قوي الجبهة الثورية وحُمّص المولد
د. عبدالمنعم عبدالباقي علي
16 April, 2023
16 April, 2023
نُشر في سودانايل بتاريخ 8 مايو, 2019
بسم الله الرحمن الرحيم
منشورات حزب الحكمة:
abdelmoniem2@hotmail.com
أصدرت قوي الجبهة الثورية التي تضم: العدل والمساواة السودانية، حركة تحرير السودان، حركة تحرير السودان – المجلس الانتقالي، مسار دارفور، وطرفي الحركة الشعبية – شمال، مسار المنطقتين، ما أسمته: “وثيقة أبو ظبي” واقترحت إطاراً سياسياً لوقف الحرب وتحقيق الديموقراطية والسلام في السودان. وقد تمّ ذلك، باعترافها، بدعوة من حكومة الأمارات العربية المتحدة ومباركتها.
والإطار ملئ بالمغالطات التاريخية والمنطقية. وقد ذكر الإطار ثلاث نقاط.
الأولي حقيقة وهي:
“تمكن شعب السودان بعد ثلاثين عام من مصارعة نظام المؤتمر الوطني الفاشي الملتبس بالدين”.
والثانية تقول: “الذي ارتكب جرائم الإبادة الجماعية”، وهي نقطة خلافية لأنّها لم تثبت بعد في المحاكم، وإن كانت القرائن تدلّ على ارتكاب النظام لجرائم حرب، وجرائم ضدّ الإنسانية، أو إبادة جماعية، ولكن الحركات المسلحة شريكة أصيلة لنظام الإنقاذ في الجرائم المذكورة وعليها أن تثبت براءتها أيضاً.
ويكفي قوي الجبهة الثورية أنّها شاركت سلطة الإنقاذ الحكم كلّها إلا فصيل الأستاذ عبد الواحد محمد نور، وكلّها مارست الديكتاتورية مع رفاق سلاحها فأقصت من أقصت، واغتالت من اغتالت، وأعدمت من أعدمت، وانقسمت وانشطرت مثل الأميبا ليس من أجل المبدأ ولكن من أجل المال أو القوة أو السلطة.
أمّا النقطة التي تليها: ” ومزّق السودان إلى دولتين”، فهذا اختلاق، لأنّ مسئولية الحركة الشعبية أكبر من مسئولية نظام الإنقاذ. أوّلاً في رفض الدكتور جون قرنق مساعي السلام في فترة الديموقراطية الثالثة ممّا ضعّف من فرص نجاحها، وها هي بقاياها بقيادة الأستاذ ياسر عرمان والسيد مالك عقار والسيد عبد العزيز الحلو تفعل نفس الشيء.
الأمر الثاني أنّ أعضاء الحركة الشعبية من أبناء الشمال، وعلى رأسهم الدكتور منصور خالد، انفردوا بالتفاوض مع نظام الإنقاذ وأقصوا بقيّة المعارضة الشمالية وخانوا العهد الذي بينهم، وكذلك خدموا، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أجندة الانفصاليين من الجنوبيين ورضوا بتقرير المصير، ممّا أدّي إلى انشطار السودان. وقد كانت نيفاشا فرصة ذهبية للعبور بالوطن نحو الديموقراطية ولكن ارتهان القرار للأجنبي طغي على الإحساس الوطني.
وثالثاً رضوا بما ساومهم عليه نظام الإنقاذ من السلطة، وظنّوا أن الفوز في الانتخابات سيكون من نصيبهم، ولم يسعوا للتغيير الديمقراطي كما وعدوا، بل اكتفوا بالاحتجاج ولم يثوروا على النظام عندما نقض عهوده. ثمّ ترشح الأستاذ ياسر عرمان لرئاسة الجمهورية وانسحب وخيّب ظنّ الجماهير.
رابعاً اعتمدوا على رجل واحد ليحقّق ما يريدون، مثلما فعلت الجماعة الإسلامية، ويفعل حزب الأمة وغيرهم من الأحزاب يمينها ويسارها، فلما اختاره الله انقطع فكرهم، ولم يجدوا حلاً غير البندقية بلا قضية حقيقية، بعد انفصال الجنوب تنافساً على مناصب سياسية بعد انتخابات خاضوها وخسروها، ولمّا خذلهم رفقاء سلاحهم من الجنوبيين وذهبوا بكلِّ شيء وتركوهم في العراء كاليتامى، اختلقوا جنوباً أخرى يحاربون من أجلها.
