كل الطرق تؤدي إلى انهيار دولة الأخوان المسلمين (4)

 


 

 

حينما يتحول الدين الى وطن والعقيدة الى هوية



abdelsalamhamad@yahoo.co.uk

إذا مزجت اللون الأحمر  والأخضر سيتشكل لديك لون جديد وبديع  يختلف تماما عن كليهما -  وهكذا يتلقى الطفل في مراحل خطواته الابتدائية درس التشكيل الأول.
وحينما  اطل التاريخ السوداني بفرشاة ألوانه ،  ومزج بين الثقافات وطرائق وأدوات كسب العيش في البيئة الطبيعية والاجتماعية ذات الأصول الحامية والزنجية والسامية بلغة العهد القديم 1 تشكلت لوحة مدهشة لشعب جديد مختلف ألوانه  كثير البراءة لقرب عهده بطفولة التاريخ ،  هويته سودانية ،  يعتقد في الإسلام ، والمسيحية ، والعديد من الروحانيات الارضيه .
قد أضحت  لوحة الهوية السودانية جلية النسب والأبعاد والظلال ،  وتنبثق منها بدايات ومقدمات لأمة (متعددة الأديان والثقافات واللغات والقوميات  ) لاتزال في طور التخلق والنشؤ والنمو .  ذلك الاضطراد في الارتقاء يمثل نبع الحيوية الدافق الذي يشير إلى آفاق تلك الأمة وخطاها في الزمان الذي لم يأت بعد ، وإن لاحت بشائره البعيدة  في ذلك القلق الفاعل الذي يقض مضاجع الشعب السوداني  ويدفع به إلى طرق أبواب الممكن والمحال في الوجود والعدم.
يزعم الاصوليون السلفيون ( الاخوان المسلمون) في السودان في ممارساتهم العملية إن الألوان تتفاضل ولا تتمايز ،  وأن الثقافات أيضاً تتفاضل ولا تتمايز ، وأن الأديان تتفاضل ولا تتمايز ،  وأن أبناء  الوطن الواحد ينقسمون الي ولاة ورعايا وليس في معجمهم مواطن ووطن ودولة قومية .
يتوزع ابناء الامة الواحدة في ناظر الاخوان المسلمين السودانيين إلى خير وأدنى أمة أخرجت إلى الناس ويحاولون جهداً محالاً  أن يفرزوا ( ألوان ودماء وأعصاب ووجدان وثقافة وعقائد الشعب السوداني ) بعد أن تشكلت في الزمان والمكان  وأعادتها قسراً إلى عناصرها الأولى- إلى مرحلة قد سبقت المزج والتخلق

والتشكل،  أما اذا بدا  لهم أن ذلك الجهد الذي يبذلون ضرب من العبث الذي لا طائل تحته فلا مانع لديهم أن يسلخوا ذلك  الجسد من جلده وأن يفتتوا الأعضاء الي ذرات لا تٌرى بالعين المجردة. ولما كانوا كذلك فلامانع  في فكرهم ان يتمزق نسيج الامة الواحدة الي خرق شتي والبلد الواحد الي كيانات  والوطن الواحد الي اثنيات وملل ونحل وفرق وتحقق لهم في السودان دأبهم ومسعاهم.
تكمن محنة الأصوليين في السودان في تصوراتهم للهوية التي تنبع أولاً من ذلك السلخ التعسفي للإسلام من سياقه الثقافي العام الذي ورد فيه بالسودان  " بأن  الثقافة كل وأن الدين جزء"  فيقلبون طبائع الأشياء ليجعلوا من الدين سياقا للثقافة أو بكلمة آخرى أن يكون الجزئي أكبر من الكلي والثلاثة أكبر من العشرة فيسقطون في فخ  لا مخرج منه إلا بتحطيم الدين والثقافة معاً تماماً  كماقد فعلوا ذلك بكفاءة لم تتوفر لهم في غير ذلك  وقد سبقتهم الى مثل ذيالك الفعل السيدة الحكيمة ذات الصيت في التراث الشعبي-  "البصيرة أم حمد"  حينما سئلت يوماً لتجد للناس مخرجاً من مأساة الثور الذي أدخل رأسه في  انية فخارية -  فأشارت عليهم بثقة وصرامة  تامة أن اقطعوا رأس الثور أولاً  فلما فعلوا أمرتهم بكسر الانية الفخارية ثانياً.
أما مقتل الأصوليين الثاني في مسألة  الذاتية (الهوية)-  دخولهم في مغالطة صريحة وعلنية بتحويل الاعتقاد الديني إلى هوية ،  لابد من الأنصاف أن نقول أن إحلال الاعتقاد مكان الهوية ،   هي الفكرة الجوهرية التي قدمها الشيخ حسن البنا 2 ودارت حولها مقالات ومقولات الإخوان
المسلمين وامتداداتهم العنقودية من الجماعات المتطرفة التي  استمدت التكفير والوصاية وجاهلية المجتمع المسلم من سيد قطب في كتابه المرشد ،  معالم في الطريق الذي استقاه بدوره من ابي الحسن الندوي3 ،  وكونت فيما بعد -  التكفير والهجرة والجماعة الإسلامية والشوقيون والتوقف والتبين ،  الناجون من النار  الى اخر الشظايا العنقودية  وإذا كان الشيخ حسن البنا  سني المذهب كما يقول 4 فإن الشيعة ( الاثنا عشرية ، الإسماعيلية ،الكيسائية ،  غلاة الشيعة ، الزيدية)  هم أول من حول الاعتقاد في آل البيت بفرعة الطالبي إلى هوية 5  ومن ثم خرجت الطوائف والملل والنحل وتشابكت مع  الأعراق في الزمان والمكان وأضحت مصدرا لتفتت وتمزق الحضارة الإسلامية الأولى وعقبة أمام نشوء قومية عربية في القرن العشرين قوامها المواطنة والتمايز وليس التفاضل في مجتمع مدني تعددي.

