كانوا في شِتاءاتهم وكنّا في ربيعنا السوداني
جمال محمد ابراهيم
1 September, 2022
1 September, 2022
(1)
ليسَ على سبيل النوستالجيا أو التعلّق بأهدابِ رومانسية حالمة حول وقائع ثورة 21 أكتوبر/تشرين الأول عام 1964 في السّودان، التي شهد بعضُنا أحداثها، يدور هذا المقال. ليسَ حنيناً لأيامٍ ماضياتٍ عرفنا، نحن السودانيين، فيها كيف تلتمع بشاراتُ التغيير، ولا توقاً لأناشيد طربنا معها وملأتْ خياشيمنا بروائح الثورة، ودماء الشهداء النضّاحة بالمِسك، وبدخانٍ مُسيل للدموع، "الذي كحّل هاتيك المآقي". تلك أيامٌ خلدتْ بقصائدٍ جزلاتٍ لشعراءٍ عظام، وبغناءٍ زلزل وجدانَ شعبٍ وقفَ بصمودٍ أصيل وبكبرياءٍ مجيد، يُضمّد جراحه لتستقيم مسيرته، كتاباً جديداً على طريق الحرية والحياة الكريمة والاستقلال الحقيقي.
أحدّثك عَن ربيعٍ حقيقيٍّ كاملِ الدّسـمِ، اغتسلنا برذاذِ غيمِهِ واستنشقنا فوحَ أنسامه، في سنوات الستينيات، قبلَ أن يعرف الناسُ أحداثاً ماثلة عاشتها وتعيشها هذه الأيام، شعوبُ في المنطقة (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) غُلبت على أمرِ طغاتها، بما اعتُمِـدَ على وصفه بـ"الربيع العربي". كانت ثورة 21 أكتوبر ربيعاً سودانياً، من قبل أن تأخذ المواسم أسماءها. من قبل أن يكتشف الطغاة حيلاً يقتلون شعوبهم عبرها، وتبقيهم، هُم أو مَن يَستنسخون، على كراسي الحُكم لعقودٍ طويلة.
(2)
لنبدأ الحديث عَن لاءاتِ الخرطوم. هيَ لاءاتٌ أقرّتها القياداتُ العربية ملوكاً ورؤساءَ وأمراءَ وشيوخا، في قمّتهم الرابعة في 29 أغسطس/ آب من عام 1967 التي انعقدتْ في الخرطوم، على خلفية هزيمة البلدان العربية في يونيو/ حزيران 1967، تلزمهم الامتناع عن الصلح أو الاعتراف أو التفاوض، مع العدو الصهيوني. الجرح العربي الكبير قد اتسع فتقه بعد الهزيمة التي سمّوها "نكسة"، وتواصل نزف الدّم العربي، فيما قيادات بلدان الهزيمة من أولها إلى آخرها لم تعرف "عنقاء" السياسة التي عنوانها "الحرية"، ولا سمعت بـ"الخِلّ الوفي" الذي اسمه "الديمقراطية". ولعلّ السؤال الذي قد يتبادر إلى ذهنِ أيّ مراقبٍ محايد: لِـمَ كانت الخرطوم في نظر القادة المهزومين ذلكَ الخيارَ الأوحد لعقد القمة العربية التي ستنظر في تبعات الهزيمة؟
نيران الحرب الباردة التي اشتعلتْ بعدَ الحرب العالمية الثانية غطّى دخانها الخانق سموات الستينيات مِن أعوام القرن العشرين، وفي أجوائها تصارع الكبار حول موائد الصغار، وشـبّت التيارات العروبية والقومية في مواجهة التيارات التقليدية في الممالك والمشيخات والسلطنات القديمة. خرجتْ علينا تصنيفاتُ اليسار التقدّمي واليمين الرجعي، وما بينهما ضائع في اللون الرّمادي. وللتاريخ نقول إن كليهما ما عرف "العنقاء" ولا رافق "الخلّ الوفي"، ممّا وصفنا مجازاً أعلاه، في اصطناعٍ لغويٍ لِمَا قد يراهُ بعضُهم أقرب إلى أساطيرِ الأولين، إذ مفاهيم الحرية والديمقراطية، عند كثيرين من حُكّام شعوب المنطقة ورعاة الاستبداد الذين حملت أكتافهم مسؤولية الهزيمة التاريخية، هيَ محض أساطير وترّهات.
