كان الضرب بالسياط عقوبة الشباب الثائر في محاكم الإنقاذ

 


 

 

أنا من رأي السيد وجدي صالح، عضو لجنة إزالة تمكين نظام الثلاثين من يونيو ١٩٨٩، الذي قال إن قرار المحكمة العليا بإرجاع القضاة الذين فصلتهم لجنته "انقلاب بالروب".
لم يتعود منا القضاء مثل هذا التعليق على أدائه. واستعيد هنا حكاية سمعتها من الدكتور الترابي في لقاء لي معه عن ملابسات عبارته في الندوة الشهيرة قبيل ثورة أكتوبر: "مشكلة الجنوب لن تحل بغير الديمقراطية". قال إنه عاش قبلها في فرنسا لسنوات خمس أو نحوها وتعود على طلاقة اللسان الفرنسي المعزز بالديمقراطية. وأضاف لربما لم يكن هناك من يقلها غيري ممن دبغتهم سنوات الحكم العسكري الست.
وعشت أنا عقوداً في أمريكا التي نقد المحاكم فيها فريضة في التعديل الأول من دستورهم. وجئت فقط من قليل من مشاهدة برنامج راشيل ميدو، الإعلامية الغراء بالسي بي إن سي بي، وصفت بتلويحة من يدها المحكمة العليا ب"المحافظة" بالنظر لرفضها وقف تنفيذ قانون ولاية تكساس الذي منع النساء من الإجهاض. وهو الحق الذي شرّعته القضية المشهورة رو ضد ويد ( ١٩٧٣).
ولم أتأخر عن نقد القضاء في ما سبق. فقدمت لكتاب "مقاربات قانونية" للمرحوم نجم الدين محمد نصر الدين عن طأطأة للقضاء حيال سخائم دولة الإنقاذ. فانتقد قانون الإجراءات الجنائية لعام ١٩٩١ الذي جعل البلاغ والتحري بيد النيابات بدلاً عن القاضي كما في التقليد الإنجليزي الذي درجنا عليه. والنيابة مباءة. فهي جزء من الجهاز التنفيذي تصلح به، وتسوء به خلافاً للقضاء المصون بالاستقلال كفرع مستقل من فروع الدولة: تنفيذي وتشريعي وقضائي. ويُنذر إحالة التحري وأعرافه للنيابة بنذر السوء لمجرى العدالة في مثل الأوضاع المعلومة عن نظمنا التنفيذية القابضة.
كما انتقد الكتاب نشوء المحكمة الدستورية باستقلال عن المحكمة العليا التي كانت الدستورية دائرة واحدة من دوائرها. فترتب على هذا أن صارت الدستورية رقيباً على أداء المحاكم وليس درجة من درجاتها. وأصبح لها بذلك حق مراجعة الإجراءات في طور متقدم من أطوار التقاضي. وفي هذا تأخير للعدالة لأنه ينقض المادة 76 من قانون الإجراءات المدنية التي أمنت أطوار التقاضي من التعقيب حولها متى اكتملت الضمانة للسير الحسن الحثيث للعدالة. وأصبحت هذه السلطة القضائية الرقيبة، أي المحكمة الدستورية، مقصودة من قبل المتمحكين من خاسري الأحكام ممن يتهددون خصومهم باللجوء للدستورية التي ربما بدأت المحكمة من أول وجديد. وهذا تكريه في طلب العدل عن طريق المحاكم لشبهة الدائرية فيه.
ولم أتأخر في ممارستي السياسية من نقد القضائية. فاحتججت على المحكمة الدستورية لما منعني الأمن من عقد ندوتي التي رتبتها لإعلان ترشيحي لرئاسة الجمهورية في ٢٠٠٩. فقلت في مؤتمر صحفي عقدته للغرض "هذا وقت للقضائية ونحن نساري النجم في الظلم". وطلبت منها أن "تخرج من هذا الصمت الذي لا يتناسب وجلال الموقف الذي تتغول فيه السلطة التنفيذية على حقوق المواطنين الدستورية . . . إن على المحكمة الدستورية أن تقيل عثرتها التي وقعت فيها حين صادقت على الرقابة القبلية للصحف بينما لم تصبر حتى الحكومة على شينها فأزالت تلك الرقابة بعد حكم المحكمة بأيام .
وجاء يوم كتبت رسالة لرئيس القضاء وقد أزعجتني أحكام بالجلد بالسوط على شباب مظاهرات سبتمبر٢٠١٣. وضرب السوط في مثابة العقوبة، الذي لم يكن تقليداً في جيلنا السياسي، تحقير لا يستحقه مثل من خرج طلباً للحرية والعدل. وصدف أن صدرت في نفس الوقت أحكام بحق شباب بينهم ابن وال على ولاية في الغرب بالسجن والغرامة بعد ثبوت تهم الدعارة وتزوير الأوراق الرسمية. وكان الحكم "ضرب حبيب" مع أن التجويد بالسياط لازمة في المواد ٧٨-١٥٣-١٠٣-١٤٤-١٤٣ من القانون الجنائي التي حوكموا بمقتضاها. وختمت رسالتي إلى مولانا:
أنا سياسي ولا أحب الخزي لمن بدأ في ممارستها يافعاً عشماً في وطن أفضل. كان رأيي دائماً أن الله حبانا بصبيان مشغولين بالوطن لم نحتج لدروس عصر في التربية الوطنية لشحذ حسهم ببلدهم كما تفعل نظم أخرى. لقد دفع هؤلاء الصبيان إلى الشارع الشديد القوي كما نعرف كلنا وليس للنظام القضائي، لو عدل، مشكلة معهم لأنهم يرفعون للقسط رايات. بينما تكاد القضائية تدير وجهها للجهة الأخرى من فعائل أبناء الأكرمين يأتون إلى ساحتها رازحين تحت مواد ثقيلة توجب الضرب على الصلب. أو تتراخى عنهم الشرطة وهم "يفحطون" على عينك يا مرور في الشوارع المزدحمة. ولا تجد الشرطة غير التهديد بعد التهديد بسحب الرخصة، أو حجز السيارة. ولا أحمل، ولا أتحامل، عليهم فأكثر جرائمهم المعروضة مما لا تسنتكره ليبراليتي. ولكن الصمت على الظلم حار حين لا يقف الناس أمام القضاء أحراراً لم يستعبدهم أحد.
أرجو يا مولانا على ضوء هذه الحيثيات أن توجه القضاء بمنع ضرب المتظاهر بالسياط بتاتا. ما صاح.
مع عظيم تقديري وثقتي في رجاحتكم وقسطكم.
ونواصل

 

آراء