كشكي، كشكي، كي كي

 


 

 

(نشرتها نحو عام 1998 في الفجر اللندنية وأعادني اليها، مع التنقيح، تفاقم ابتذال الوطن(
في عام 1963 نظمنا في جمعية التاريخ بجامعة الخرطوم رحلة الي إقليم جبال النوبة انتهت بنا الي الأبيض. وتزامن رحلتنا مع إجراء الانتخابات القاعدية للمجلس المركزي لنظام الفريق عبود (58-64). وفكرة المجلس، التي أوصت بها لجنة برئاسة مولانا ابو رنات رئيس القضاء آنذاك، تقوم علي دمج هياكل الحكم المحلي، وقمتها مجلس المديرية، بالمجلس التشريعي المركزي بتصعيد اعضاء الأخير من جمهرة أعضاء مجالس الحكم المحلي.
دعانا ضابط بلدية مدينة الأبيض الي فطور في يوم جمعة ما خلال إقامتنا في المدينة. وأذكر من مطايب المائدة صحن "كورن فليكس" باللبن ذقته لأول مرة وطاب لي من يومها حتى تاريخه. ودار الحديث على المائدة عن الانتخابات القائمة علي قدم وساق في المدينة. وروي الضابط طرفة عن المرحوم علي محمد خير دلال المدينة العتيق المشهور بالشايقي وأحد المرشحين لمجلس المدينة. وما دري أحد من الحضور أن الرجل عمي وأبن عم الوالد، رحمه الله، لزم. قال الضابط أنه سأل علي الشايقي:
- ما هو برنامجك يا عم علي؟
_ اول بادي ياجنابو نثبت كشكنا دا.
وكان للعم آنذاك مشكلة طويلة مع بلدية المدينة حول ترخيص وموقع كشك لبيع الجرائد أو المشروبات. وقد شيده أكثر من مرة وتسلطت عليه البلدية وقلعته من جذوره مرة بعد مرة.
وبرنامج عم علي الانتخابي هو غالب السياسة عندنا. فأكثرنا قد اكتفي من الممارسة السياسية، التي عليها مدار مصالح العباد قاطبة، بالسهر المستميت عن كشك أو آخر. وقد يكون الكشك حزباً، أو جبهة، أو ديناً، أو عقيدة، أو طائفة، أو طبقة، أو أسرة، أو قبيلة، أو مرعي، أو مصرفاً، أو مالاً، أو بنون، أو عقاراً، أو جاهاً أو صهراً أو تاريخاً، أو إنساً أو جنساً والعياذ بالله.
الوطن ليس كشكاً لأنه مجموع كل تلك الأكشاك. فهو صهريج في قول نادرة من النوادر. فقد زار ريفي لأول مرة قريباً له تاجراً بسوق مدينة عطبرة كان يسكن بجهة صهريج المياه الذي بظهر حي الفكي مدني "البرجوازي نوعاً ما" وفي بداية امتداد المدينة الشرقي. وعاد القروي الي أهله. وفي أنس القرية كان كلما جاء ذكر موضع في مدينة عطبرة من منزل، أو متجر، أو ورشة، أو طاحونة، أو طابونة . . . أو كشك، سأل الريفي العائد سؤالاً أشتهر به:
-لكين المحل دا وين للصهريج?
لم يتوقف أكثرنا في حرب الأكشاك المقدسة ليسأل يوماً: اين كشكي هذا من الصهريج. فقد ادخر القروي الصهريج "نقطة شهيرة" وهي في لغة العسكر المعلم البارز على الأرض الذي تنسب اليه المواقع المحيطة به. وقد اتخذت الصهريج هنا رمزاً للوطن، اي الموقع الشهير الذي لا قيام للمصلحة العامة لأهله إن لم يلجم اصحاب المعالم الأقل وجاهة، أصحاب الأكشاك، غلوائهم وزحامهم، وشفقتهم، وحسدهم، وكيدهم، وسخائمهم، وصغائرهم، وأكشاكهم لينظروا الي ما فوق مواقع أقدامهم أو أكشاكهم صوب بهاء الصهريج. وقد أصابنا البوار لأن أكشاكنا التي أنفقنا العمر سهراً عليها تنهار واحدة بعد الأخرى لخلوها من المرجعية الي نسق أكبر، وهم أكبر، ونصر أكبر، والله أكبر.
وبداهة عمي محمد خير الشايقي مما جاء في قصيدة لأخي الشاعر كمال الجزولي الذي قال عن المثقف أبو كشك ما يلي في القصيدة الجبلية (1993، دمشق):
قالوا له: الحريق في البلد
هل مس، قال: في شارعنا أحد
قالو النيران في شارعكم تلتهم الأشجار والحجارة.
أطارت، قال، منها
نحو بيتنا شرارة
قالو له: رماداً صار بيتك
هذا المساء
صاح: غرفتي (تقرأ كشكي)
وأجهش بالبكاء
والقصيدة آية في معمار وسياسات الأكشاك. حيا الله كمالاً الشاعر المجاهد.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء