا نخطئ فيها مرة أخرى و كتابة القطعة لعشر مرات تمرين مهم لتحسين خطنا العربى. فرشت البرش على الأرض و وضعت كراستى عليه و جلست لأكتب. لم تكن لدينا فى البت تربيزة ولا كرسى و بيتنا كان يتكون من قطية واحدة مبنية من القش و (تُكل) و التكل للذى لا يعرفه مَبْنى لا يرقى لمستوى راكوبة يطلق عليه مطبخاً بلغة العصر، و حين تطور بيتنا أصبح من قطتيتين و (تُكل) ، ليس به سور أو سياج كان مكشوفاً للمارة و كنا نرد تحابا من يحيونا من المعارف و المارة. ليس لدينا حنفية ولا حمام. نشترى الماء (بالجوز) من الباعة المتجولين و الجوز عبارة عن صفيحتين يحملهما البائع على كتفه. نستحم فى القطية و نقضى حاجتنا فى العراء فى الهواء الطلق.

و أنا أكتب و أكتب و أكتب أحسست بالتعب و الإرهاق و أصابنى الملل فنظرت إلى ما كتبته فوجدته ثلاث صفحات و نظرت إلى الباقى فوجدته مازال كثيراً سبع صفحات أخرى فأصبت بالإحباط و بدات عيناى تترقرق بالدموع و لم تكن أيباى بعيدة عنى فاقتربت منى متسائلة فقلت لها هذا كلام كثير و أنا تعبت و لا أستطيع أن إكمله فما كان منها إلا قالت لى أرنى إياه و حين رأته قالت لى ناولنى القلم و الكراسة سأكتب أنا، و ناولتها ما أرادت مع علمى أنها لا تعرف القراءة و الكتابة. و لما مسكت الكراسة و القلم و شاهدت الكيفية التى مسكتهما بها معاً لم أتمالك نفسى من الضحك فضحكت و بضحكتى انزاح عنى الهم و الغم و التعب و انبعثت فىٌ طاقة إيجابية جعلتنى أكمل ما تبقى من الكتابة .. هكذا كانت تشجعنى و تشحذ همتى وحين أهديتها أطروحة الدكتوراة إستغرب (الخواجات) للإهداء إذ كيف أهدى أطروحتى لجدتى ولكننى قلت لهم بفضل هذه الإنسانة البدوية الحكيمة المكافحة دخلت المدرسة و تعلمت حتى وصلت ما أنا فيه الآن، فلمن أهدى خلاصة تعليمى إذن، إن لم يكن إليها ؟؟؟ ثم أنها وقفت مع فكرة تعليمى و ناضلت من أجلها و قالت لا بلا تحد فتقرر عليها أن تستقر فى مكان واحد و في مدينة واحدة وهي البدوية التي جبلت على الترحال و تنفر من الاستقرار. إنها هدية من السماء ساقها الله إلىّ. أيباى هذى، تلكم قصة أخرى
و حين خرج الإنجليز إستمرأ الوارثون الوضع الجديد وطفقوا يبنوا عليه فهيؤوا ومكنوا لأولادهم وأقربائهم وعشائرهم، وعلى هذا النحو، وظفوا الوعى الذى أكتسبوه توظيفاً يخدم مصالحهم الشخصية. هذا الوعى هو الذى جعل ثمن الريشة الواحدة من ريش الديك أغلى من ثمن الديك نفسه فى جنوبنا المفقود، وهو الذى جعل من يقوض الدستور ويلغى نظاماً ديمقراطياً ويطيح بحكومة منتخبة ثورياً وتقدمياً إذا كان من أهل ذاك الشريط النيلى، ورجعياً عنصرياً إذا كان من جهة أخرى حتى وإن كانت محاولته ضد نظام دكتاتورى شمولي فاسد؛ لإعادة الديمقراطية. هذا الوعى هو الذى جعل التاجر الآتِ من أهل الوعى يدخل المناطق الأخرى بحمار ويخرج بقطار، هذا إذا خرج ولكن أغلبهم، إن لم أقل كلهم، لا يخرجون لما وجدوه من خيرات وحققوه من ثروات . فى الحقيقة أنهم يفدون إلى مناطق تمويل حقيقية ودعم مالى وبنوك إستثمارية. يستطيع الوافد منهم أن يحصل على رأس مال لم يكن يحلم به ولم يخطر له على بال؛ لسبب بسيط، هو أن العميل ( الزبون) هو الممول الحقيقى وصاحب رأس المال.
أهلنا رعاة و مزارعون. يزرعون الذرة و السمسم و الفول السودانى للإستهلاك العائلى الخاص، ويزرعون القطن طويل التيلة لأهداف إقتصادية يوم كان للقطن قيمة إقتصادية وكان واحداً من أهم صادرات بلادى ذات العائد الوفير. و فى مواسم الحصاد (الدرت) يحصدون ما يزرعون. يحتفظون بمؤونة عام لإستهلاكهم الخاص، ويبيعون ما زاد عن حاجتهم. وفى نهاية الموسم يصبح عندهم - بالإضافة إلى عائدات القطن - دخلاً نقدياً فائضاً. يودعونه كله أمانة عند أقرب صديق (جلابى) ـ و الجلابى صفة تشمل كل من جلب بضاعة و ليست حكرا على تجار الشمالية ـ يلجأون إليه متى إحتاجوا إلى بعض أشيائهم الضرورية من شاى وسكر و ملابس وغطاء، يأخذونها من صاحبهم الجلابى خصماً على ماعنده من أمانة، و على نحو ذلك، إلى أن ينفد ما أودعوه. ويتكرر نفس المشهد من موسم إلى موسم.

