كرري وأحاديثها! … بقلم: رباح الصادق
بسم الله الرحمن الرحيم
مر علينا تاريخ 2 سبتمبر قبل أيام، مذكرا إيانا بالجمعة 2 سبتمبر 1898م، يوم كرري الذي قال عنه شاعرنا: كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية، وكان تقرير صحفي في العام الماضي يتحدث عن أداء محلية كرري بعنوان "كرري تحدّث عن فساد". ونحب اليوم أن نتداول حول أحاديث كرري "كتابة التاريخ" لا كرري "مسيرة التلطيخ"!
سبحان الله! السودانيون أو قل أغلبهم سموا واقعة كرري بالكسرة، إذ بعدها انهارت الدولة، وقتل آلاف الشهداء، وانسحب خليفة الصديق مع فلول الأنصار غربا قاطعا خور أبو عنجة مارا بأبو ركبة ثم شركيلا حيث أرسلت له جردة يقودها كتشنر الصغير (ابن عم السردار) ارتدت بدون قتال، ثم توجه حتى جبال تقلي وظل هناك عاما وشهرين حتى كر راجعا بعد أن آيس من نصرة فلاقاه جيش ونجيت باشا في أم دبيكرات حين فرش فروته مستقبلا القبلة. أحداث وصفتها القصيدة التي تخاطب خليفة الصديق:
من بعد الكسرة
ما طغت الحسرة
ما خبت الفكرة
جمّعت صفوفك.. قاصد للكرة
..
يا سيد أمباية ونحاسك نقار
حللت البيعة للداير يختار
وصمدت ومن حولك كل الأخيار
في الفروة انتظارك لي موت بي ثمار
للقبلة موجه.. للجنة اختيار
لقى خليفة الصديق الله في نهاية تراجيدية للحلم السوداني الوليد، أو قل ولادة له جديدة لأنه قال لتذهب الدولة وتبقى الدعوة، وهي الكلمة التي كانت أخت تلك التي قالها ودموع الحسرة تملأ عينيه حين رأى قبة المهدي وقد ضربتها المدافع: القبة بنيناها من طين، وبنعيد بناها من طين! كلمات تؤكد أن مباني المادة لا تعني شيئا وأن النصر والهزيمة للروح لا الهيكل المادي! كرري هي المثال الأبرز. لقد كانت كسرة مادية كبيرة، حطمت هيكل الدولة تحطيما، ومزقته شر ممزق، والغازي البريطاني أخذه فيها زهو النصر حتى صار يمسرح المعركة سنويا حيث يدعو زعماء البلاد لحضور المسرحية في ذات موقع المعركة في الثاني من سبتمبر كل عام، ويصر على حضور جميع زعماء البلاد لينظروا كيف تناثروا أمام بريطانيا! والناس غصت حلوقهم بالمرارة، ويرى شاعرنا الضخم المرحوم محمد المهدي المجذوب أن غرق السودانيين في المدائح النبوية بهذا الشكل كان بسبب من كسرة كرري أو حسرتها.. وبكا أنصار الله ولا زالوا مع ود سعد الذي كان محتجبا في منزله بسبب داء الرمد وحينما خرج بعد "الكسرة" وجد "الكبة" فصاغ رائعته "السادة الخيرة.. فاتوني وبقيت في حيرة".. قال:
يا أهل الجمعة الخاتين اللمعة
لي فيكم طمعة قشّولي الدمعة!
دوب لي البندورهم دوب لي البنشورهم
دوب لي البنزورهم وسماع منشورهم!
دوب لي راتبهم وترتيل حزبهم
دوب لي صاحبهم الما بكذبكهم!
يا أهل الجبّة جلا شوفو الكِبّة
إسلامنا إرّبا حَب دينا انسبّ
يا سبحان الله! هذه الكسرة العظيمة، و"الكبة" المادية أسفرت عن ذلك النصر المعنوي البالغ الذي صار مع الأيام قرينا في ذهنية الكثيرين للنصر المادي نفسه! بدأت المسألة في التحول منذ جيل شعراء الحقيبة، فأنت ترى فيها: كيف لا أروي شعري ورائع الدرر في الشهداء الكرام أبطال جبل كرري. وقبل ذلك قال السير ونستون تشرشل الذي كان يرافق الجيش البريطاني الغازي كمراسل صحفي في كتابه "حرب النهر": قامت آلات الحرب العلمية الرهيبة بعملها، فتناثرت جموع الدراويش وتحطموا. ولكن نهايتهم لا تتوقع إلا لمنتصر! لقد فرّق تشرشل بين التحطيم المادي بقوة آلة الحرب وتكنلوجيا المكسيم، وبين النصر المعنوي الذي مثلته كرري!
