كاسك . . .. يا وطن … بقلم: د.على حمد إبراهيم- واشنطن

 


 

 

alihamad45@hotmail.com

 

أما  الكأس ،  فهو  كأس  الشعب   السودانى  المترع بالهم  والقلق  على  مصير  وطنهم " الحدادى المدادى" كما  يحلو للاستاذ محجوب شريف  ، شاعر  السودان الملغوم  بالكبرياء الوطنى ، أن  يصفه دائما اما الوطن  فهو  هذا  البلد  القارة  الذى ظل عبر القرون  قويا متماسكا. و كريما  متسامحا مع  بنيه وجيرانه واشقائه ،  من  قرب  منهم  ومن بعد .اما  قلق  الشعب السودانى  ،فبسبب  هذه الانواء  والاعاصير التى اخذت  تهب  وتصرصر  من حول  بلدهم  هذا   فى  عصرهم هذا ، وتهدده بالتفتت الى  بضعة  دويلات  صغيرة متناحرة اذا لم يحسن   شعبه  الصمود فى  وجه   الخطر المحدق  ببلدهم القارة.  لقد  اخذت  المحن المتراكمة  والمتواترة  والمتعاضدة    بخناق  قادة  البلد المأزوم  وبخناق قادته الجدد  واظهرت  عجزهم  وتهتكهم  حتى اصبحوا  يطلبون  نجاة  بلدهم لدى  الاصقاع البعيدة ، يمخرون اليها عباب البحار  والمحيطات ،  يضربون  اكباد  ابلهم   اليها  علهم  يجدون لدى جهيزة  التى هناك الخبر  اليقين.  يفعلون  هذا  و لا  يفترون او  يسامون  حتى  وهم  يعودون كل  مرة خفافا  من مغنم او نجاح .  يصبرون  على اذى  وأسية السؤال  والانبطاح  للغير لا كما  صبر  اولوا العزم  من الرسل ، ولكن كما  يصبر العاجزون عن  فعل التمام .و جريا  على هذا المنوال الحزين جاءنا  فى  واشنطن ، العاصمة   التى تحكم العالم من وراء ستار و بدون  اذنه،   جاءنا فى الاسبوع الماضى كوم  كبير   من الزائرين الحكوميين  من  السودان ،  البلد  المكلوم  والمنكوب  بابنائه، جاؤنا  مردفين  هذه المرة  ، وهم  يحملون  شكاياتهم القديمة  الجديدة  كما فى كل  مرة  سابقة. حقيقة الأمر نحن ، معشر السودانيين الذين وجدنا  انفسنا  مقيمين  اقامة  دائمة  فى واشنطن، لم  نعد  نتذكر  بيقين  قاطع عدد  المرات التى جاءنا  فيها  زائرون   حكوميون  من بلدنا  وهم  يبحثون عن حلول للمشاكل التى  صنعوها  لبلدهم  بايديهم  ، او  شاركوا  فى صنعها  ،او  ضخموا  ما كان موجودا  من  مشاكل  واخطء آسية. بحث  هؤلاء  القادة  عن  الحلول فى  ما  وراء  البحار قال ويقول لنا انهم  يئسوا  من  اى  خير لدى  اهل السودان  الذى تركه  لنا  اجدادنا واباؤنا الاماجد ، الذين  كانوا  يجلسون القرفصاء  فى الفضاء  العريض عندما  تحزبهم المشاكل ، يناقشون  مشاكلهم فى  تجرد ، ويصلون الى  حلول شافية  لتلك المشاكل  فى خصوصية فريدة  حتى  لا تكاد شمالهم تعلم  ما  فعلت  يمينهم  فى ذلك الفضاء  العريض . ولم يكن  واردا عندهم  أن  يخطر  بذهن واحد منهم  فى ذلك الوقت  ان  يخرج  بتلك المشاكل  الى خارج حدود  الوطن.  فذلك  امر   لا يفكر  فيه  الا  فقير  فى  التقدير وفى  المروءة  والهمة  الوطنية. ومن  يقول بذلك  فهم  يسقطونه  من كشف الاخيار الذين  يرجع  اليهم  عند الملمات الكبرى . ولكننا  فى  هذه العاصمة المشغولة  بقضاياها  وبقضايا غيرها ، لم نعد  نتذكر عدد المرات التى توافدت علينا  فيها وفود  الحكومة السوانية  من كثرتها .  وهى تبحث  عن حل لمشاكل  السودان من نفس  العاصمة  التى خلقت كل  مشاكل العالم . ولم تحل  حتى اليوم مشكلة  واحدة مما خلقت  من  مشاكل.  ولكن  قادة السودان الجدد  ما زالوا  يبحثون عن المزيد من  التدخل الخارجى   فى  شئون بلدهم   الحدادى المدادى ، ربما  لأنه   ما زال  فيه  مزيد من المتسع.  ويبدو انهم لم يكفهم  تضرع العسكريين الدوليين  فى  بلدهم  باشكال ومسميات و(برانيط)  مختلفة  الاشكال  والالوان  ، لا  يمشون  فى الارض  هونا  ، انما  يعتلون دباباتهم  وطائراتهم وبوارجهم  ويمتشقون سيوفهم المهندة ورشاشاتهم ، وهم  يحدقون  شذرا  فى  عيون  الشمس  وفى  عيون الناس  ،  ويهصرون تحت اهابهم ضؤ  لقمر . لم تكف الجيوش  الجرارة  من الخبراء  الوهميين ينحدرون   من  كل  جنس  ولون ، الجهلاء  منهم  والعارفون. و لم تكف جيوش  الادعياء  ، الذين يصفون للسودان  ادواءه  ودونهم  أدواء  وشعوبهم ، يتمرغون  فى  وحلها  القديم  ويبقون  على  ما  هم  فيه  من وحل. لقد  اوجز الشاعر  العربى القديم  حين  قال  فى  مثل  هؤلاء :

