كابول … ومشهد الرعب !!

 


 

 

musahak@hotmail.com
سيظل مشهد الرعب الإنساني الذي شهده مطار كابول في الخامس عشر من اغسطس 2021 مسيطرا علي الذاكرة الانسانية علي مدي التاريخ المرئي القادم . ويوفر ذلك المشهد أكثر من قراءة لكل مهتم حسب زاوية الرؤيا التي يتيحها له ذلك المنظور .
ولعل اقرب الصور التي تقفز الي ذهن المشاهد وفق المقارنة التاريخية ،هو تلك الهزيمة التي ألحقها ثوار الفيتكونغ بالولايات المتحدة الأمريكية في عام 1975 بعد ملحمة سايجون التي حسمت الحرب الفيتنامية لصالح هوشي منه زعيم الثورة الفيتنامية، في ذلك الفصل من المغامرة الأمريكية في فيتنام .كان مطار سايجون قد قامت قيامته بالمروحيات والمقاتلات الأمريكية والقاذفات بعيدة المدي في ذلك الإخلاء المتعجل للعسكريين الأمريكيين وحتي ان اسطح المطار وأبراج المراقبة كانت تعج بالمجندين الذين تدافعوا لاغتنام فرصة الهروب في ذلك الإخلاء وفوضي مطار (سايجون).
غير ان تلك الصورة التاريخية تخلو تمام من اَي مواطن فيتنامي يلاحق آليات فلول الجيش الهاربة ليغادر فيتنام طلبا للنجاة بروحه والفرار نحو المجهول حينما تصبح (الحياة)هي الأمل المنشود.
وهنا تكمن المقارنة والثمرة المفقودة في ذلك المشهد التراجيدي الذي قد لا يتوفر حتي في أفلام هوليود ،في فيتنام كان المجتمع الفيتنامي يضم مقاتلين نساء ورجال وفلاحين ومعدمون وجواسيس وخونة ومتعاونون مع سلطات الاحتلال ، ومع ذلك ظل التعلق في الحياة الممكنة بعد الجلاء يفوق كثيرا فكرة الاستسلام (للموت المتوهم ) والهروب لم يراود مخيلة حتي العملاء الذين كانوا يشون بالثوار الكامنين في جيوب المستنقعات .
كان لدي الفيتكونغ مشروعا وطنيا في تلك الحرب الضروس التي امتدت لسبعة عشر عاما ، وعقيدة قتالية مستلهمة روح الارض وإدراك ان المستعمر يسرق ثروات البلاد ويفقر الشعب في اعلي مراحل التطور الرأسمالي ،كان الجميع يدركون مقتضيات واستراتيجيات الحرب الباردة الدائرة حينها بين قطبين يمثلهما الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية ومشروع مقاومة وطني يعمل من أجل التحرير .
إذن فان الفلاحين والحرفيين وزارعي أرز المستنقعات ومربي النحل وبنات الليل اللائي كن يبعن المتعة والأسرار للجنود الامريكيين والخونة اليمينيين مناهضي الثورة والملاك الصغار الذين يديرون الأندية الليلية والحرفيين ،كل هؤلاء وغيرهم من الفيتناميين انتشروا في طرقات سايجون يشيعون المحتل الغاشم دون تسجيل محاولة هروب واحدة لمترجم او متعاون بشكل ما ،لقد هرب الاحتلال وبقيت فيتنام والفيتناميون .
هذا المشهد لا يمثل قدحا في الشخصية الأفغانية التي اقتحمت ممرات الهبوط بحثا عن (الحياة ) بقدر ما هو تضامنا وحسرة مع تلك الأرواح الشاردة نحو المجهول وهي مجرد أسئلة علي شاكلة لماذا يهرب هؤلاء عندما جاء هؤلاء .
