كريسماس 1982 هذا يوم لا يشبه أيامنا. في مستشفى إشباندو ببرلين الغربية، صحوت صباح اليوم كالمعتاد في سرير الاستشفاء، أنبوب من السائل العلاجي والمغذي في وريد اليد لمدة ساعة. أفطرنا بعده في مطعم بالطابق الأول. الشمس لا تبدو إلا قليلاً. ضوء يغمرك ولا تدري من أين انبثق. أعمدة الإنارة تضيء عندما ينخفض الضوء، وتعمل عملها دون تدخل يد الإنسان . كل شيء يتم أتمتته. قالت إحدى الممرضات إن اليوم هو احتفال المستشفى بأقسامها المتعددة بقدوم عيد الميلاد المجيد. وكان اليوم يوافق 22 ديسمبر 1982. يحتفلون معنا قبل يومين ليتركوا براحاً لينعموا هم بعطلة عيد الميلاد مع أسرهم. أشجار الصنوبر ليست كالأشجار عندنا. كأنها تماثيل من الأفرع الخشبية بلا أوراق . الشتاء شديد القسوة عليها، سقطت كل الخضرة. كذلك كل ما حولك أبيض فقد تعوّد الجليد أن يسقط شتاء. كل الطرقات بيضاء. وأرضية رخوة تغطس فيها الأحذية عدة سنتمترات. ذهبنا أولاً إلى المطعم الكبير كما أسلفنا، فكل من يتجولون بأرجلهم يذهبون إلى المطعم. انتظمنا عند الثامنة صباحا، لكل منضدة طعام أربع كراسي جلوس مخصصة للمرضى. كل الطعام الملون متوفر، خضار مطبوخ. فيه كل الألوان الطبيعية، خضار قد تعرف اسمه والكثير لا تعرف اسمائها. بدل الخبز يكون البطاطس المسلوق. كل الطعام بدون الملح أو البهارات. ذلك غذاء المستشفيات الصحي.
(2) "جين" هي قائدة فريق مطبخ الطعام. أصلها من كوريا الجنوبية. هناك" أنّا " تقوم بجر صندوق من الاستانلس استيل له عجلات أربع وبه الأطباق الساخنة، مكنوزة بالطعام. دجاج واستيك من لحم الخنزير، والبقية خضار ملون مطبوخ. كل ألوان الطبيعة تجدها عند مائدتك. تُشير أنت إلى النوع فيغرفون لك. بعد الطعام يتوجه الجميع لغرفهم حيث المغسلة ملحقة مع كل غرفة. في غرفتي "آديلهايد" هو المريض الوحيد الذي لا يستطيع الحراك من سريره. وضعوا له بعد الافطار شجرة عيد الميلاد مضيئة بأنوارها الصغيرة. وقطع من الكيك حول الشجرة في صحن أبيض اللون وشوكة وملعقة وسكين. كلها عند مائدته ومعها منديل أبيض مطوي وبطاقة تهنئة. الممر الكبير بين الغرف بعرض أربعة أمتار. تم إحضار جميع طاولات الموائد في الغرف، وكانت كل واحدة منهن مغطاة بملاءة بيضاء. تم رص الموائد لصق بعضها، وصار الجميع كأنها مائدة بيضاء واحدة بطول الردهة. على جانب من الردهة تم وضع شجرة عيد الميلاد كبيرة الحجم. تقارب الأربعة أمتار عرضاً وثلاثة أمتار ارتفاعاً. مرصعة بأنجم إضاءة تتلألأ بلونها الساحر. وتم توزيع الكيك الملون في صحونه، ووضعت أمام كلٍ شوكة وملعقة وسكين بعدد الجالسين. تحلقنا عند الموائد المرصعة، منظر يدخل البهجة في النفوس المتعبة.
(3) كنت أقدم نزلاء مستشفى إشبانداو الحكومي. على مبعدة كيلومترين كان سجن إشبانداو وفيه ساكنه الوحيد "رودلف هيس" نائب هتلر، فقد حكم عليه بالسجن مدى الحياة. هذا هو عيد الكريماس الثاني الذي أقضيه في المستشفى. الجميع كانوا حضوراً: عاملات النظافة التركيات وأفراد المطبخ من كوريا الجنوبية. والأطباء، والمرضى من الجنسيات: الألمان، والباكستانيين، ومن غانا مريضين وأنا. ساعة انتظار وحضر مدير المستشفى. استقبله الجميع بالبسمات. أطلق حديثاً لطيفاً مختصر. وعلق على حال المرضى. واختارني لأن شكلي ولون شعري الكثيف ولون بشرتي مميزاً، يدعو للترحيب، فقد كانت لي جاذبية خاصة، مشوبة بحياء، أكسبني حب أغلب الحضور. كانوا يدعونني " إبراهامشان"، وهو اسم لإبراهيم أبو الأنبياء وهو اسم جدي. كنت أعرف قليلاً من اللغة الألمانية، تمكنني من فهم المقصود بعموميته. ولا يغيب عني كثير شيء فالمسلك الحضاري الذي تمكنت من معايشته، بمسلك مكتسب. وصرت طبيعياً في كل شيء، أعبر بلغة موجزة بعامية مهشمة و لكنها مفهومة لدى الغير.