ويربون الأبقار و الضأن و المَعَز كذلك، و يرتحلون معها صيفاً وشتاءً. و يأكلون لحومها و يشربون لبنها ولهم فيها مآرب أخرى. منها مظهر إجتماعى و منها مصدر إقتصادى و منها ركوبهم ووسيلة تنقلاتهم فى حلهم وفى ترحالهم أيام الظعن. و يعمدون إليها من حين إلى حين متى إحتاجوا، يبيعون الثور الواحد و الثورين لشراء حاجياتهم الملحة ، ويودعون ما تبقى من مال عند أقرب جلابى أمانة، وهكذا ! يتجمع للجلابى فى نهاية الأمر رأس مال وفير من حيث لا يحتسب، وذلك بفضل عدم وعى هؤلاء البسطاء بقوتهم الإنتاجية و بإمكاناتهم الإقتصادية وبفضل عفويتهم و طيبة نواياهم. يشترى الجلابى بهذا المال كل ما يحتاج إليه ويحتاج اليه السوق المحلى من بضاعة؛ ليبيعها لهم بربح مضاعف، مرة بحصوله على أموالهم كرأس مال و مرة ببيعهم ما أشتراه بهذا المال. إنه الوعى ولا شىء غير ذلك ...

الحياة فى قطار الغرب شبيهة بالحياة فى مدن بلادى المختلفة.مثل الأبيض أو نيالا أو مدنى أو القضارف أو أم درمان. القطارمدينة متحركة بأسواقها وخدماتها و شرطتها و أمنها، و بأحيائها الشعبية وأحيائها الراقية، فيها أحياء النوم و الدرجات الأولى والثانية والرابعة، يقطنها أناس هم السودان مصغّراً... مدينة متحركة تبث الروح والحياة وتشع البهجة والسرور فى كل بقعة تتحرك فيها أو تتوقف عندها - بإرادتها أو بغير إرادتها بسبب عطل فنى أو بفعل عوامل الطبيعة - بحيويتها وباعتها المتجولين، غير الباعة المحليين الذين يفترشون الأرض وهم يعرضون ما صنعت أيديهم من مأكولات خفيفة وقهوة وشاى ولقيمات و ما نسجته أيديهم و أبدعوه من طواقى ومناديل ومفارش وفخار وما أخرجته أرضهم الخيرة من خيرات من فول و نبق و قنقليز و عرديب و لالوب وتبش وعجور و قضيم و هالوك و ليمون و برتقال وجوافة و قشطة ومانجو وبطيخ و مديكة و جوغان . مدينه تحمل بين جنباتها كل خيرات بلادى و فى جوفها طيبة وسماحة أهلى أيام زمان (زمن الزمن الزين).

فى هذه المدينة المتحركة يا ما تعارف الناس وتوطدت علاقات وتمت زيجات. فهناك المسافر فى رحلة والمسافر فى مهمة رسمية والمسافر فى عطلة إلى أهله أو قادم منهم و المسافر لعزاء والمسافر فى تجارة و المسافر ليتقدم لأهل فتاة أحلامه و المسافرلإتمام زيجة، هذا غير الأفرقة الرياضية التى تسافر لملاقاة أفرقة أخرى فى عقر دارها أو قادمة هى إلى دارها والمسافرين فى سيرات الفرح زواجاً كان أم خطوبة ... أما حكايات العشق البرىء و حب الطفولة و الحب من طرف واحد، والحب من أول نظرة ... و العيون التى فى طرفها حور ... وسال من شعرها الذهب ... و ذات (الطرحة الخضراء) ... و يا تائهة الخصل ... وقل للمليحة فى الخمار الأسود ... و تعطلت لغة الكلام و خاطبت عينيّ فى لغة الهوى عيناك ... وحديث فى الحب إن لم نقله أوشك الصمت حولنا أن يقوله ... وَيَا بخت من كان النقيب خاله و كان من سكان الأحياء الراقية، فتلكم قصص وحكايات أصبحت حديث السمّار و سار بخبرها الركبان وأعيت شهرزاد حتى أدركها الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

و فى الخرطوم ألتقيت قطار الشرق، التوأم الروحى لقطار الغرب، فى رحلتين، رحلة الذهاب من الخرطوم إلى خشم القربة ورحلة الإيّاب إلى الخرطوم. ومن ثمّ إلتقيت إنسان الشرق، فأعجبت به وأحببته. تلكم قصة أخرى ...
eliaselghayeb@hotmai.com
الياس الغائب ... كوبنهاجن

 

آراء