كبور البجا ومعركة كرري
جعفر بامكار
28 September, 2011
28 September, 2011
Email: Jbamkar &yayoo.com
الكبور في الثقافة البجاوي هو المناحة.. الكبرى عند موت أحد العظماء الافذاذ الذين تجمع قبائل البجا على عظمتهم وهذا الكبور لا يضرب أو يعمل إلا مرتين أو ثلاثة خلال القرن لندرة هذا النوع من الرجال أو النساء وأنا في حياتي لم أشاهد الكبور الا مرتين مرة عند وفاة الشريفة مريم الميرغنية ومرة عند وفاة ناظر الهدندوة الكبير بالقرن الماضي .. والكبور بمعناه الحرفي يعني الطبل الكبير أو صوت الطبل .. وقد يكون عباررة عن قرعة كبيرة توضع على صفحة الماء فى وعاء كبير ويتم الضرب عليها فتصدر صوتاً عجيباً له إيقاع خاص.
في هذه المناسبة مناسبة الكبور تلبس النساء البجاويات ملابس الرجال ويحملن السلاح ويضعن على رؤوسهن البلهاش وهو قطعة من البرش القديم مع الرماد ويقمن بعرض على ايقاع الكبور مع كلمات شعر المناحة. كذلك تقوم النساء بعمل مسيرات بالاسواق والاماكن العامة ودور الحكومة مع المناحة والبكاء الشديد والعويل. الكبور عادة بجاوية قديمة نادرة الحدوث وقد تكون سابقة لاسلام البجا ولكنها عادة معروفة وقد تندثر قريباً كغيرها من العادات القديمة شبه الوثنية.
مناسبة ذكر هذه العادة البجاوية القديمة هو أبيات شعر رباعي قاله الشاعر الكبير الشكري عبدالله أبو سن أخ الشاعر الكبير الحردلو بعد معركة كرري في نهاية القرن التاسع عشر. والرباعية وردت في مسدار المطيرق ولكني سوف أخذ هذه الرباعية خارج صياغ المسدار ومناسبته وأفسرها بالشكل الذي فهمته
به .. فشعر الحردلو وأخيه عبدالله أبو سن تغلب عليه الرمزية الشديدة وقد يعني أحياناً اشياء غير التي تتبادر لذهن القارئ من أول مرة والرباعية تقول
الكبور ضرب واتجمع البيشان
وجن بنات رفاعة ولبسن النيشان
حين جات الرضية وعبت الدشمان
زي هنتر نهار يوم صابح أمدرمان
الكلمة المفتاحية في هذه الرباعية هى كلمة "كبور" وهي المناحة الكبرى التى مابعدها مناحة عند البجا.. والشاعر عبدالله أبوسن يعرف تماماً معناها ويقصده .. فالشكرية جيران البجا وةأكثر الناس معرفة بهم وبثقافتهم وطقوسهم وعاداتهم وتقاليدهم .. وهو يعلم أن البجا لايستعملون هذه الكلمة إلا ويقصدون بها المناحة الكبرى ولايمكن أن يستعملوها لاي مناسبة أخرى خصوصاً فى مناسبة كمناسبة فرح كما توحى الكلمات عند القراءة الاولى. ان كان الشاعر عبد الله أبو سن باستعماله لكلمة "كبور" قاصداً معناها في الثقافة البجاوية فما هي مناسبة المناحة الكبرى غير معركة أو مجزرة كرري التي استشهد وجرح فيها الآلاف من السودانيين.
كلمة بجاوية أخرى استعملها الشاعر عبدالله أبوسن وهي كلمة بوش ومعناها المحفل الكبير الذي يجتمع فيه الالاف من البشر وجمعها بيشان وهل هناك بوش أو محفل اكبر من الناس الذين تجمعوا صباح ذلك اليوم الحزين في كرري. ويؤكد ماذهبنا إليه ماجاء في البيت الأخير من الرباعية حينما يقول
زي هنتر نهار يوم صابح أم درمان
في البيت الثاني يذكر بنات رفاعة ولكنه ويا للغرابة يصفهن بانهن لبسن النيشان وهى رمزية بالغة وكلنا نعلم ماذا يعني النيشان وماذا يعني لبسه. ثم أكثر من ذلك يذكر في البيت الثالث أن الرضية عبت الدشمان وهي رمزية بالغة أيضاً فأي رضيه هذه التى عبت الدشمان وهو القتال.
ان الشاعر عبدالله أبو سن كان يريد أن يقول شيئاً في نفسه بخصوص معركة كرري ولكن نفسه الأبية السمحة الكريمة لم تطاوعه رغم المرارت والجور والمظالم والجبروت الذي عانت منه أسرته وقبيلته وأهله في الأنفس والاموال أثناء المهدية وحكم الخليفة عبد الله التعايشي .. فالقتلى فى معركة كرري سودانيون ومهما بلغت الخلافات معهم لايمكن السعادة والشماته في موتهم ولذلك لجأ الشاعر للشعر الموغل في الرمزية ولم يفصح وهو الكريم بن الكريم الفصيح البليغ.