وهي محاولة لقراءة المشهد من زاوية (الملالي ) او مقاتلي طالبان الذين اقتحموا كابول دون قتال يذكر ، وما تمثله حركة طالبان لدي الانسان الأفغاني الذي عرف طبيعة حكمها ومشروعها السياسي في الفترة التي اعقبت انتصار المجاهدين ورحيل السوفييت وحتي العام 2001 ثم التطورات التي اعقبت هزيمة طالبان بعد احداث سبتمبر 2001 والتي عصفت بطالبان خارج السلطة الي معاقلهم الجبلية او في الشريط الحدودي مع باكستان .ومن ثم بدأت مقاومتهم التي تكللت بدخولهم كابل في ذلك الصباح الخامس عشر من اغسطس 2021 وقيامة مطار كابول او ما يمكن ان نسميه نفق البحث عن (الحياة ).
في ذلك الصباح كانت كابول مسكونة بالرهبة وشبح الموت القادم في أكثر من وجه، كانت النساء يزلن اخر مساحيق التجميل من وجوههن والحوانيت مغلقة والمترجمون وعمال التسهيلات لقوات الاحتلال يبحثون عن مخابئ سرية هربا من القادمين.
ودور العرض السينمائي تزيل إعلاناتها علي عجل والحروف الأجنبية ولافتات المدارس تتعرض للتخريب وقد أقام متطرفون بعض (الجملونات) علي عجل يحشر بداخلها النساء السافرات وحليقي اللحي والشباب ذوي قصات الشعر الغربية في حين تجري احتفالات باهتة يقيمها راكبي الدراجات الهوائية مستخدمين مكبرات صوت صغيرة (تهليل تكبير). ويتم تمزيق علم الدولة واستبداله بعلم الحزب (حركة طالبان)، ولتسقط القومية في تلك البلاد المنقسمة منذ فجر التاريخ وهنا تستيقظ ذاكرة مشحونة بفترة حكم الملالي قبل عقدين من الزمان .
الفارون نحو المجهول مسكونون برعب البرنامج الطالباني وافتقاره الي الحداثة ومطلوبات الانسان المعاصر وحقوقه في عالم الثراء المعرفي المتدفق العابر للحدود . وكيف ان طالبان حتي الان لم تقدم مشروعا وطنيا للإجابة عن اشكاليات تلك البلاد الجبلية الباردة الغارقة في الحروب الأهلية والانقسام القبلي منذ فجر التاريخ ، ولم يعد التلويح بالعامل الوطني المتمثل في طرد الأجانب والأنكفاء علي القيم الأفغانية مقنعا ، وإلا لما شهدنا (قيامة) مطار كابول وذلك الهروب من الوطن الام حتي بوسائل الموت المتعددة.
خارج أفغانستان وفي العديد من البلاد الاسلامية فان الحركات الأصولية والتي تقاتل من اجل مشاريع رديفة لطالبان ،فهي تبدو في حالة نشوي وانتصار زائف لقراءتها المتعجلة لذلك المشهد وهي تعلم تماما ان التجربة الأفغانية ذات خصوصية وجودية و لا يمكن نقلها لأي مجتمع خارج وجودها الأفغاني .
فإذا كانت الجغرافيا هي التي جعلت من أفغانستان بلاد (العزلة) فان مشاريع الاسلام السياسي تحاول خلق واقع اجتماعي وسياسي يعزز تلك العزلة البائسة إضافة للفقر الذي يلف تلك الأودية والسفوح التي تزدهر زراعة الافيون في إحراشها.
الان وقد أصبحت تلك البلاد مرة اخري تحت قبضة طالبان ،فان قوي اخري اجنبية قادمة دون شك الي طريق الحرير وخطوط نقل الغاز العابر لآسيا الوسطي ،فهل لدي الملالي مشروعا وطنيا يتجاوز فكرة قهر الانسان وتأديبه الي حالة دنيوية تلبي حاجات الانسان في الحياة الدنيا وليس الاكتفاء فقط بتلك السياط التي تلهب ظهره ودفعه نحو ذلك المجهول .

 

 

آراء