كلمة الإمام الصادق المهدي: تدشين ديوان (متأسفة) للشاعرة داليا إلياس
بسم الله الرحمن الرحيم
13 نوفمبر 2013م
أهدتني الأستاذة داليا ديوان شعرها الأول، ودعتني لحضور تقديمه، وبعد قراءته وجدت دافعاً قوياً للحضور لثلاثة أسباب:
أولاً: لأشهد أنها استخدمت العامية السودانية ببلاغة. فالبلاغة لدى بعض الناس هي الالتزام بقيود علم البلاغة، ولكن في جوهرها هي النص الذي يحسن التعبير عن المعنى المراد. الشعر القومي السوداني، والشعر بالعامية السودانية يفوق بمراحل نظائره في البلدان العربية بلاغة.
ثانياً: لأشهد أنها في هذا الديوان أتت في بعض المواضيع بنصوص في الشعر المنثور ممتازة في بابها.
ثالثاً: لأن الديوان حافل بنصوص تدل على أن لصاحبته مشكلة مع الرجل (آدم) وبحضوري أستطيع أن أقدم استئنافاً لصالح آدم الذي أحبته حباً بلغ درجة الهيام، وعندما خذلها هجته بشعر بلغ درجة الشيطنة.
وهاكم تفصيل شهادتي حول الديوان:
أولاً: أبدأ بالإشارة لبلاغة التعبير عن الموضوعات التي طرقتها: متأسفة، حاول معاي، ما جاياك، خصام، إلى آخر موضوعات الديوان فإنها في كل موضوع عبرت عن المعنى المراد بصورة واضحة وجميلة وآسرة لدرجة أنها تحمل في طياتها أنغامها كأنها أوتار إذا نقرت طنّت، وإذا قرئت رسخت في الذاكرة، فجمال العبارات آسر حتى لمن لا يعرف معناه، كما قال أبو تمام عن غناء مغنية فارسية:
ولم أفهم معانيها ولكن وَرَتْ كبدي فلم أجهلْ شجاها
ثانياً: أذكر موضوعات بلغت فيها جودة تجعلها شواهد في مجالها، وهي:
أ) القصائد الثلاث عن الأم فالأمومة هي أقوى عاطفة في الوجود الإنساني والحيواني وأمها أي اقصدها أمَّ بمعنى قصد، وفي نطاق حفظ النوع الإنساني هي الأكثر تضحية والأكثر عطاءاً بمراحل، لذلك عندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ َ أجاب:"أُمُّكَ"، "ثُمَّ أُمُّكَ"،"ثُمَّ أُمُّكَ"،"ثُمَّ أَبُوكَ" . وقال صلى الله عليه وسلم: " الْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْأُمَّهَاتِ ". القصائد الثلاث في الأم جيدة وتستحق أن تلحن وتحفظ وتغنى مثل رائعة التجاني الحاج موسى (أمي يا دار السلام).
ب) والقصيدة عن الحبوبة قصيدة جميلة:
حبوبة وينك وين حبوبة والله زمان
كاتلني شوقاً ليك ولحضنك الدفيان
منك عرفنا دروس وروينا ريد وحنان
بي توبك المعطون غتيتي كل بردان
ودعتي بالتوفيق وحصنتي بالمنان
وفي النص نعيٌ لاختفاء هذه الحبوبة:
حبوبة زوريني أنا داير أحجيكي
بي قصة الأحفاد الخانو ماضيكي
وفي القصيدة تناول لموضوع بيوت المسنين وما تمثل من جفوة نحو الجدود:
منعول ولادة الهم لي والدو ما قدّر
والدنيا بكرة تدور وفي الدار دي يتحكر
هذا موضوع كبير، وهو في بعض الأوساط الحضرية نتيجة لظاهرة الأسرة النووية وقيم الحداثة الغربية.