كلّ هذا يظهر خلوّ طرفهم من الرؤية والاستراتيجية، وعمل الفريق، وأنّ فكرهم لم يكن أكثر من شعارات لا غير. وما يثبته أيضاً اللجوء للمفاوضات مع نفس النظام حتى وقت قريب للمشاركة في السلطة.
خامساً لم يدافعوا عن حق الشمال، كممثلين للشمال، فالمسألة لم تكن تحرير الجنوب ولكن تحرير السودان قاطبة من الشمولية.
ثمّ يقول ميثاق أبو ظبي:
“هذه الثورة صنعها السودانيون في الهامش والمركز وببسالة النساء قبل الرجال والشباب والشيوخ، وهي ثورة ملك لجميع السودانيين”. وهذه حقيقة. ولكن كلّ السودانيين تعني كلّ السودانيين؛ علمانيين، أو إسلاميين أو يساريين، أو لا منتمين لمذهب إلا حبّ الوطن، فما بالكم تجتمعون في الأمارات العربية المتحدة، لتستخدمكم كمخلب ضدّ الإسلاميين ولتسحب البساط من تحت تحالف قطر وتركيا وتقوِّي موقف الجيش وليس فيها دولة ديموقراطية واحدة؟
ومعروف غرضها كما قال وزير خارجيتها، الذي أعلن حقّ الأمارات للتدخل في شأن السودان؟ من أين أتاهم هذا الحق؟ ألنا نفس الحق في التدخل في شئونهم؟ ومتي ستتحوّل بلادهم إلى نظام ديموقراطي؟ ولماذا يساندون أهل السودان ليحقٌّقوا أمانيهم في تكوين دولة مواطنة ويبخلون بها على مواطنيهم؟ فإن كانت دولة المواطنة الديموقراطية معقل الخير فليهبوها لأهلهم، أليسوا أجدر بها؟ وإن كانت شرّاً مستطيراً فلماذا يريدونها لنا وهم يدّعون حبّنا والشفقة على مصيرنا؟
بل ألم يسندوا نظام الإنقاذ بودائعهم المليارية فأطالوا عمره، وسكتوا على فساده وهم يعلمون؟
فيا قوي الجبهة الثورية هل تظنّون أنّكم أكثر وطنية أو إخلاصاً أو صلاحاً من الإسلاميين؟ إنّكم مثلهم. فكلّ أصحاب الأيديولوجيات سواء؛ مهما كان مصدرها أو لونها، فهي ضارّة بصحة السودان ومرض يجب مقاومته برفع الوعي. ولا وصاية على شعوب السودان من أحدِ؛ أنتم أو الإسلاميين، أو دول الجوار، أو دول العالم، فشعوب السودان ستقرّر كيف تُحكم ومن يحكمها بلا إملاء أو تخوين، وسيكون ذلك من خلال العمل السياسي الشفّاف والمحكوم بالقوانين والأخلاق. نحن نريد ثقافة سودانية تقوم على قيم التسامح والتعايش، كما نسجها الأجداد في ثوب فضفاض يلمّ شعث الشعوب السودانية، الإسلام جزء أصيل منها. إسلام لا ينقل إلينا أمراض شعوب أخرى وثقافتهم وطباعهم الجلفة القاحلة من الإنسانية، بل إسلام السماحة والإيثار حيث يُعرّف المسلم بمن سلم الناس من يده ولسانه والمؤمن من أمنه الناس.
ثمّ تقولون:
“وساهمت حركات الكفاح المسلح بنصيب وافر من التضحيات شمل قواعدها وقادتها”، نعم لقد ضحّت قواعدكم كثيراً في حروب عبثية لم تنتصروا فيها، ولكن قادتكم لم نر أو نسمع لهم بتضحية.
