كأسك يا برهان !!
محمد موسى حريكة
10 November, 2022
10 November, 2022
من الأعمال الخالدة للكاتب المسرحي السوري محمد الماغوط تلك المسرحية التراجيدية (كأسك يا وطن ) والتي أدي دور البطولة فيها دريد لحام . تدور المسرحية في عالم اللامعقول حيث يتأرجح الابن في وطن تلتهمه قسوة الحياة وتفاصيلها اليومية وبين عالم برزخى يضم روح ذلك الأب الذي مضي.
فالابن يكلم الموتي في ذلك الحوار الذي يدور بينه وبين أبيه .
حلوة الجنة يا أبي؟ يسأل الابن وليجيء صوت الأب من خلف العدم ....(ما في مثل الجنة ، بس في الجنة ما بنغني عن الوطن) ، ربما يريد الماغوط في تلك المماهاة العبثية أن يطرح تلك الفلسفة بين الحرية وبًعدها والحاجة الفطرية لها حتي هناك حيث كل شئ ممكن عدا الغناء للوطن ، إو كما صورها الشاعر المصري صلاح جاهين في ذلك الممكن والمستحيل وخيارات الجنة .
تطلب حواجب نمل ، ولا قلوب دبب
تحضر بسرعة مذهلة
لكن مافيش غير شئ واحد وحيد
لو تطلب لا يستجاب
أنك تعوز تخرج من الباب الحديد
إذن فإن كلا الكاتبين وحين تستفحل الأزمة وتضيق بوابات الخروج يبحثان عن الإجابة وعن تلك المقاربات بين حياة قاسية تفاصيلها أبدية مشحونة بالأخيلة والسعادة المطلقة، تماما كما أختصرها شاعرنا حميد في غنائية عم عبد الرحيم ذلك البحث غير المجدي عن موت الأمنيات ولكنها ربما تكون في الانتظار خلف سديم الحياة الأبدية
(في الجنة أم نعيم ..في الجنة أم قصر
يا عبد الرحيم إلا ورا القبر )
تلك المقاربة تنقلنا إلي البرهان والذي أنطلق خلسة نحو باحة الاعتصام شاقاً صفوف الثوار ليتصدر قيادة هذا الوطن ،تسنده منصة نفسية غائرة في تكوين شخصيته ذلك أن أباه ذات ليلة من ليالي هذا الوطن السودان (المرمي تحت الشمس) قد رأي في منامه أن طفله البرهان سيحكم السودان .
وخلاف ما يري المحللون الاستراتيجيون أو السياسيون الذين غاصوا في خطاب البرهان ، أو حتي رفاقه
في تلك الثكنات الكئيبة، أو حتي الكًتاب الكذبة فإن البرهان وفي كل تلك المنصات الخطابية التي إعتلاها فهو يخاطب روح أبيه وتلك الرغبة البنيوية في تحقيقها وذلك لا يحتاج لجهد مدارس نفسية من مرجعيات سيجموند فرويد أو جان بيكيه لقراءة تلك الشخصية المركبة التي تستخدم كل شئ من أجل ترسيخ وجودها السلطوي ، من الدين إلي التحالفات التكتيكية ،إلي ألاعيب الخداع الساذجة
، مستخدماً الغدر والخيانة في سبيل توطين مشروعه السلطوي.
فالبرهان ينطلق نحو فلوات وخلاء الخرطوم نحو معسكرات الجند باحثاً عن مجده الجاري تأسيسه وهو يتجنب حد الموت حشود الشعب وفوضى هتافاتها وشعاراتها الحارقة وبحثها المضني عن الحياة ومتطلباتها الآنية من خبز ومدرسة ومشفي ومياه نقية، ولكن البرهان لا يريد أن يستمع إلي ذلك ، فقط يريد منتوجه الخاص المرتبط بطفولته الشقية التي تم الترتيب لها بأن نعيم الدنيا هو حكم هذه البلاد .
في مخيلة البرهان أنه يمتلك قدرات بسمارك وزير الخارجية الألماني في ثلاثينيات القرن التاسع عشر ، ففي خطاب (حطاب) يتوهم أنه يوهمنا بأنه قد أطاح بحلفائه الإسلاميين ،وأنه بصدد الافلات من قبضتهم ومشاريعهم ، ثم نصحو في اليوم التالي أنه قد أعاد أصول وأرصدة أعظم قلعة للإسلاميين (منظمة الدعوة الاسلامية) وهي شريان حياتهم الذي يضخ في ليل مؤامراتهم سبل البقاء وفناء الآخرين .
وكما أسلفت فإن البرهان مسكون لحد الموت بحلم أبيه ومسكون لحد الرعب من تلك الأفاعي التي يؤسس مشروعه بخبرات دهاقنتها في القتل والتشريد ونهب الموارد وبناء الطواغيت .
كان مرعوباً ويصرح أنه مسنوداً بجاهزية الطبنجة التي يحيط بها خصره ويمد يده نحوها كرعاة البقر في أفلام الغرب الأمريكي الدامية في صناعات هوليود .