ج) وعشم باكر في المشاعر نحو الذرية قصيدة جميلة في بابها
يا حبايب جوة قلبي
يا مشاعل تضوي دربي
قولوا ماما ورددوها
كلمة تديني العزيمة
ولو ربيع العمر جفا
بتبقوا في دنيانا نيل
وفي القصيدة معنى عن توزيع المحبة بين الأطفال وعدم التمييز، وهومطلوب تربويا كما قال الشاعر ابن الرومي:
وأولادُنــا مـثْلُ الـجَوارح أيُّـها فـقدْناه كـان الـفاجِعَ البَيِّنَ الفقدِ
لـكلٍّ مـكانٌ لا يَـسُدُّ اخْـتلالَهُ مـكانُ أخـيه فـي جَزُوعٍ ولا جَلدِ
هَـلِ العَيْنُ بَعْدَ السَّمْع تكْفِي مكانهُ أم السَّمْعُ بَعْد العيْنِ يَهْدِي كما تَهْدي
د) ولا أظن أن أحداً يسمع قصيدة (مايقوما) دون أن يهتز حتى النخاع، فقد صورت قصة بشر لهم كافة حقوق الإنسان نظرياً ولكنهم معاقبون عاطفياً واجتماعياً وثقافياً دون ذنب جنوه. ولنفي هذه العقوبة كان الإمام المهدي يدعوهم أولاد الرضا، مثلما تصرف الإدانة للأعور بقولك "كريم عين". تطرقت القصيدة لكل المعاني المنشودة في أمر هؤلاء، ولكن للمجتمع أيضاً مسؤولية، فالناس معرضون لفضائيات ماجنة، والطريق للزواج بيد دونها بيد من عادات وتكاليف لا تطاق. إن للإعلام الماجن، ومشاكل العطالة، والسكن، وتكاليف الزواج دوراً في المناخ الفاسد. ولكن أهم ما في القصيدة أنها تصور معاناة بشرية من ظروف هم ضحاياها لا صناعها:
أولاد هجير الشمس والسكة والحرمان
لا عندهم تاريخ لا ماضي لا عنوان
لا عرفوا درب البيت لا عاشروا الجيران
لا صابحوا الأمات لا لاعبوا الأخوان
جايين على الدنيا بي غلطة من إنسان
ثالثاً: من يقرأ مقالات داليا في الصحف يجدها مسكونة بالوعي الاجتماعي وبالعقلانية. ولكنها في شعرها، والشعر شعور، مستغرقة في العاطفية وفيما يتعلق بالرجل فهي عاطفية متطرفة تشبه تطرف بعض شعراء الرجال في المرأة:
فلا تَحْسَبَنْ هنداً لها الغَدْرُ وحدَها سجيةُ نفسٍ كلُّ غانيةٍ هندُ!
للمتنبي، وبيت البحتري:
وَكُنْتُ تَبِيعَ الغَانِيَاتِ ولمْ يزَلْ يَذُمّ وَفَاءَ الغَانِيَاتِ تَبِيعُهَا
وقول آخر:
اسكبن ما ماء الفرات وطيبه منا على ظمإ وحب شراب
بألذ منك وإن نأيت وقلما ترعى النساء أمانة الغياب
وكثير من الأحاديث الموضوعة هي تكريس ذكوري لدونية المرأة، وقد أحصيت في كتابي عن المرأة كثيراً من هذه الأحاديث، ونفيت صحتها بنصوص القرآن وبسلوك النبي صلى الله عليه وسلم العملي.
ولكن داليا في شعرها قدست الرجل بنصوص دافئة:
ولما تهمس في خواطري تاني برجع للكتابة
وابدا اسرح في مدارك
اصلو دونك مافي دنيا
وقالت في لوعة:
يا سيد قلوبنا وحاكما
بالله اظهر يوم وبين
من غير وجودك هائمة
واحلامي زي عصفور سجين
رسمت لنفسها في علاقة المحبة صورة مبالغ فيها للمحبوب، وعندما خذلها الواقع عبرت عن الأسف الشديد:
متأسفة
ما كان أكون مفتونة بيك
ما كان أحبك متلهفة
إحساسي كان مجرم خطير
عارض شروطك وخالفا
جاك مندفع بيك منبهر
ادمن عيونك ووالفا
هذه التعابير مفتونة، مندفع، منبهر، ادمن، عبارات التطرف وهو أحد أمراض الحب كما هو أحد أمراض الكراهية، ففي الحالين يحدث الخروج عن الاعتدال، وتأتي خيبة الأمل، لذلك تجد المحبين يعبرون عن هذا الهياج متلاطم الأمواج:
هو الحب أن الحب أنت حلاوة
أنت مرير أنت شق المرائر
لذلك الحكمة في الاعتدال كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا، وَأَبْغَضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا " .
خير الأمور الوسط حب التناهي غلط
أما داليا فقد نصبت من تجربتها محكمة عليا، فآدم الذي خذلها أو لعله محمد أحمد، أي آدم السوداني، ألهمها أبشع هجاء لكل النوع:
وعود الرجال مجرد أماني
وقصور في الخيال
فلا تأمنيهم ولا تتبعيهم بدعوى المحبة
وكريم الخصال
لأن السراب هو البيصبح حصادك
ويغرق طموحك في بحر المحال
فكل الدلائل تؤكد بأن السعادة البنوها
إليك زينوها مجرد رمال
ستذروها يوما رياح الخديعة
البقت زي طبيعة بتجري في دماهم
وقصة هواهم مصيرا الزوال
عيونهم بتقدر تشوف الكتير
وتعشق قلوبهم تملي الجمال
غرامك لديهم مشاعر أنيقة
وشوقهم إذا طال مجرد، مجرد دقيقة
وانتي الغرامهم لديك امتثال
يريدون منا ان نظل الجواري
وما حقو نسأل مجرد سؤال
ولو بس رفضنا الخضوع للمذلة
ستهدر دمانا ويبدا القتال.
هذه صرخة فنية في هجاء الرجال، تضارع صرخات فنية في هجاء النساء، ولكن أية إدانة مطلقة للنوع كله تعصب للجنس وغير صحيحة. الرجل والمرأة هما توأم الإنسان، توأم في نوعية الخير والشر، والحق والباطل، والجمال والقبح. ومع أن التجربة الذاتية تؤثر في حكم الأفراد فإن العقلانية توجب عدم إصدار الحكم العام بموجب التجارب الذاتية.
وداليا كذلك غاضبة على المجتمع السوداني:
محل ما تقبل تلقى الناس النست العشرة
وباعت فضلك للنكران
وتلقى الناس التسرق عرقك
وتترك ولدك للحرمان
وتلقى الحالة الصعبة الدايمة
وتعرف إنك في السودان
وتقول:
وشوف الناس الديمة تصلي وليها دقون
وتسرق وتنهب وعادي تخون
كانها يوم ما عايشة معانا
وعاشقة السلطة عشق مجنون
مرة أخرى هذه تعابير صادقة عن حقائق ولكن العيب في التعميم، فالسودان فيه الخير وإن استبد به الشر، فالعبارة القاسية هي: محل ما تقبّل!
ومهما يكن من نقد للتعميم المطلق، فإن الشاعرة عبرت عن مشاعرها بقوة وبعبارات آسرة.
ويشفع لداليا أن هذا الإحباط عن حالة السودان إحباط عام، مثلما عبر عنه كثيرون أمثال عالم عباس:
هل التي تعممت أرجلنا
أم رؤوسنا اتخذت أحذية
القميص ما نلبس أم كفن؟
وطن..وطن. كان لنا وطن!
وكثيرون عبروا عن اليأس بالسعي للهجرة الجغرافية، وآخرون بهجر الوعي بالمخدرات وغير ذلك من دلائل الإحباط.
إذن داليا بهذا الإحباط تمثل تياراً لا موقفاً فردياً.
أختم فأقول إن هذا الديوان الصغير لصاحبته داليا إلياس شعره قوي العاطفة رشيق العبارة إذا نقر كالأوتار طن. أتمنى لها مزيداً من التوفيق في عالم الشعر.
zakioffice@yahoo.com