وتقولون:
“ونحن الآن على أعتاب مرحلة جديدة توفر فرصة عظيمة لتحقيق السلام والديمقراطية ودولة المواطنة المتساوية في آن واحد”. وهذا صحيح، فما الذي يمنعكم من إلقاء السلاح ومشاركة الجميع لتحقيق هذه الدولة وعدوّكم قد غاب عن الساحة؟ مع من حربكم الآن؟
ونأتي لمربط الفرس في اقتراحكم:
” تتأسس الحكومة المدنية الديمقراطية على مرحلتين:
المرحلة الأولى:
تبدأ بتكوين حكومة ما قبل الانتقال، وتقودها قوى الحرية والتغيير ما عدا الجبهة الثورية، ومدتها ستة أشهر ومهامها الأساسية هي: –
أولا: الوصول إلى اتفاق سلام شامل يخاطب الأسباب الجذرية التي قادت إلى الحروب في السودان ونتائجها، وخصوصيات مناطق النزاع المسلح”.
هذا الاتفاق كان سيكون ذا معني لو أنّ نظام الإنقاذ ما يزال في السلطة، ويرغب في التحوّل للديموقراطية وبناء دولة المواطنة، ولكن كيف سيكون مع الشعب الذي أطاح بهذا النظام باسم دولة المواطنة وإرساء قيم السلام والتنمية في كلّ بقاع السودان؟ من هو العدو الذي ستتفاوضون معه؟
وتتفقون على ماذا ونحن نعرف الأسباب التي أدّت للحروب والظلم والثورة قامت لهذه الأهداف؟ أم نسيتم هتاف الجماهير: “يا عنصري يا مغرور كلّ البلد دارفور”؟ أم تريدون أن تتفقوا على موقعكم من الإعراب في الحصول على تسوية مشاركة السلطة وقد بدا لكم أنّكم لا شرف لكم في ثورة قادتها النساء قبل الرجال وضحّين وضحّوا من أجلها وأنتم على مرمي حجر من الاتفاق مع نظام الإنقاذ؟
وتقولون أيضاً:
” اعتماد سياسة خارجية متوازنة بعيدة عن المحاور ومؤسسة على تحقيق المصالح الوطنية مع ضمان الحضور الفاعل للبلاد في المحافل الإقليمية والدولية”.
أين هي هذه السياسة الخارجية المتوازنة بعيداً عن المحاور وأنتم بدأتم عملكم بالانحياز لمحور المملكة السعودية والإمارات العربية ومصر والبحرين؟
بالله عليكم احترموا عقولكم قبل أن تحترموا عقولنا.
إن كنتم تريدون ما قلتم وهو:
“الاتفاق على ترتيبات أمنية فاعلة تضمن حقوق قوات الأطراف ومستقبلها كما تضمن عدم الانتكاس إلى حالة الحرب مرة أخرى”.
فيتّضح أنّ حشو الميثاق بكل ما تدعو له الثورة علناً، هو تعمية عن السبب الحقيقي ولصرف الأنظار عن مطالبكم لتوفيق أوضاعكم على حساب الشعب.
وهل ستقوم الحرب إذا لم يضمن لجنودكم وظائف في الجيش أو في الدولة؟ إذن أين المبادئ التي تنادون بها؟ ألم يثوروا ليحرّروا وطنهم ومواطنيهم من ظلامات العهود وها هي أمانيهم حان قطف ثمارها؟ أيعودوا للحرب طلباً لثمن بطولتهم لتحرير وطنهم، وأهلهم؟ وليتهم حرّروه وحرّروهم.
وكيف سيحل السلام والأستاذ ياسر عرمان يقول إنّ قوّات الدعم السريع جزء من قوي التغيير بينما يتّهمهم أهل دارفور بالتطهير العرقي ويطلبون محاكمتهم؟ هل ناقش الأستاذ ياسر عرمان هذه النقطة مع حلفائه من قادة الحركات المسلحة في دارفور؟
إنّنا لن نحتاج إلى مفاوضات سياسية ولا وسطاء ولا ضامنين خارجيين، بل نحتاج إلى أخوة وأصدقاء يرجعون لنا أموالنا المسروقة من مصارفهم، ويدلّوننا على عقاراتهم وتجارتهم، ويحترموننا كما نحترمهم، ويردّون لنا إحساننا إليهم في سابق الأيام وراهنها بإحسان أفضل بلا منٍّ أو أذى، لا أن يرموا إلينا بفتات موائدهم، فمستقبلهم ومصيرهم، إن كانوا يعلمون، هو هذا السودان الذي يستهينون به.