شهد السودانُ، إثر استقلاله، ابتداراً لديمقراطيةٍ نسبية، وفوحاً قليلاً من الحريات. ما أحسنتْ الأحزاب هضم تلك السانحة، وما تجاوز عمرها السنوات الثلاث، إذ سرعان ما تهافت مسـلكها السياسي، فأنشبتْ المؤسسة العسكرية، ترغيباً أو تحريضاً، أنيابها وأظافرها وأظلافها في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1958. انتهى الأمر بالسودان ليلحق بالأنظمة الشمولية التي نشأتْ في كنفِ أجواء الانقلابات العسكرية، في العراق وفي سورية، وتمدّدت في الشرق الأوسط، والممالك والسلطنات والمشيخات في الضفة الأخرى، ماثلةً قائمةً لا تتزحزح. انقلاب في سورية. انقلاب في العراق. انقلاب في اليمن الشمالي. كان التيار الغالب هو تيار القومية العربية، ومثّل جمال عبد الناصر رأس الحـربة فيه، وبدا أنه التيار الأقرب إلى اليسار، فيما الممالك والمشيخات والسلطنات متمترسة في جانب اليمين، تعضّ بالنواجذ على ثوابت "رجعيتها".
ذلك كان حال النّخب التي حقّقت الاستقلال في كثيرٍ من بلدان المنظومة العربية في الجزيرة العربية أو في الشمال الأفريقي، قياداتٌ تقليدية كأنّها خرجتْ مِن عَباءة الخلافة العثمانـيـة للتوّ، وأخرى جاءت على ظهور المدرّعات والمُجنزرات، وتمترست جميعها خلف قلاع راسخة من الأنظمة الشمولية.
كانوا عامِهين في مواسم شتاءاتهم الطويلة، فيما استشرف السّودان ربيعه الحقيقي عام 1964، ونعِمَ بحرياتٍ نسبية، وديمقراطية، لأسفِ الجميع لم تدُم نعمتها طويلا. بعد أقلِ من أعوامٍ ثلاثة، وثورة أكتوبر السودانية تجاهد أن تعطي مثلا في ديمقراطية جديدة وحرياتٍ غير مسبوقة في الإقليم، وقعتْ هزيمة العرب الكبرى في يونيو/ حزيران 1967. تلفتتْ القيادات العربية أينَ وكيفَ تجتمع للنظرِ في دروسِ الهزيمة. كلّ العواصم جريحة. كلّ العواصم تنفر مِن بعضها بعضا، والعدو يضحك على حدودهم ملء شدقيه، وأصابعه مُمسكة بغزة والجولان والضفة وسيناء. الرّبيع الوحيد الذي يمكن أن يَكتب لاءاتَ الرّفض، كان هو الرّبيع الخرطومي.. وهكذا كُتبَ للخرطوم قدرها، أن تكون عاصمة للاءات الثلاث.
(3)
انتفض الشعبُ السوداني في أكتوبر/ تشرين الأول 1964، فأسقط النظام العسكري في الخرطوم، فكانت انتفاضته استثناءً لافتا في أجواء الشمولية الجاثمة على صدر الشرق الأوسط، من أطراف إيران إلى السواحل المغربية. في بعض بلدان المنطقة كان الانقلاب يعقبه انقلاب، والجنرال يطيحه جنرال، والشموليات ترثها شموليات، وشموليات أخرى تستنسخ نفسها، نشدانا لخلود مستحيل، ولاستدامة متوهّمة. اقرأ كيف كتب محمد حسنين هيكل يصور الحال في الخرطوم في مقاله في صحيفة "الأهرام" في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 1964: "لقد حدث في السودان شيء يستوقف النظر: فجأة، وفي لحظة نفسية مواتية، استطاع الشارع السوداني بجماهيره أن يحقق وحدته، وفي نفس اللحظة بسبب صراع السلطة، كان الجيش السوداني بغير وحدة تواجه وحدة الشارع، وتقمعها، بمزيد من الإرهاب إذا اقتضى الأمر. ولقد تحققت وحدة الشارع السوداني تحت ضغوط نفسية قوية، وبغير قيادة تتولى التنظيم الدقيق، وكان حظها السعيد، أن ذلك حدث في ظروف انقسام السلطة المسلحة. ولم تستطع السلطة المسلحة - بانقسامها - أن تضرب. وتقدّم الشارع - مندفعاً - ليملأ الفراغ الذي أحدثه الشلل الذي أصاب السلطة العسكرية وقيّد حركتها، وأحدث التغيير الكبير الذي حدث فى السودان".