قبل طعام الكريسماس كان يتعين تلاوة بعض الترانيم الخاصة بالديانة المسيحية. بسطوا أصواتهم باللغات الألمانية والتركية والكورية، الكل يترنم وفق لغته. توجهت إليّ الأنظار لأغني الترانيم بلغتي. تجمعت كل الأنظار في شخصي، وبدأت في استعادة تاريخ ثقافتي، وديني واشتبكت قصتي الحقيقية بالحاضر، وهي قصة من الصعب أن يفهمها البعض هناك. استعرضت تاريخي الثقافي بسرعة هائلة في محاولة لتجميع الحلول لهذا الموقف دون أن أفقد مكانتي بين الجميع. بدأت أغني بصوت خفيض، وأحاول دوزنة زمن الغناء بالإيقاع بفرقعة الأصابع لتخرج أصواتاً تحفظ الزمن: لو تعرف اللهفة والريد والعذاب والشوق بيطرق في دروبك ألف باب لو تعرف الدنيا من بعدك سراب ما كنت روحت وكنت طولت الغياب
وفور توقفي عن الغناء، انهال الجميع بالتصفيق، فقد كانت المشاعر المتدفقة، وسلاسة الأغنية والأداء، مدعاة للطرب الذي اجتاح الجميع. لم يدركوا معنى الكلمات، ولكنهم تخيلوا أنها ترانيم مسيحية ولكن بلغة أخرى جاذبة. وبدأت التعليقات أننا بلغتنا نحب السيد المسيح، ونطرب الآخرين بغناء بترانيمنا، وأنا أتصبب عرقاً رغم الشتاء، فقد كانت الردهة بدرجة حرارة مناسبة عن طريق أجهزة التدفئة الموزعة في الغرف والصالات والردهات وحتى الممرات. جلسنا نستأنس جميعاً وقد عمتنا مسرّة المناسبة، وقضى بيننا رئيس المستشفى ساعة زمان. وانفض السامر بعد ساعتين. عادت الطاولات إلى مكانها في الغرف. كانت برلين الغربية في ذلك الزمان واحة إنسانية رائعة، ولم تكن ألمانيا الغربية طاردة للمهاجرين، أو تشهد تنمر اليمين الكاره للمهاجرين، فقد حضرت زائراً وغادرتها كذلك.
(4) جلست في سريري في الغرفة. شهدتُ فلم آكشن، ثم بعده شهدت فلماً يوضح كيف أقام الإسرائيليون مجموعة مستوطنات سكنية، سابقة التجهيز. كل وحدة مكونة من طابق أرضي به حمام وغرفة ضيوف ومطبخ وغرفة، وطابق أول به ثلاثة غرف وحمامات و منامة سطوح. تلك مباني المستوطنات، كان الفلم يتابعها منذ بدء تنفيذها إلى انتهائها، كانت البنية التحتية للطريق، ذات اتجاهين. في موقع أي مبنى من المستوطنة، كان قرب الموقع المُخطط مناهل الخدمات: عدد أربع خطوط تلفونات، وخط كهرباء رئيسة، وخط مجاري رئيس وخط مياه رئيس، وخطين للتلفزيون. كل تلك الخدمات يتم توفيرها لكل مسكن. لم يكن في ذلك الوقت قد تم اكتشاف الهاتف النقال أو الإنترنيت. والمبنى يبعد نحو 80 كيلومتر عن مدينة تل أبيب. مباني المستوطنات أقيمت على حوائط حاملة، على أساسات ليست عميقة، 60 سنتيمتر عمق الأساس فالتربة صخرية. ومعظم حوائط المستوطنات سابقة التجهيز. يستغرق تنفيذ المسكن الواحد ثلاثة أيام. وكان بالمجمع ثمانين مسكناً. وبعد 100 يوم، كانت جميع المستوطنات مسكونة بكامل الخدمات. وتستغرب أنت أننا في ذلك الوقت، كنا نوزع قطع الأرض في السودان، بلا خدمات من طرق أو مجاري أو مياه أو كهرباء أو خطوط الهاتف، بل ولم يزل ذلك نهج توزيع المساكن حتى الآن!. انتهي الفلم وقد استغرق ساعة كاملة، تحولت فيها المنطقة السكنية الجرداء إلا من الطريق، إلى حي سكني، في أقل من حوالى مائة يوم. ونحن نندهش من مسلك دولة احتلال، وهي تسلك أسلوب حضاري في توفير المساكن مع خدمات المستشفيات والمتاجر والمدارس القريبة، ونحن نعيش في وطن لا نلهث في وجوده أو نسعى لمجازفة وخطورة، ورغم ذلك لم نزل نعيش في ترف التخلف.