فالعقبة الكأداء التي وقفت في طريق سلام وتطور الوطن زالت، وأهل السودان أقدر على حلّ مشاكلهم بأنفسهم، وإذا لم يرتفعوا إلى مستوي المسئولية فليس لهم حق في سلام سيعتمدون فيه على الآخرين لتحقيقه واستدامته.
إنّ العقبة الوحيدة الآن هي تناوش أهل السودان لجسد الوطن باسم الوطنية والوطنية منهم براء.
بل هي الأنانية والذاتية المنتفخة كالبالون الذي ستخطفه الرياح وتعلو به بعيداً إلى عالم النسيان. فيا أهل ألقوي الثورية ومن شابههم، من الحكمة أن تفيقوا وأن تطهّروا ضمائركم من الخيانة والتبعية باسم الوطن، وأنتم أدمنتم الإعانات والتمويل الخارجي، فلا تطلبوا مغنماً، وضعوا السلاح وشمِّروا السواعد لبناء الوطن، وانخرطوا في العملية السياسية كأحزاب، لا كجماعات مسلحة تفرضون مطالبكم بقوّة السلاح، أو التهديد بالحرب وبسياسة عليَّ وعلى أعدائي. فالوطن يحتاج إلى صُنّاع ومزارعين وعلماء لا إلى جنود وحُكّام، فهو يتقيّأ عسكراً وأربعين مليوناً من السياسيين. وسنري حين يأتي المواطن ليصوّت أيّ الأحزاب سيختار.
وضحّوا من أجل هذا الوطن، وثوروا إن لم تحقّق الثورة أهدافها، ولكن لا تحاربوها وهي تحقّق أهدافكم، ولا تدّعوا بطولات وهمية، وإلا فسيتخطاكم الزمان ويزيحكم الشباب كما فعلوا بالإنقاذ والأحزاب البائدة. وأنصحكم بنقد الذات، ومراجعة المسار وتصحيحه، وفهم الواقع، وإلا فأخشى عليكم أن تفوت عليكم الفرصة لحرصكم على حُمّص المولد، فتجدون أنّ المولد قد فات وقته، وانفضّ سُمّاره، فلا مولد دخلتم ولا حُمّص أدركتم.
ودمتم لأبي سلمي
///////////////////
بسم الله الرحمن الرحيم
منشورات حزب الحكمة:
abdelmoniem2@hotmail.com
أصدرت قوي الجبهة الثورية التي تضم: العدل والمساواة السودانية، حركة تحرير السودان، حركة تحرير السودان – المجلس الانتقالي، مسار دارفور، وطرفي الحركة الشعبية – شمال، مسار المنطقتين، ما أسمته: “وثيقة أبو ظبي” واقترحت إطاراً سياسياً لوقف الحرب وتحقيق الديموقراطية والسلام في السودان. وقد تمّ ذلك، باعترافها، بدعوة من حكومة الأمارات العربية المتحدة ومباركتها.
والإطار ملئ بالمغالطات التاريخية والمنطقية. وقد ذكر الإطار ثلاث نقاط.
الأولي حقيقة وهي:
“تمكن شعب السودان بعد ثلاثين عام من مصارعة نظام المؤتمر الوطني الفاشي الملتبس بالدين”.
والثانية تقول: “الذي ارتكب جرائم الإبادة الجماعية”، وهي نقطة خلافية لأنّها لم تثبت بعد في المحاكم، وإن كانت القرائن تدلّ على ارتكاب النظام لجرائم حرب، وجرائم ضدّ الإنسانية، أو إبادة جماعية، ولكن الحركات المسلحة شريكة أصيلة لنظام الإنقاذ في الجرائم المذكورة وعليها أن تثبت براءتها أيضاً.
ويكفي قوي الجبهة الثورية أنّها شاركت سلطة الإنقاذ الحكم كلّها إلا فصيل الأستاذ عبد الواحد محمد نور، وكلّها مارست الديكتاتورية مع رفاق سلاحها فأقصت من أقصت، واغتالت من اغتالت، وأعدمت من أعدمت، وانقسمت وانشطرت مثل الأميبا ليس من أجل المبدأ ولكن من أجل المال أو القوة أو السلطة.