وبرغم ما أثاره مقال هيكل من غضب الشارع السوداني وقتذاك، لكنه كان قلما صادقا عبّر، في جانبٍ، عن حال الخرطوم، وما بقيَ له إلا أنْ يُسمي تلك الحال بأنها "ربيع سـوداني". كتب هيكل في ذلك التاريخ البعيد: "كان صراع السلطة داخل المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد أوقف المواجهة الحازمة التي طلبها رجلٌ كاللواء حسن بشير، من أنصار الانقضاض السريع. وفي مهلة التردّد، كان الشارع السودانى قد حقق وحدة تلقائية مذهلة في وجه مقاومة من الجيش، لم تستجمع بعد طاقتها الكاملة على القهر، وإن كانت في صدام واحد أمام القصر الجمهوري، قد صرعت أكثر من ثلاثين شهيداً .. أكثر من عدد الضحايا الذين قدّمهم السودان؛ ليحصل على الاستقلال! .. أي أن الشعب السوداني دفع من ضريبة الدم ليتخلص من الحكم العسكري بأكثر ما دفع من ضريبة الدم، ليتخلص من الإنكليز. ومع ذلك، فإن التردّد في المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن توجيه ضربة القهر الكاملة إلى الشارع السوداني قد حقن دماً غزيراً".
ومع ذلك، غابت عن الذاكرة العربية أول ثورة "ربيع عربي" وقعتْ في السّودان عام 1964، بل تجاهلتها أقلام كبر تأثيرها، رأت في دم محمد بوعزيزي في تونس، مع كثير التقدير، مرجعا أصيلاً ووحيداً للربيع العربي، عن جهالة أو اسـتجهال متعمّد. لكن قلم فهمي هويدي، فيما رصد عبد الله علي إبراهيم، كان "الذي شهد باكرا بأن ثورة أكتوبر 1964 هي الحالة الأولى التي أزاح فيها شعبٌ عربي أعزل ديكتاتورية متمكّنة وفرض على القوات المسلحة أن تقف إلى جانبه". كان فهمي هويدي الوحيد الذي رأى مرجعية للربيع العربي في ثورة 21 أكتوبر السودانية. كان الوحيد الذي رأى معنا بقعاً من دم القرشي أريقت عام 1964 في الخرطوم، تمازج دم البوعزيزي التونسي في 2011.
(4)
كانت أجواء الستينيات، وهي أجواء الحرب الباردة في مجملها، مشحونة بصراع تيار القومية مع القوى التقليدية في المنطقة. لا أزعم أني أقدم لك تحليلا، عزيزي القارئ، بل هي رؤوس موضوعات، ومحض مؤشّرات لملامح عامة لأحوال ستينيات القرن العشرين. وأعود بك إلى مقال هيكل، فإنه لم يكن يعبر تعبيراً واضحا بتأييدٍ أو قبولٍ لما وقع في السودان في أكتوبر من 1964. يكفي أنه ختم مقاله في "الأهرام" بالتساؤل الذي بدأ به المقال "وماذا بعد في السودان..؟"، وتلك عبارة حملتْ ما حملتْ من توجّسٍ ومن تشـكيك. لعلّ غضبة الشارع السوداني في هجومه على السفارة المصرية في الخرطوم ردّاً على ذلك المقال مثلت انفعالا متطرّفاً، ولكنها قطعاً لم تكن بلا مبرّرات.