هو يدرك أنهم يحيطون به كذلك الذباب الخلوي في حطاب، وأنهم أقرب إليه من حبل الوريد ، وأنه لا يملك فكاكاً من صحبتهم ،ولكن الهواء الطلق في ذلك المعسكر شبه الصحراوي شكل لديه مسرحاً للبهتان مدعوماً بصيحات الجنود الرعناء وتهليلهم وتكبيرهم الذي أنعش في ذاكرته سنوات (ربوبية) الفور .
كان يقترب جداً من بطل الماغوط في كأسك يا وطن ، فحينما سأله أباه من خلف السديم عن الحياة في الوطن من بعده ، قال أن السجون باتت للمجرمين فقط ، قائلاً أن المعتقلات حولناها إلي مدارس ومستشفيات ، أما العدالة فحدث ولا حرج ، لا لاجئين أو مهجرين ، ( مو ناقصنا إلا شوية كرامة).
سيضيف البرهان (في عام واحد شاركت في تشييع إليزابيث الثانية، وخاطبت الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك ، وأمس الاول عدت من مشاركتي في القمة العربية في الجزائر ، وأمس كنت في شرم الشيخ في قمة المناخ ، هذا عدا الايقاد في نيروبي يا أبي) .
في ذلك الخلاء حطاب ، كانت روح البرهان قد تحررت تماماً من كوابيس ارواح جثامين المشارح التي تفسخت بفعل حرارة الصيف ، وعدم انتظام التيار الكهربائي ، هنا لم يكن ممكناً سماع هتاف مقاومة الشوارع في المدن الجائعة الظامئة.
كاد البرهان لحظتها أن يتحرر نهائياً من إثم الشهداء جميعاً، وأولئك الذين أثلمت رصاصات الجند أعينهم ، وأصحاب العاهات الدائمة ،والمختفين قسرياً ، والأرامل ، والأمهات الثكلي ،والذين غادروا مملكته عابرين للصحاري بحثاً عن حياة ، وموتي القوارب في لجج المحيط المالحة ، وحتي أولئك الذين قضوا عند أسوار مدن مليلة و سبته في محاولات العبور إلي إسبانيا نحو الفردوس المفقود في أطراف أوربا .
كأسك يا برهان المترعة بالدماء ، وأنت تعيش نشوة ذلك الحلم ولم يفاجئك حتي ذلك الواقع أن إقليم الشرق بأكمله بصدد أن يصبح خارج أضغاث أحلامك في حكم هذا البلد الأمين الآمن بحلم وواقعية بنوه خلف المتاريس وعبق الغازات السامة المسيلة للدموع ، وفاقدة القدرة في لجم الذين يسعون لإيقاظك من حلمك البائس .خذها الليلة دون مكعبات ثلج فأجهزة التبريد جميعها معطلة هذا المساء .
musahak@hotmail.com
فالابن يكلم الموتي في ذلك الحوار الذي يدور بينه وبين أبيه .
حلوة الجنة يا أبي؟ يسأل الابن وليجيء صوت الأب من خلف العدم ....(ما في مثل الجنة ، بس في الجنة ما بنغني عن الوطن) ، ربما يريد الماغوط في تلك المماهاة العبثية أن يطرح تلك الفلسفة بين الحرية وبًعدها والحاجة الفطرية لها حتي هناك حيث كل شئ ممكن عدا الغناء للوطن ، إو كما صورها الشاعر المصري صلاح جاهين في ذلك الممكن والمستحيل وخيارات الجنة .
تطلب حواجب نمل ، ولا قلوب دبب
تحضر بسرعة مذهلة
لكن مافيش غير شئ واحد وحيد
لو تطلب لا يستجاب
أنك تعوز تخرج من الباب الحديد
إذن فإن كلا الكاتبين وحين تستفحل الأزمة وتضيق بوابات الخروج يبحثان عن الإجابة وعن تلك المقاربات بين حياة قاسية تفاصيلها أبدية مشحونة بالأخيلة والسعادة المطلقة، تماما كما أختصرها شاعرنا حميد في غنائية عم عبد الرحيم ذلك البحث غير المجدي عن موت الأمنيات ولكنها ربما تكون في الانتظار خلف سديم الحياة الأبدية
(في الجنة أم نعيم ..في الجنة أم قصر
يا عبد الرحيم إلا ورا القبر )
تلك المقاربة تنقلنا إلي البرهان والذي أنطلق خلسة نحو باحة الاعتصام شاقاً صفوف الثوار ليتصدر قيادة هذا الوطن ،تسنده منصة نفسية غائرة في تكوين شخصيته ذلك أن أباه ذات ليلة من ليالي هذا الوطن السودان (المرمي تحت الشمس) قد رأي في منامه أن طفله البرهان سيحكم السودان .