أمّا النقطة التي تليها: ” ومزّق السودان إلى دولتين”، فهذا اختلاق، لأنّ مسئولية الحركة الشعبية أكبر من مسئولية نظام الإنقاذ. أوّلاً في رفض الدكتور جون قرنق مساعي السلام في فترة الديموقراطية الثالثة ممّا ضعّف من فرص نجاحها، وها هي بقاياها بقيادة الأستاذ ياسر عرمان والسيد مالك عقار والسيد عبد العزيز الحلو تفعل نفس الشيء.
الأمر الثاني أنّ أعضاء الحركة الشعبية من أبناء الشمال، وعلى رأسهم الدكتور منصور خالد، انفردوا بالتفاوض مع نظام الإنقاذ وأقصوا بقيّة المعارضة الشمالية وخانوا العهد الذي بينهم، وكذلك خدموا، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أجندة الانفصاليين من الجنوبيين ورضوا بتقرير المصير، ممّا أدّي إلى انشطار السودان. وقد كانت نيفاشا فرصة ذهبية للعبور بالوطن نحو الديموقراطية ولكن ارتهان القرار للأجنبي طغي على الإحساس الوطني.
وثالثاً رضوا بما ساومهم عليه نظام الإنقاذ من السلطة، وظنّوا أن الفوز في الانتخابات سيكون من نصيبهم، ولم يسعوا للتغيير الديمقراطي كما وعدوا، بل اكتفوا بالاحتجاج ولم يثوروا على النظام عندما نقض عهوده. ثمّ ترشح الأستاذ ياسر عرمان لرئاسة الجمهورية وانسحب وخيّب ظنّ الجماهير.
رابعاً اعتمدوا على رجل واحد ليحقّق ما يريدون، مثلما فعلت الجماعة الإسلامية، ويفعل حزب الأمة وغيرهم من الأحزاب يمينها ويسارها، فلما اختاره الله انقطع فكرهم، ولم يجدوا حلاً غير البندقية بلا قضية حقيقية، بعد انفصال الجنوب تنافساً على مناصب سياسية بعد انتخابات خاضوها وخسروها، ولمّا خذلهم رفقاء سلاحهم من الجنوبيين وذهبوا بكلِّ شيء وتركوهم في العراء كاليتامى، اختلقوا جنوباً أخرى يحاربون من أجلها.
كلّ هذا يظهر خلوّ طرفهم من الرؤية والاستراتيجية، وعمل الفريق، وأنّ فكرهم لم يكن أكثر من شعارات لا غير. وما يثبته أيضاً اللجوء للمفاوضات مع نفس النظام حتى وقت قريب للمشاركة في السلطة.
خامساً لم يدافعوا عن حق الشمال، كممثلين للشمال، فالمسألة لم تكن تحرير الجنوب ولكن تحرير السودان قاطبة من الشمولية.
ثمّ يقول ميثاق أبو ظبي:
“هذه الثورة صنعها السودانيون في الهامش والمركز وببسالة النساء قبل الرجال والشباب والشيوخ، وهي ثورة ملك لجميع السودانيين”. وهذه حقيقة. ولكن كلّ السودانيين تعني كلّ السودانيين؛ علمانيين، أو إسلاميين أو يساريين، أو لا منتمين لمذهب إلا حبّ الوطن، فما بالكم تجتمعون في الأمارات العربية المتحدة، لتستخدمكم كمخلب ضدّ الإسلاميين ولتسحب البساط من تحت تحالف قطر وتركيا وتقوِّي موقف الجيش وليس فيها دولة ديموقراطية واحدة؟
ومعروف غرضها كما قال وزير خارجيتها، الذي أعلن حقّ الأمارات للتدخل في شأن السودان؟ من أين أتاهم هذا الحق؟ ألنا نفس الحق في التدخل في شئونهم؟ ومتي ستتحوّل بلادهم إلى نظام ديموقراطي؟ ولماذا يساندون أهل السودان ليحقٌّقوا أمانيهم في تكوين دولة مواطنة ويبخلون بها على مواطنيهم؟ فإن كانت دولة المواطنة الديموقراطية معقل الخير فليهبوها لأهلهم، أليسوا أجدر بها؟ وإن كانت شرّاً مستطيراً فلماذا يريدونها لنا وهم يدّعون حبّنا والشفقة على مصيرنا؟