ثم دعنا نمعن النظرَ في الذي وقع في الخرطوم في 1964، ونسأل: أكان له أثرٌ أو تأثيرٌ على أحوال الأنظمة المجاورة للسودان؟ إنْ كان انفعال مصر القريبة هو على النحو الذي عبّر عنه هيكل، فكيف بانفعال الأبعدين في التخـوم العربية، وبعضهم شغل نفسه واستغرقته صراعاتٌ لا جدوى من ورائها، وآخرون ما نالوا اسـتقلالهم بعد، يرزحون في محميّاتٍ يحكمها الأجنبي مباشراً أو عن بعد؟
ما كان للثورة السودانية في ستينيات القرن العشرين تلك من قدرات ليتجاوز تأثيرها التخوم المجاورة، ولا كانت للواقع الإقليمي والدّولي من معيناتٍ تساعد أو تمهّد لتغيير مماثل. لا أقمار صناعية ولا قنوات فضائية ولا إنترنت، ولا انتقال بلمحِ البصر يحمل المعلومة إلى الأصقاع البعيدة. كانت الأنظمة في الجوار العربي والأفريقي محصّنة لغياب التواصل الفاعل والفعّال، فلا هي تأبه، في انعزالها، لما يدور من فورانٍ في بطون الأنظمة من حولها، ولا هي تتأثر بوقائع فورانها، فتصحـو من سباتها التاريخي. لم تكن لجامعة الدول العربية اهتمامات بما يقع من تغيير داخلي في بلدان المنظومة العربية، كما لم يكن على مستوى القارّة الأفريقية من تأثيرٍ ومنظمة الوحدة وليدة تتحسّس حضورها في ساحات القارة بقلة حيلة وبقدمين طريتين. لم نرصد إلا ردّ فعلٍ وحيدا في مصر، عكستْ بعض أقلام صحافتها خشيةً وتوجساً ممّا وقع في الخرطوم في 21 أكتوبر عام 1964م.
(4)
كانت أجواء الستينيات، وهي أجواء الحرب الباردة في مجملها، مشحونة بصراع تيار القومية مع القوى التقليدية في المنطقة. لا أزعم أني أقدم لك تحليلا، عزيزي القارئ، بل هي رؤوس موضوعات، ومحض مؤشّرات لملامح عامة لأحوال ستينيات القرن العشرين. وأعود بك إلى مقال هيكل، فإنه لم يكن يعبر تعبيراً واضحا بتأييدٍ أو قبولٍ لما وقع في السودان في أكتوبر من 1964. يكفي أنه ختم مقاله في "الأهرام" بالتساؤل الذي بدأ به المقال "وماذا بعد في السودان..؟"، وتلك عبارة حملتْ ما حملتْ من توجّسٍ ومن تشـكيك. لعلّ غضبة الشارع السوداني في هجومه على السفارة المصرية في الخرطوم ردّاً على ذلك المقال مثلت انفعالا متطرّفاً، ولكنها قطعاً لم تكن بلا مبرّرات.
ثم دعنا نمعن النظرَ في الذي وقع في الخرطوم في 1964، ونسأل: أكان له أثرٌ أو تأثيرٌ على أحوال الأنظمة المجاورة للسودان؟ إنْ كان انفعال مصر القريبة هو على النحو الذي عبّر عنه هيكل، فكيف بانفعال الأبعدين في التخـوم العربية، وبعضهم شغل نفسه واستغرقته صراعاتٌ لا جدوى من ورائها، وآخرون ما نالوا اسـتقلالهم بعد، يرزحون في محميّاتٍ يحكمها الأجنبي مباشراً أو عن بعد؟
ما كان للثورة السودانية في ستينيات القرن العشرين تلك من قدرات ليتجاوز تأثيرها التخوم المجاورة، ولا كانت للواقع الإقليمي والدّولي من معيناتٍ تساعد أو تمهّد لتغيير مماثل. لا أقمار صناعية ولا قنوات فضائية ولا إنترنت، ولا انتقال بلمحِ البصر يحمل المعلومة إلى الأصقاع البعيدة. كانت الأنظمة في الجوار العربي والأفريقي محصّنة لغياب التواصل الفاعل والفعّال، فلا هي تأبه، في انعزالها، لما يدور من فورانٍ في بطون الأنظمة من حولها، ولا هي تتأثر بوقائع فورانها، فتصحـو من سباتها التاريخي. لم تكن لجامعة الدول العربية اهتمامات بما يقع من تغيير داخلي في بلدان المنظومة العربية، كما لم يكن على مستوى القارّة الأفريقية من تأثيرٍ ومنظمة الوحدة وليدة تتحسّس حضورها في ساحات القارة بقلة حيلة وبقدمين طريتين. لم نرصد إلا ردّ فعلٍ وحيدا في مصر، عكستْ بعض أقلام صحافتها خشيةً وتوجساً ممّا وقع في الخرطوم في 21 أكتوبر عام 1964م.