 

تصف الدواء لذى  السقام  وانت السقيم

 `

  نعم ، لقد جاءنا  الزائرون  الحكوميون  مردفين هذه المرة. جاؤنا  ببضاعة  مزجاة من  الشتائم  المتبادلة  ، يعرضونها علينا  باسم  حكومة  (الوحدة)  الوطنية كما  كانوا  يفعلون فى كل مرة  سابقة.  ولكن  فى  هذه  المرة  تحديدا بدا لنا ايمانهم  الكاثوليكى  بالقدرات الخرافية للوسطاء الخارجيين  زائدا.  وبدت لنا  قناعتهم  الراسخة  بانه  لم  يعد   ممكنا  ان  تلملم  اطراف السودان المترامى هذا الا  بايدى خارجية.  فقد  جمعوا  كل  ما  لديهم  من  مشكلات  فى  جراب  كبير  وجاءوا بذلك  الجراب  الكبير الى الحاوى  الكبير  فى  واشنطن  التى عندها الخبر  اليقين.  من  الطريف  الغريب حقا ان لا يستذكر قادة  السودان الجدد  هؤلاء  تاريخ  بلدهم القريب وهم  فى  عجالة من امرهم  ليلحقوا بالسفن القاصدة  الى  الشواطئ  الخارجية .  اذ  لا  يبدو انهم يتذكرون  ان بلدهم  هذا  كان  فى  يوم من  الايام  قبلة  للباحثين عن النجاة  والوساطة  والريع . انهم لايذكرون انه  البلد  الذى  جمعت  وساطته  الخصمين اللدودين  جمال  عبدالناصر  وفيصل بن  عبد العزيز ، ليسمع العالم  بلاءات  الخرطوم    الثلاث ، التى  اعادت  للأمة  العربية  والاسلامية  روحها بعد  الهزيمة الماحقة فى  حزيران  1967.  وينسون  أن وساطة بلدهم  هى  التى  كتبت عمرا  جديدا للسيد ياسر عرفات ، بعد ان اصبح  على  شفا  جرف  هار  من الهلاك الاكيد  فى   ايلول  الاسود فى  عمان. وينسون   دور  بلدهم  فى  فرملة  مداميك  الحرب  بين  تنزانيا جوليوس  نايريرى   ويوغندا  عيدى امين  فى  عام 1979 . ولا  يدركون ما  قام به  بلدهم  فى  عودة  لحمة  الصفاء  بين دول المجموعة  الاقتصادية  لشرق  افريقيا  - يوغنداوكينيا  وتنزانيا  بعد  طول  جفاء واحتراب.  وقطعا  هم  لا يدركون  ما قام به  بلدهم  من  دور  فى تهدئة  فورة السادات ضد  القذافى  فى الحرب القصيرة  بين  البلدين الشقيقين. يا حسرة على  قادة   السودان  الجدد الذين  اصيبوا   فى  ذاكرتهم   الجمعية  وفى حلمهم  ودهائهم الجمعى فاهدروا كل  تلك البراءات  التاريخية التى عمدها التاريخ  القريب  لبلدهم  ولشعبهم . هل تعجل  عليهم  الخرف  السياسى المبكر  وهم بعد فى  خريف عمرهم السياسى ، فاصبحوا لا   شغل  لديهم  غير  اكتراء المسافات المستحيلة ، بحثا  عن مصباح  "علاء الدين" لكى  يهتدون به الى   الحكمة  الضائعة  فى ظلمات  بلدهم المنكوب.