بل ألم يسندوا نظام الإنقاذ بودائعهم المليارية فأطالوا عمره، وسكتوا على فساده وهم يعلمون؟
فيا قوي الجبهة الثورية هل تظنّون أنّكم أكثر وطنية أو إخلاصاً أو صلاحاً من الإسلاميين؟ إنّكم مثلهم. فكلّ أصحاب الأيديولوجيات سواء؛ مهما كان مصدرها أو لونها، فهي ضارّة بصحة السودان ومرض يجب مقاومته برفع الوعي. ولا وصاية على شعوب السودان من أحدِ؛ أنتم أو الإسلاميين، أو دول الجوار، أو دول العالم، فشعوب السودان ستقرّر كيف تُحكم ومن يحكمها بلا إملاء أو تخوين، وسيكون ذلك من خلال العمل السياسي الشفّاف والمحكوم بالقوانين والأخلاق. نحن نريد ثقافة سودانية تقوم على قيم التسامح والتعايش، كما نسجها الأجداد في ثوب فضفاض يلمّ شعث الشعوب السودانية، الإسلام جزء أصيل منها. إسلام لا ينقل إلينا أمراض شعوب أخرى وثقافتهم وطباعهم الجلفة القاحلة من الإنسانية، بل إسلام السماحة والإيثار حيث يُعرّف المسلم بمن سلم الناس من يده ولسانه والمؤمن من أمنه الناس.
ثمّ تقولون:
“وساهمت حركات الكفاح المسلح بنصيب وافر من التضحيات شمل قواعدها وقادتها”، نعم لقد ضحّت قواعدكم كثيراً في حروب عبثية لم تنتصروا فيها، ولكن قادتكم لم نر أو نسمع لهم بتضحية.
وتقولون:
“ونحن الآن على أعتاب مرحلة جديدة توفر فرصة عظيمة لتحقيق السلام والديمقراطية ودولة المواطنة المتساوية في آن واحد”. وهذا صحيح، فما الذي يمنعكم من إلقاء السلاح ومشاركة الجميع لتحقيق هذه الدولة وعدوّكم قد غاب عن الساحة؟ مع من حربكم الآن؟
ونأتي لمربط الفرس في اقتراحكم:
” تتأسس الحكومة المدنية الديمقراطية على مرحلتين:
المرحلة الأولى:
تبدأ بتكوين حكومة ما قبل الانتقال، وتقودها قوى الحرية والتغيير ما عدا الجبهة الثورية، ومدتها ستة أشهر ومهامها الأساسية هي: –
أولا: الوصول إلى اتفاق سلام شامل يخاطب الأسباب الجذرية التي قادت إلى الحروب في السودان ونتائجها، وخصوصيات مناطق النزاع المسلح”.
هذا الاتفاق كان سيكون ذا معني لو أنّ نظام الإنقاذ ما يزال في السلطة، ويرغب في التحوّل للديموقراطية وبناء دولة المواطنة، ولكن كيف سيكون مع الشعب الذي أطاح بهذا النظام باسم دولة المواطنة وإرساء قيم السلام والتنمية في كلّ بقاع السودان؟ من هو العدو الذي ستتفاوضون معه؟
وتتفقون على ماذا ونحن نعرف الأسباب التي أدّت للحروب والظلم والثورة قامت لهذه الأهداف؟ أم نسيتم هتاف الجماهير: “يا عنصري يا مغرور كلّ البلد دارفور”؟ أم تريدون أن تتفقوا على موقعكم من الإعراب في الحصول على تسوية مشاركة السلطة وقد بدا لكم أنّكم لا شرف لكم في ثورة قادتها النساء قبل الرجال وضحّين وضحّوا من أجلها وأنتم على مرمي حجر من الاتفاق مع نظام الإنقاذ؟
وتقولون أيضاً:
” اعتماد سياسة خارجية متوازنة بعيدة عن المحاور ومؤسسة على تحقيق المصالح الوطنية مع ضمان الحضور الفاعل للبلاد في المحافل الإقليمية والدولية”.
أين هي هذه السياسة الخارجية المتوازنة بعيداً عن المحاور وأنتم بدأتم عملكم بالانحياز لمحور المملكة السعودية والإمارات العربية ومصر والبحرين؟
بالله عليكم احترموا عقولكم قبل أن تحترموا عقولنا.