ولهذا أنت ترى أن الصورة تغيرت مع الزمان، وبعد أن مرّ وقع التحطيم المادي المباشر، فالأجيال التي تلت صارت تذكر كرري كتاريخ انتصار "مادي". وذلك ما قاله الدكتور عبد الواحد عبد الله لاحقا، وهو شاعر معاصر لم يعش الكسرة ولا أدرك جيلها، قال في قصيدته المغناة:
كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية
خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية
والنهر يطفح بالضحايا بالدماء القانـــــية
ما لان فرسان لنا بل فرّ جمع الطاغيــــة!
لقد صارت كرري بقدرة النصر المعنوي وبرغم "الكبة" المادية تاريخ انتصار! وعلى ذكر الدكتور عبد الواحد عبد الله، فإننا لا ننسى أن نشير وسط أحاديث كرري لكتاب ترجمه الدكتور عبد الواحد مؤخرا بعنوان "سيف النبي: مهدي السودان" لكاتبه الباحث والمؤلف البريطاني فيرغس نيكول. ونيكول كان قد زار السودان مؤخرا في منتصف يوليو الماضي لجمع المعلومات الوثائقية إكمالا لبحث الدكتوراة حول ببلوغرافيا كتابات المهدية، ثم رجع بخفي حنين بعد أن فشلت كل محاولاته الرسمية وعبر أجاويد ليلج دار الوثائق القومية، قال نيكول إنه اطلع على كل ما بدور الوثائق الغربية في درام وبيرجن وغيرها، أما دار الوثائق المصرية فالبيروقراطية هناك تحول دونها، وأما الوثائق السودانية فقد كان الوضع في الماضي يتميز بيسر الحصول على الوثيقة في عهد المرحوم محمد إبراهيم أبو سليم وعهد خلفه الدكتور علي صالح كرار، ولكنه أبدى استغرابه من هذا النظام الجديد الذي يجعل التعامل مع الباحثين الأجانب بهذا الشكل المفتقر للتعاون. عاد نيكول على أن يحاول العودة مرة أخرى لاحقا، عسى ولعل يحال بينه وبين الوثائق التي يطلب.. وأنت تتعجب من هذا التمنع في إدخال باحثين أمثال السيد فيرغس نيكول الذي قضى جزءا من حياته ينقب في تاريخ المهدية، وله علاقة ممتدة بالسودان منذ ثمانينات القرن العشرين زاره مرات كصحفي ثم كباحث في التاريخ. وترى في كتابه المذكور خلطة غريبة بين الحس القومي البريطاني الذي يغلب حينا، وبين التعاطف الكامن مع الشعب السوداني ومع الشخص الذي اعتبره "إنسان متفرد. رجل يمكن وصفه دون مبالغة بأنه أب السودان الحديث" ويشير للكلمات التي تصف السودانيين حينها أو قل الأنصار بالأهالي والتوحش بأنها "صيغ مبتذلة" ويفسر لماذا يكتب تاريخا للمهدي وليس غردون، إذ "بينما حظي غردون باهتمام من لا يقل عددهم عن أربعين من كتاب السير والتراجم وبينما حظيت بطولات الجيش البريطاني في السودان بما لا يقل عن هذا العدد من مجلدات كتبها رجال الجيش والمخابرات بقي القادة السودانيون أقل حضورا على مسرح تاريخهم المكتوب" (ص 31).