ليسَ على سبيل النوستالجيا أو التعلّق بأهدابِ رومانسية حالمة حول وقائع ثورة 21 أكتوبر/تشرين الأول عام 1964 في السّودان، التي شهد بعضُنا أحداثها، يدور هذا المقال. ليسَ حنيناً لأيامٍ ماضياتٍ عرفنا، نحن السودانيين، فيها كيف تلتمع بشاراتُ التغيير، ولا توقاً لأناشيد طربنا معها وملأتْ خياشيمنا بروائح الثورة، ودماء الشهداء النضّاحة بالمِسك، وبدخانٍ مُسيل للدموع، "الذي كحّل هاتيك المآقي". تلك أيامٌ خلدتْ بقصائدٍ جزلاتٍ لشعراءٍ عظام، وبغناءٍ زلزل وجدانَ شعبٍ وقفَ بصمودٍ أصيل وبكبرياءٍ مجيد، يُضمّد جراحه لتستقيم مسيرته، كتاباً جديداً على طريق الحرية والحياة الكريمة والاستقلال الحقيقي.
أحدّثك عَن ربيعٍ حقيقيٍّ كاملِ الدّسـمِ، اغتسلنا برذاذِ غيمِهِ واستنشقنا فوحَ أنسامه، في سنوات الستينيات، قبلَ أن يعرف الناسُ أحداثاً ماثلة عاشتها وتعيشها هذه الأيام، شعوبُ في المنطقة (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) غُلبت على أمرِ طغاتها، بما اعتُمِـدَ على وصفه بـ"الربيع العربي". كانت ثورة 21 أكتوبر ربيعاً سودانياً، من قبل أن تأخذ المواسم أسماءها. من قبل أن يكتشف الطغاة حيلاً يقتلون شعوبهم عبرها، وتبقيهم، هُم أو مَن يَستنسخون، على كراسي الحُكم لعقودٍ طويلة.
(2)
لنبدأ الحديث عَن لاءاتِ الخرطوم. هيَ لاءاتٌ أقرّتها القياداتُ العربية ملوكاً ورؤساءَ وأمراءَ وشيوخا، في قمّتهم الرابعة في 29 أغسطس/ آب من عام 1967 التي انعقدتْ في الخرطوم، على خلفية هزيمة البلدان العربية في يونيو/ حزيران 1967، تلزمهم الامتناع عن الصلح أو الاعتراف أو التفاوض، مع العدو الصهيوني. الجرح العربي الكبير قد اتسع فتقه بعد الهزيمة التي سمّوها "نكسة"، وتواصل نزف الدّم العربي، فيما قيادات بلدان الهزيمة من أولها إلى آخرها لم تعرف "عنقاء" السياسة التي عنوانها "الحرية"، ولا سمعت بـ"الخِلّ الوفي" الذي اسمه "الديمقراطية". ولعلّ السؤال الذي قد يتبادر إلى ذهنِ أيّ مراقبٍ محايد: لِـمَ كانت الخرطوم في نظر القادة المهزومين ذلكَ الخيارَ الأوحد لعقد القمة العربية التي ستنظر في تبعات الهزيمة؟
نيران الحرب الباردة التي اشتعلتْ بعدَ الحرب العالمية الثانية غطّى دخانها الخانق سموات الستينيات مِن أعوام القرن العشرين، وفي أجوائها تصارع الكبار حول موائد الصغار، وشـبّت التيارات العروبية والقومية في مواجهة التيارات التقليدية في الممالك والمشيخات والسلطنات القديمة. خرجتْ علينا تصنيفاتُ اليسار التقدّمي واليمين الرجعي، وما بينهما ضائع في اللون الرّمادي. وللتاريخ نقول إن كليهما ما عرف "العنقاء" ولا رافق "الخلّ الوفي"، ممّا وصفنا مجازاً أعلاه، في اصطناعٍ لغويٍ لِمَا قد يراهُ بعضُهم أقرب إلى أساطيرِ الأولين، إذ مفاهيم الحرية والديمقراطية، عند كثيرين من حُكّام شعوب المنطقة ورعاة الاستبداد الذين حملت أكتافهم مسؤولية الهزيمة التاريخية، هيَ محض أساطير وترّهات.