 

نعم  ، لقد جاءنا فى  واشنطن الوفد  المزدوج الكبير. وخاطبنا  فى  القاعات  البهية  الساعات الطوال. وجلسنا وكأن على  رؤوسنا الطير  نستمع  بحرص شديد الى محن  البلد المنكوب  بقادته  يتلوها علينا نفس القادة  بعظمة السنتهم. واختار اعضاء  الوفد المزدوج  ان  يخاطبوننا  متفرقين  الى  وفدين. وفد شمالى  و آخر  حنوبى. واخذنا  من مكان  قريب  الاحساس باننا  نشاهد  تمرينا عمليا  ساخنا على الحالة  الانفصالية القائمة  فعلا  دون  ان  يجد  احد الشجاعة لكى يقول  ان  البقلة  فى الابريق .

 

لقد  قضينا  وقتا  تعيسا و نحن  نطرح  انفسنا  لاؤلئك  السياسيين   ليعرضواعلينا  اصنافا  بائرة من بضائع   حكومة  (الوحدة)   الوطنية  . وجال  بخاطرنا  سؤال  شقى  عن كيف  سيكون  الحال اذا  كان  هذا  الوفد  العرمرم المزدوج  لا يمثل  حكومة  وحدة  وطنية تكونت  بنصيحة واشراف نفس هؤلاء  الوسطاء  الذين  يحج الى ديارهم  اليوم  اعضاء هذه الحكومة  او  المنتسبون اليها. هل كانوا اسيتعاركون امامنا بالايدى  والشلاليت ، ام  يكتفون بالتنابذ  بالالقاب.

 

 النتيجة  الهائية  لزيارة الوفد  الحكومى  السودانى المزدوج ، لم تكن  واضحة  وتضاربت  حولها الروايات. فقد  قيل ان  الطرفين  فشلا  فى التوصل  الى نتيجة حاسمة  حول الحدود والتعداد  السكانى.   وخطورة  هاتين  المسألتين تكمن  فى انهما متصلتين اتصالا مباشرا بالمسألة  الانتخابية  التى   ترتكز عليها عملية التحول الديمقراطى كلا. ولكن  حديثا  مبشرا  آخر  ذكر ان اتفاقا  قد تم  حول  مسألة منطقة ابيى يقضى  بالتزام  الطرفين  بتنفيذ  قرار لجنة  التحكيم معا  مهما كانت  نتائجه مرة  على  هذا الجانب  او ذاك.  هذا  قرار شجاع.  واكيد ان الجانب الخاسر سوف  يتحمل غضب الشارع  السياسى الموالى له  فى  موسم انتخابى حرج  بالنسبة  للجميع . ولكن المنعطفات التاريخية  الحادة  دائما  يكون  فيها خاسرون  ورابحون بين المتبارين .  ولكن يبقى الرابح  الاكبر دائما  هو الوطن . 

 

ان  حج  القادة السودانيين  المتواتر والمتكرر والمكثف  الى العواصم  الخارجية  بحثا عن  حل  لمشكلة  بلدهم اصبح  يستفز  مشاعر شعبهم الوطنية  ، ويعزز  فيها شعورا  عميقا بالمذلة والمهانة والاستصغار.كما اصبح  تهافت بعض القوى الخارجية  على  التدخل  فى شئون السودان ، اصبح  يستفز  مشاعر الشعب السودانى لأنه  تدخل  يستصغر  ذكاءه  الشعب  السودانى  الواعى  سياسيا  بصورة اكبر مما  يعرف  هؤلاء  المتطفلون على شئونه. ان اكبر خدمة  يقدمها  قادة السودان  الجدد  لشعبهم  هى ان  ينهوا هذه المسيرة الحالكة  من  حياة  شعبهم اليوم  وليس غد ا.

 

لقد اضافت زيارة  الوفد السودانى الكبير الى واشنطن فى الآونة احباطا جديد للجالية  السودانية الكبيرة  فى الولايات المتحدة وهى  جالية  تضم  نخبا رفيعة القدر ويؤرقها  بصورة خاصة ما  يحيط  ببلدها  من مخاطر التفتت  بسبب  ما تعرف  من حقائق بحكم وجودها فى العاصمة التى تحكم العالم  من وراء  ستار .

 

كنا  نأمل ان تكون زيارة الوفد  العرمرم هذه  هى الزيارة  الاخيرة الى  واشنطن .  وأن  يجلس الفرقاء  السودانيون  الى  بعضهم  البعض . ولكن  المتحدث  باسم الحركة  الشعبية افادنا فى تصريح  مطول ان  هذه  اللقاءات ستكون شهرية ! هل  هو  التلاشى القومى الاكيد؟ نأمل ان تكون  الاجابة  بلا .  وقديما  قال  الشاعرالعربى:

 

 ما  أضيق  العيش  لولا  فسحة  الأمل

 

ام  كاتب  هذه السطور فيردد قول الشاعر  العربى  الآخر :

 

 لا  خيل  عندك  تهديها  و لا مال

 فليسعد  النطق ان لم يسعد الحال                            

 

آراء