وخلاف ما يري المحللون الاستراتيجيون أو السياسيون الذين غاصوا في خطاب البرهان ، أو حتي رفاقه
في تلك الثكنات الكئيبة، أو حتي الكًتاب الكذبة فإن البرهان وفي كل تلك المنصات الخطابية التي إعتلاها فهو يخاطب روح أبيه وتلك الرغبة البنيوية في تحقيقها وذلك لا يحتاج لجهد مدارس نفسية من مرجعيات سيجموند فرويد أو جان بيكيه لقراءة تلك الشخصية المركبة التي تستخدم كل شئ من أجل ترسيخ وجودها السلطوي ، من الدين إلي التحالفات التكتيكية ،إلي ألاعيب الخداع الساذجة
، مستخدماً الغدر والخيانة في سبيل توطين مشروعه السلطوي.
فالبرهان ينطلق نحو فلوات وخلاء الخرطوم نحو معسكرات الجند باحثاً عن مجده الجاري تأسيسه وهو يتجنب حد الموت حشود الشعب وفوضى هتافاتها وشعاراتها الحارقة وبحثها المضني عن الحياة ومتطلباتها الآنية من خبز ومدرسة ومشفي ومياه نقية، ولكن البرهان لا يريد أن يستمع إلي ذلك ، فقط يريد منتوجه الخاص المرتبط بطفولته الشقية التي تم الترتيب لها بأن نعيم الدنيا هو حكم هذه البلاد .
في مخيلة البرهان أنه يمتلك قدرات بسمارك وزير الخارجية الألماني في ثلاثينيات القرن التاسع عشر ، ففي خطاب (حطاب) يتوهم أنه يوهمنا بأنه قد أطاح بحلفائه الإسلاميين ،وأنه بصدد الافلات من قبضتهم ومشاريعهم ، ثم نصحو في اليوم التالي أنه قد أعاد أصول وأرصدة أعظم قلعة للإسلاميين (منظمة الدعوة الاسلامية) وهي شريان حياتهم الذي يضخ في ليل مؤامراتهم سبل البقاء وفناء الآخرين .
وكما أسلفت فإن البرهان مسكون لحد الموت بحلم أبيه ومسكون لحد الرعب من تلك الأفاعي التي يؤسس مشروعه بخبرات دهاقنتها في القتل والتشريد ونهب الموارد وبناء الطواغيت .
كان مرعوباً ويصرح أنه مسنوداً بجاهزية الطبنجة التي يحيط بها خصره ويمد يده نحوها كرعاة البقر في أفلام الغرب الأمريكي الدامية في صناعات هوليود .
هو يدرك أنهم يحيطون به كذلك الذباب الخلوي في حطاب، وأنهم أقرب إليه من حبل الوريد ، وأنه لا يملك فكاكاً من صحبتهم ،ولكن الهواء الطلق في ذلك المعسكر شبه الصحراوي شكل لديه مسرحاً للبهتان مدعوماً بصيحات الجنود الرعناء وتهليلهم وتكبيرهم الذي أنعش في ذاكرته سنوات (ربوبية) الفور .
كان يقترب جداً من بطل الماغوط في كأسك يا وطن ، فحينما سأله أباه من خلف السديم عن الحياة في الوطن من بعده ، قال أن السجون باتت للمجرمين فقط ، قائلاً أن المعتقلات حولناها إلي مدارس ومستشفيات ، أما العدالة فحدث ولا حرج ، لا لاجئين أو مهجرين ، ( مو ناقصنا إلا شوية كرامة).
سيضيف البرهان (في عام واحد شاركت في تشييع إليزابيث الثانية، وخاطبت الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك ، وأمس الاول عدت من مشاركتي في القمة العربية في الجزائر ، وأمس كنت في شرم الشيخ في قمة المناخ ، هذا عدا الايقاد في نيروبي يا أبي) .
في ذلك الخلاء حطاب ، كانت روح البرهان قد تحررت تماماً من كوابيس ارواح جثامين المشارح التي تفسخت بفعل حرارة الصيف ، وعدم انتظام التيار الكهربائي ، هنا لم يكن ممكناً سماع هتاف مقاومة الشوارع في المدن الجائعة الظامئة.
كاد البرهان لحظتها أن يتحرر نهائياً من إثم الشهداء جميعاً، وأولئك الذين أثلمت رصاصات الجند أعينهم ، وأصحاب العاهات الدائمة ،والمختفين قسرياً ، والأرامل ، والأمهات الثكلي ،والذين غادروا مملكته عابرين للصحاري بحثاً عن حياة ، وموتي القوارب في لجج المحيط المالحة ، وحتي أولئك الذين قضوا عند أسوار مدن مليلة و سبته في محاولات العبور إلي إسبانيا نحو الفردوس المفقود في أطراف أوربا .
كأسك يا برهان المترعة بالدماء ، وأنت تعيش نشوة ذلك الحلم ولم يفاجئك حتي ذلك الواقع أن إقليم الشرق بأكمله بصدد أن يصبح خارج أضغاث أحلامك في حكم هذا البلد الأمين الآمن بحلم وواقعية بنوه خلف المتاريس وعبق الغازات السامة المسيلة للدموع ، وفاقدة القدرة في لجم الذين يسعون لإيقاظك من حلمك البائس .خذها الليلة دون مكعبات ثلج فأجهزة التبريد جميعها معطلة هذا المساء .
musahak@hotmail.com