شهد السودانُ، إثر استقلاله، ابتداراً لديمقراطيةٍ نسبية، وفوحاً قليلاً من الحريات. ما أحسنتْ الأحزاب هضم تلك السانحة، وما تجاوز عمرها السنوات الثلاث، إذ سرعان ما تهافت مسـلكها السياسي، فأنشبتْ المؤسسة العسكرية، ترغيباً أو تحريضاً، أنيابها وأظافرها وأظلافها في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1958. انتهى الأمر بالسودان ليلحق بالأنظمة الشمولية التي نشأتْ في كنفِ أجواء الانقلابات العسكرية، في العراق وفي سورية، وتمدّدت في الشرق الأوسط، والممالك والسلطنات والمشيخات في الضفة الأخرى، ماثلةً قائمةً لا تتزحزح. انقلاب في سورية. انقلاب في العراق. انقلاب في اليمن الشمالي. كان التيار الغالب هو تيار القومية العربية، ومثّل جمال عبد الناصر رأس الحـربة فيه، وبدا أنه التيار الأقرب إلى اليسار، فيما الممالك والمشيخات والسلطنات متمترسة في جانب اليمين، تعضّ بالنواجذ على ثوابت "رجعيتها".
ذلك كان حال النّخب التي حقّقت الاستقلال في كثيرٍ من بلدان المنظومة العربية في الجزيرة العربية أو في الشمال الأفريقي، قياداتٌ تقليدية كأنّها خرجتْ مِن عَباءة الخلافة العثمانـيـة للتوّ، وأخرى جاءت على ظهور المدرّعات والمُجنزرات، وتمترست جميعها خلف قلاع راسخة من الأنظمة الشمولية.
كانوا عامِهين في مواسم شتاءاتهم الطويلة، فيما استشرف السّودان ربيعه الحقيقي عام 1964، ونعِمَ بحرياتٍ نسبية، وديمقراطية، لأسفِ الجميع لم تدُم نعمتها طويلا. بعد أقلِ من أعوامٍ ثلاثة، وثورة أكتوبر السودانية تجاهد أن تعطي مثلا في ديمقراطية جديدة وحرياتٍ غير مسبوقة في الإقليم، وقعتْ هزيمة العرب الكبرى في يونيو/ حزيران 1967. تلفتتْ القيادات العربية أينَ وكيفَ تجتمع للنظرِ في دروسِ الهزيمة. كلّ العواصم جريحة. كلّ العواصم تنفر مِن بعضها بعضا، والعدو يضحك على حدودهم ملء شدقيه، وأصابعه مُمسكة بغزة والجولان والضفة وسيناء. الرّبيع الوحيد الذي يمكن أن يَكتب لاءاتَ الرّفض، كان هو الرّبيع الخرطومي.. وهكذا كُتبَ للخرطوم قدرها، أن تكون عاصمة للاءات الثلاث.
(3)
انتفض الشعبُ السوداني في أكتوبر/ تشرين الأول 1964، فأسقط النظام العسكري في الخرطوم، فكانت انتفاضته استثناءً لافتا في أجواء الشمولية الجاثمة على صدر الشرق الأوسط، من أطراف إيران إلى السواحل المغربية. في بعض بلدان المنطقة كان الانقلاب يعقبه انقلاب، والجنرال يطيحه جنرال، والشموليات ترثها شموليات، وشموليات أخرى تستنسخ نفسها، نشدانا لخلود مستحيل، ولاستدامة متوهّمة. اقرأ كيف كتب محمد حسنين هيكل يصور الحال في الخرطوم في مقاله في صحيفة "الأهرام" في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 1964: "لقد حدث في السودان شيء يستوقف النظر: فجأة، وفي لحظة نفسية مواتية، استطاع الشارع السوداني بجماهيره أن يحقق وحدته، وفي نفس اللحظة بسبب صراع السلطة، كان الجيش السوداني بغير وحدة تواجه وحدة الشارع، وتقمعها، بمزيد من الإرهاب إذا اقتضى الأمر. ولقد تحققت وحدة الشارع السوداني تحت ضغوط نفسية قوية، وبغير قيادة تتولى التنظيم الدقيق، وكان حظها السعيد، أن ذلك حدث في ظروف انقسام السلطة المسلحة. ولم تستطع السلطة المسلحة - بانقسامها - أن تضرب. وتقدّم الشارع - مندفعاً - ليملأ الفراغ الذي أحدثه الشلل الذي أصاب السلطة العسكرية وقيّد حركتها، وأحدث التغيير الكبير الذي حدث فى السودان".