كتاب فيرغس الذي ذكرناه فيه خلطة غريبة بين رصد التاريخ وصور الحاضر سببها تلك الخلطة في شخصية الكاتب كصحفي وكمؤرخ.. يورد وهو يشير لمعركة كرري الفاصلة بالنسبة للتاريخ المهدوي زيارة حديثة لمكان الموقعة في جبال كرري. يقول: "عند الاقتراب من مكان المعركة حيث تلوح في الأفق وسط ضباب الهجير تلال كرري المهجورة يظهر مجمع عسكري ضخم على الجانب الأيسر محاطا بأسلاك شائكة".."على جبل سركاب حيث تجمعت القوات ذات الراية الزرقاء في يوم الموت ذاك، يجلس رادار سوفيتي على الجانب الغربي. وعلى بعد ميل تقريبا يقف النصب التذكاري الرسمي الوحيد لمن ماتوا في كرري وهو عبارة عن حجر بسيط في شكل مسلة يقف على قاعدة قوية ومكتوب عليه: في ذكرى الضباط وضباط الصف والجنوب من حملة الرماح- الفرقة الحادية والعشرين الذين سقطوا هنا في الثاني من سبتمبر 1898م. ومن الغريب أن ما كتب على النصب التذكاري تصعب مطالعته لأنه محاط بسياجين من الفولاذ المطلي باللون الأخضر".. "يتضح أن هذين السياجين أقيما لحماية النصب التذكاري من الجمهور. ولكن الفراغ المحيط بالنصب التذكاري داخل هذين السياجين مغطى بالحجارة التي ألقى بها السودانيون الغاضبون إذ أن موتاهم من جراء هذه المعركة قد أصبحوا في عالم النسيان. إلا أن هذا النصب يبقى تذكارا دائما لانتصار بريطانيا في ذلك اليوم، قبل قرن من الزمان، حتى الفراغ حول التمثال داخل السياج الداخلي مكتظ بالحجارة المصوبة بدقة"! (ص41-42).
لم يعد أحد يذكر كرري كانتصار لبريطانيا بهذا الشكل الذي يتحدث عنه نيكول، وربما لم يعلم أننا نتغنى الآن بأنه قد فر جمع الطاغية البريطاني من أمامنا في أغنية ألفها مترجم كتابه نفسه: صدق أو لا تصدّق يا نيكول! وما يستحق التعليق أيضا هو ذلك السياج من جهة، والغياب لأي نصب لشهداء كرري من جهة أخرى.. فلماذا نحتفظ بنصب تذكاري للفرقة الحادية والعشرين ونحميه من الغاضبين؟ ولماذا لا يعاد النصب لبريطانيا لتقيمه حيث تريد، وربما تصبه كبة كتلك التي أصابت كتشنر!
كتشنر، الذي دمّر السودانيين في كرري بكل تلك القسوة واستباح أم درمان ثلاثة أيام حسوما، وقال: "المهدي وراتب المهدي وخليفة المهدي قد دمرتهم ودفنتهم في حفرة عميقة فمن بحث عنهم سوف ألحقه بهم"!. تأتي حادثة موته مصداقا للآية الكريمة (وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) إذ غرق في السفينة الملكية هامبشاير المتوجهة لروسيا مع مئات من موظفيه وطاقم السفينة، ولم يعثر أبدا على جثته (وربما سيلحق به كل من يبحث عنه) ولم يكن مأسوفا عليه كثيرا كما جاء في موقع الويكيبيديا؛ وكتب سي بي سكوت رئيس تحرير صحيفة مانشستر غارديان حينها: "بالنسبة للرجل العجوز فإنه لم يكن بإمكانه فعل شيء آخر أفضل من ذهابه لتحت (كناية عن الغرق) لأنه كان كثيرا ما يشكل عائقا في الآونة الأخيرة"! فكان السفاح الأول الذي ادعى القضاء المادي النهائي على المهدية قد قبر هو بينما انتعشت المهدية من جديد ماديا ولم تهزم أبدا معنويا..
وهناك سفاحون آخرون ظهروا، وملأوا الآفاق طنينا، وإنما العبرة بالخواتيم! (أبدلنا لفظة الحانوتي بالسفاح للإشارة للذين يهددون بقبر الآخرين، لأنما الحانوتي يقوم بمهمة واجبة ومستحقة بتجهيز الموتى ودفنهم بينما السفاح يقبر الأحياء ويتهددهم وشتان بين المهمتين)!
كرري تحدّث أن المعنى أبدى من المادة، وأن الذين يؤمنون بقضية الدين أو الوطن لا يموتون وموتهم البطولي هو حياة لأمتهم ونصر ولو احتوى هزيمة مادية، وكذلك أنه (وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ)، صدق الله العظيم.
وليبق ما بيننا
Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]