في البيت الأخير الذي يقول فيه
زى هنتر نهار يوم صابح أم درمان
ذكر الضابط البريطاني هنتر رغم وجود ضباط بريطانيين آخريين .. لعله اختار اسم هنتر لتشابهه باسم الفارس العربي المشهور عنتر والذي كان يصابح مضارب القبائل العربية للقتال .. وفي هذا الأمر أيضاً معنى ورمزية ... كذلك معظم الشعراء السودانيين صمتوا ولم يقولوا شيئاً إزاء الكارثة الكبرى التي حاقت بالخليفة وأنصاره في معركة كرري ومن قال شيئاً ولو بسيطاً جوبه بالصد والاستنكار من الرأي العام وكان الجميع في حالة صدمة وندم حكاماً ومحكومين وظالمين ومظلومين .. لقد حاق عار الأبد بالجميع.
رباعية عبد الله أبو سن الرمزية عجيبة وتستحق التأمل فهي تدل على عبقريته الشعرية وذكائه ودهائه ولنأخذ قافية الأبيات الأربعة وهي كالتالي :
بيشان – نيشان –دشمان – أم درمان
وحجر الزاوية في هذه القافية هي كلمة أم درمان.
ثم شيء آخر فلتحذف كلمات بنات رفاعة والرضية التي وردت في الأبيات على سبيل التمويه فماذا يتبقى لنا من معنى الأبيات؟ مع بعض التصرف البسيط. والمعنى يبدو هكذا:-
تجمعوا البيشان ولبسوا النيشان وعبوا الدشمان
وصابحوا أم درمان والكبور ضرب
الشاعر عندما يقول الكبور ضرب كأنه يتكلم اللغة البجاوية.. فالبجا يقدمون الفاعل أو نائب الفاعل على الفعل عكس مايحدث في اللغة العربية.
إن في معركة كرري أو مجزرة كرري درس بليغ فبعض السودانيين قد ظلموا وأساءوا وقمعوا واضطهدوا بعض السودانيين الآخرين مما دفع هؤلاء للارتماء في أحضان الاجنبي الغازي. لقد كان عدد كبير من جنود الجنرال كيتشنر من السودانيين الحاقدين والناقمين على حكم المهدية وكذلك استخبارات كيتشنر وطابوره الخامس من السودانيين –هؤلاء السودانيين الناقمين على اخوتهم الظالمين هم من أباد الجرحى في ميدان المعركة وهم من استباح ام درمان لثلاث أيام وهم من قاموا بنهبها وهتك أعراض نسائها وقتل العزل المستسلمين.
الجنود البريطانيون لم يفعلوا ذلك. علينا أن نستخلص العبر والدروس من تلك الايام الحزينة الكاحلة السواد في التاريخ السوداني. يجب ألايدفع السودانيون مرة أخرى للجوء والاستعانة والاستقواء بالأجنبي بسبب الإساءات والفساد والاستفزاز والاستعلاء والمظالم والقمع والاضطهاد والاقصاء .. وعلى أولئك الذين يفكرون في الاستقواء بالاجنبي على اخوتهم الظالمين أن يعيدوا حساباتهم فالصبر على ظلم ذوي القربى وإن طغوا وتجبروا أفضل وأكرم من ذل الخضوع للأجنبي ولنا عبرة بما حدث ويحدث بالعراق وغيره والتاريخ يسجل ولايرحم والندم لايجدى.
هنالك نقطة مضيئة في ظلام يوم كرري الحزين هي قصة أهلنا البجا المشاركين في تلك المعركة بقيادة أميرهم عثمان دقنة. الامير عثمان دقنة كان يعلم أن المعركة خاسرة منذ البداية ونصح الخليفة عبدالله التعايشي بالانسجاب من أم درمان وجر الجيش الغازي لصحاري السودان بعيداً عن البواخر الحربية بالنيل وذلك بحكم خبرته الطويلة بالحرب مع البريطانيين بالشرق ولكن الخليفة رفض ذلك الأمر وأصر على الموةاجهة .. فطلب عثمان دقنة من البجا وأسرهم ألا يسكنوا في أم درمان بل يبعسكروا في الخلاء بعيداً عن أم درمان لأنه كان يتوقع أن تستباح المدينة. في يوم المعركة قرر الأمير عثمان دقنة أن يكمن رجاله في خور شمبات وليس في كرري عندما وصل دقنة لخور شمبات قال له رجاله البجا " يأمير هذا المكان بعيد من موقع المعركة والناس قد ذهبوا إلي هناك" فقال الامير دقنة "إن كنتم تريدون أن تقاتلوا البريطانيين فأكمنوا في هذا المكان فإنهم سوف يأتون إليكم" وبالفعل انتهت المعركة في أقل من ساعة واستشهد وجرح أكثر من 16000 سوداني .. وعندما رأى الخيالة البريطانيون تباشير الانتصار وانهزام السودانيين تدافعوا على خيولهم في اتجاه أم درمان فوقعوا في كمين البجا وذبح ذبح الخراف أكثر من ثمانين ضابط بريطاني وكان في ذلك اليوم للشوتال مجده. هؤلاء الضباط المذبوحون في خور شمبات هم الوحيدون الذين قتلوا من جيش الغزاة.
بعد عشرين عاماً من معركة كرري فى عام 1920 أصبح تشرشل وهو واحد من الناجين بأعجوبة من كمين البجا أصبح وزيراً لدفاع الإمبراطورية البريطانية سال صديقه بيبي ادميرال البحرية البريطانية آنذاك وكان أثناء معركة كرري قائداً لباخرة حربية على النيل . سأل تشرشل صديقه بيبي "يابيبي أنت كنت على باخرة على النيل وكنت ترانا عندما سقطنا في كمين البجا كيف كان منظرنا ؟" فقال له بيبي : "كنتم مثل حبة الأرز في زيت يغلي".