وبرغم ما أثاره مقال هيكل من غضب الشارع السوداني وقتذاك، لكنه كان قلما صادقا عبّر، في جانبٍ، عن حال الخرطوم، وما بقيَ له إلا أنْ يُسمي تلك الحال بأنها "ربيع سـوداني". كتب هيكل في ذلك التاريخ البعيد: "كان صراع السلطة داخل المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد أوقف المواجهة الحازمة التي طلبها رجلٌ كاللواء حسن بشير، من أنصار الانقضاض السريع. وفي مهلة التردّد، كان الشارع السودانى قد حقق وحدة تلقائية مذهلة في وجه مقاومة من الجيش، لم تستجمع بعد طاقتها الكاملة على القهر، وإن كانت في صدام واحد أمام القصر الجمهوري، قد صرعت أكثر من ثلاثين شهيداً .. أكثر من عدد الضحايا الذين قدّمهم السودان؛ ليحصل على الاستقلال! .. أي أن الشعب السوداني دفع من ضريبة الدم ليتخلص من الحكم العسكري بأكثر ما دفع من ضريبة الدم، ليتخلص من الإنكليز. ومع ذلك، فإن التردّد في المجلس الأعلى للقوات المسلحة عن توجيه ضربة القهر الكاملة إلى الشارع السوداني قد حقن دماً غزيراً".
ومع ذلك، غابت عن الذاكرة العربية أول ثورة "ربيع عربي" وقعتْ في السّودان عام 1964، بل تجاهلتها أقلام كبر تأثيرها، رأت في دم محمد بوعزيزي في تونس، مع كثير التقدير، مرجعا أصيلاً ووحيداً للربيع العربي، عن جهالة أو اسـتجهال متعمّد. لكن قلم فهمي هويدي، فيما رصد عبد الله علي إبراهيم، كان "الذي شهد باكرا بأن ثورة أكتوبر 1964 هي الحالة الأولى التي أزاح فيها شعبٌ عربي أعزل ديكتاتورية متمكّنة وفرض على القوات المسلحة أن تقف إلى جانبه". كان فهمي هويدي الوحيد الذي رأى مرجعية للربيع العربي في ثورة 21 أكتوبر السودانية. كان الوحيد الذي رأى معنا بقعاً من دم القرشي أريقت عام 1964 في الخرطوم، تمازج دم البوعزيزي التونسي في 2011.
(4)
كانت أجواء الستينيات، وهي أجواء الحرب الباردة في مجملها، مشحونة بصراع تيار القومية مع القوى التقليدية في المنطقة. لا أزعم أني أقدم لك تحليلا، عزيزي القارئ، بل هي رؤوس موضوعات، ومحض مؤشّرات لملامح عامة لأحوال ستينيات القرن العشرين. وأعود بك إلى مقال هيكل، فإنه لم يكن يعبر تعبيراً واضحا بتأييدٍ أو قبولٍ لما وقع في السودان في أكتوبر من 1964. يكفي أنه ختم مقاله في "الأهرام" بالتساؤل الذي بدأ به المقال "وماذا بعد في السودان..؟"، وتلك عبارة حملتْ ما حملتْ من توجّسٍ ومن تشـكيك. لعلّ غضبة الشارع السوداني في هجومه على السفارة المصرية في الخرطوم ردّاً على ذلك المقال مثلت انفعالا متطرّفاً، ولكنها قطعاً لم تكن بلا مبرّرات.