إن كنتم تريدون ما قلتم وهو:
“الاتفاق على ترتيبات أمنية فاعلة تضمن حقوق قوات الأطراف ومستقبلها كما تضمن عدم الانتكاس إلى حالة الحرب مرة أخرى”.
فيتّضح أنّ حشو الميثاق بكل ما تدعو له الثورة علناً، هو تعمية عن السبب الحقيقي ولصرف الأنظار عن مطالبكم لتوفيق أوضاعكم على حساب الشعب.
وهل ستقوم الحرب إذا لم يضمن لجنودكم وظائف في الجيش أو في الدولة؟ إذن أين المبادئ التي تنادون بها؟ ألم يثوروا ليحرّروا وطنهم ومواطنيهم من ظلامات العهود وها هي أمانيهم حان قطف ثمارها؟ أيعودوا للحرب طلباً لثمن بطولتهم لتحرير وطنهم، وأهلهم؟ وليتهم حرّروه وحرّروهم.
وكيف سيحل السلام والأستاذ ياسر عرمان يقول إنّ قوّات الدعم السريع جزء من قوي التغيير بينما يتّهمهم أهل دارفور بالتطهير العرقي ويطلبون محاكمتهم؟ هل ناقش الأستاذ ياسر عرمان هذه النقطة مع حلفائه من قادة الحركات المسلحة في دارفور؟
إنّنا لن نحتاج إلى مفاوضات سياسية ولا وسطاء ولا ضامنين خارجيين، بل نحتاج إلى أخوة وأصدقاء يرجعون لنا أموالنا المسروقة من مصارفهم، ويدلّوننا على عقاراتهم وتجارتهم، ويحترموننا كما نحترمهم، ويردّون لنا إحساننا إليهم في سابق الأيام وراهنها بإحسان أفضل بلا منٍّ أو أذى، لا أن يرموا إلينا بفتات موائدهم، فمستقبلهم ومصيرهم، إن كانوا يعلمون، هو هذا السودان الذي يستهينون به.
فالعقبة الكأداء التي وقفت في طريق سلام وتطور الوطن زالت، وأهل السودان أقدر على حلّ مشاكلهم بأنفسهم، وإذا لم يرتفعوا إلى مستوي المسئولية فليس لهم حق في سلام سيعتمدون فيه على الآخرين لتحقيقه واستدامته.
إنّ العقبة الوحيدة الآن هي تناوش أهل السودان لجسد الوطن باسم الوطنية والوطنية منهم براء.
بل هي الأنانية والذاتية المنتفخة كالبالون الذي ستخطفه الرياح وتعلو به بعيداً إلى عالم النسيان. فيا أهل ألقوي الثورية ومن شابههم، من الحكمة أن تفيقوا وأن تطهّروا ضمائركم من الخيانة والتبعية باسم الوطن، وأنتم أدمنتم الإعانات والتمويل الخارجي، فلا تطلبوا مغنماً، وضعوا السلاح وشمِّروا السواعد لبناء الوطن، وانخرطوا في العملية السياسية كأحزاب، لا كجماعات مسلحة تفرضون مطالبكم بقوّة السلاح، أو التهديد بالحرب وبسياسة عليَّ وعلى أعدائي. فالوطن يحتاج إلى صُنّاع ومزارعين وعلماء لا إلى جنود وحُكّام، فهو يتقيّأ عسكراً وأربعين مليوناً من السياسيين. وسنري حين يأتي المواطن ليصوّت أيّ الأحزاب سيختار.
وضحّوا من أجل هذا الوطن، وثوروا إن لم تحقّق الثورة أهدافها، ولكن لا تحاربوها وهي تحقّق أهدافكم، ولا تدّعوا بطولات وهمية، وإلا فسيتخطاكم الزمان ويزيحكم الشباب كما فعلوا بالإنقاذ والأحزاب البائدة. وأنصحكم بنقد الذات، ومراجعة المسار وتصحيحه، وفهم الواقع، وإلا فأخشى عليكم أن تفوت عليكم الفرصة لحرصكم على حُمّص المولد، فتجدون أنّ المولد قد فات وقته، وانفضّ سُمّاره، فلا مولد دخلتم ولا حُمّص أدركتم.
ودمتم لأبي سلمي
///////////////////