ثم دعنا نمعن النظرَ في الذي وقع في الخرطوم في 1964، ونسأل: أكان له أثرٌ أو تأثيرٌ على أحوال الأنظمة المجاورة للسودان؟ إنْ كان انفعال مصر القريبة هو على النحو الذي عبّر عنه هيكل، فكيف بانفعال الأبعدين في التخـوم العربية، وبعضهم شغل نفسه واستغرقته صراعاتٌ لا جدوى من ورائها، وآخرون ما نالوا اسـتقلالهم بعد، يرزحون في محميّاتٍ يحكمها الأجنبي مباشراً أو عن بعد؟
ما كان للثورة السودانية في ستينيات القرن العشرين تلك من قدرات ليتجاوز تأثيرها التخوم المجاورة، ولا كانت للواقع الإقليمي والدّولي من معيناتٍ تساعد أو تمهّد لتغيير مماثل. لا أقمار صناعية ولا قنوات فضائية ولا إنترنت، ولا انتقال بلمحِ البصر يحمل المعلومة إلى الأصقاع البعيدة. كانت الأنظمة في الجوار العربي والأفريقي محصّنة لغياب التواصل الفاعل والفعّال، فلا هي تأبه، في انعزالها، لما يدور من فورانٍ في بطون الأنظمة من حولها، ولا هي تتأثر بوقائع فورانها، فتصحـو من سباتها التاريخي. لم تكن لجامعة الدول العربية اهتمامات بما يقع من تغيير داخلي في بلدان المنظومة العربية، كما لم يكن على مستوى القارّة الأفريقية من تأثيرٍ ومنظمة الوحدة وليدة تتحسّس حضورها في ساحات القارة بقلة حيلة وبقدمين طريتين. لم نرصد إلا ردّ فعلٍ وحيدا في مصر، عكستْ بعض أقلام صحافتها خشيةً وتوجساً ممّا وقع في الخرطوم في 21 أكتوبر عام 1964م.
(4)
كانت أجواء الستينيات، وهي أجواء الحرب الباردة في مجملها، مشحونة بصراع تيار القومية مع القوى التقليدية في المنطقة. لا أزعم أني أقدم لك تحليلا، عزيزي القارئ، بل هي رؤوس موضوعات، ومحض مؤشّرات لملامح عامة لأحوال ستينيات القرن العشرين. وأعود بك إلى مقال هيكل، فإنه لم يكن يعبر تعبيراً واضحا بتأييدٍ أو قبولٍ لما وقع في السودان في أكتوبر من 1964. يكفي أنه ختم مقاله في "الأهرام" بالتساؤل الذي بدأ به المقال "وماذا بعد في السودان..؟"، وتلك عبارة حملتْ ما حملتْ من توجّسٍ ومن تشـكيك. لعلّ غضبة الشارع السوداني في هجومه على السفارة المصرية في الخرطوم ردّاً على ذلك المقال مثلت انفعالا متطرّفاً، ولكنها قطعاً لم تكن بلا مبرّرات.
ثم دعنا نمعن النظرَ في الذي وقع في الخرطوم في 1964، ونسأل: أكان له أثرٌ أو تأثيرٌ على أحوال الأنظمة المجاورة للسودان؟ إنْ كان انفعال مصر القريبة هو على النحو الذي عبّر عنه هيكل، فكيف بانفعال الأبعدين في التخـوم العربية، وبعضهم شغل نفسه واستغرقته صراعاتٌ لا جدوى من ورائها، وآخرون ما نالوا اسـتقلالهم بعد، يرزحون في محميّاتٍ يحكمها الأجنبي مباشراً أو عن بعد؟
ما كان للثورة السودانية في ستينيات القرن العشرين تلك من قدرات ليتجاوز تأثيرها التخوم المجاورة، ولا كانت للواقع الإقليمي والدّولي من معيناتٍ تساعد أو تمهّد لتغيير مماثل. لا أقمار صناعية ولا قنوات فضائية ولا إنترنت، ولا انتقال بلمحِ البصر يحمل المعلومة إلى الأصقاع البعيدة. كانت الأنظمة في الجوار العربي والأفريقي محصّنة لغياب التواصل الفاعل والفعّال، فلا هي تأبه، في انعزالها، لما يدور من فورانٍ في بطون الأنظمة من حولها، ولا هي تتأثر بوقائع فورانها، فتصحـو من سباتها التاريخي. لم تكن لجامعة الدول العربية اهتمامات بما يقع من تغيير داخلي في بلدان المنظومة العربية، كما لم يكن على مستوى القارّة الأفريقية من تأثيرٍ ومنظمة الوحدة وليدة تتحسّس حضورها في ساحات القارة بقلة حيلة وبقدمين طريتين. لم نرصد إلا ردّ فعلٍ وحيدا في مصر، عكستْ بعض أقلام صحافتها خشيةً وتوجساً ممّا وقع في الخرطوم في 21 أكتوبر عام 1964م.