صحيح أن الأصوليين في السودان حينما كان الدكتور حسن الترابي حاكما عاما للسودان من الباطن ومرشدا للدولة من الخارج في سني دولة الانقاذ الاولى التي سبقت المفاصلة (1989 -1998)   قد – برهنوا بإعلان  السودان وطن قومي  لكل من ينطق بالشهادتين  ويؤمن باليوم الاخر  أن العقيدة الدينية هوية وكان الجهاد في جبال النوبة وجنوب السودان   فحمل جواز السودان أسامة بن لادن  السعودي وراشد الغنوشي التونسي  واخرين من امريكا وفرنسا وارض السند والهند واندونيسيا وداهومي وحرم منها الكاتب الطيب صالح  أما  الذي حدث  حينما  تحول السودان إلى وطن هلامي بلا حدود فقد ارتعب الجيران والأشقاء والأصدقاء، وجأر الجميع بالشكوى  واستغاثوا  بالمنظمات والهيئات الاقليمية والدولية  فوضع اسم السودان في قائمة الدول الاكثر خطرا في العالم  التي ترعي الارهاب –أذ يتبني فكرا يحثها علي قلب النظم  في الدول المجاورة لها  واغتيال رؤسائها   واطلق علي  تلك الزلزلة  الجهاد المقدس   .
يتسق اعلان الجهاد على مواطنين في اطار دولة قومية  وتحول العقيدة الي هوية  في وطن بلا حدود  كخطوة أولى  مع الحراك السياسي الكبير  الذي اراد به الدكتور حسن الترابي    بعد انقلاب الثلاثين من مايو 1989  تغيير معالم  خارطة الجغرافيا  السياسية لدول حوض النيل وتلك التي تطل على البحر الاحمر  واطلق علي ذلك  الدكتور عبد الوهاب الافندي في أطروحته للدكتوراة  باحدي الجامعات البريطانية  "ثورة الترابي" ويتماشي كل ذلك  مع وقائع  السودان الذي لم يعد وطناً قومياً لمواطنيه  بالميلاد والتجنس بل أضحى عقيدة ،  قد بررت للباكستاني القادم من بيشاور ،  والأفغاني من جلال أباد، والأمريكي  الذي اعتنق الإسلام على يد الأصوليين  والجزائري الذي يعادي نظامه السياسي ،  وكل من يلتقي مع دعاة العقيدة الهوية أن يحمل الهوية والجواز السوداني  مادام الذين يحكمون قد ارتضوا ان يكون الدين وطناً ,  أما أولئك  الذين يعارضون سياسية الأصوليين في السودان فيمكن أن تسقط عنهم جوازاتهم او تنزع منهم هويتهم إذ  تتحول معارضتهم الدنيوية لنظام الحكم الذي الغي الديمقراطية  وجعل الحياة المعيشية لا تقل جنوناً وضراوة عن الحرب في جبال النوبة والجنوب  إلى معارضة لعقيدة الإسلام والمشيئة الإلهية5. 
إذا طرحنا سؤالاً مباشراً على الأصوليين في السودان – من أين اتوا بفكرة العقيدة  الهوية- أو تحويل العقيدة إلى هوية – إذا كان قد استقوها من الشيعة الإثني عشرية في إيران – فلابد أن نلاحظ  أن مصادر الإخوان المسلمين ومراجعهم الفقهية والكلامية كما يقولون سنية6 والسنيون أعداء الشيعة التاريخيين الذين رموهم بتأليه علي  وإنهم قد البسوا عقائدهم " الكسروية " ذات الأصول  الوثنية أزياء ودروعا وأزرا  إسلامية . إضافة كل ذلك تظل الفكرة الجوهرية التي تدحض  تحويل العقيدة لدى المسلم  إلى هوية أن العقيدة تقوم على وجود  ذات إلهية واحدة ،  خالقة
للكون ،  لا تتغير ولا تتبدل ،  ومكانها الوجدان والتعبير عنها بالإيمان -  أما الهوية فيعتريها التغيير والتبديل طبقا لشروط المكان والزمان والعمل وطرق  كسب الرزق والثقافة ونظام الحكم وطموحات المستقبل وكل ذلك في إطار وطن ومواطن – فهل يتقبل الأصوليون في السودان إخضاع الإيمان بالذات الإلهية لشروط  المكان والزمان في الوطن والمواطنة؟ أى أن تتغير العقيدة؟ كما تتغير الهويه؟
الأمر الآخر إذا  كانت العقيدة هوية والوطن دين فماذا يحدث إذا طلب أحد المسيحيين في السودان  أن ينتقل إلى الإسلام أو الوثنية أو تحول آخر من الإسلام دون أن يرتبط بأي دين؟  كيف يتم تصنيفهم اذ تغيرت  عقائدهم ولم تتغير اوطانهم  او مصالحهم القومية هذه اذا اقصينا بالطبع ان يكون القتل او النفي بعضا من ذلك التصنيف للمواطنين .
إذا تركنا كل هذا الحجاج الذي يدحض أن تكون العقيدة هوية –الم يرد في نص الاسلام الاساس7( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ   القصص56
وتأتي السنة النبوية المؤكدة  لهدم الفكرة الأصولية بكاملها إذ صاغ الرسول في العام ) الثالث أو الرابع   للهجرة عهدا (صحيفة بمثابة دستور)  بين المهاجرين من قريش والأنصار من الأوس والخزرج وبطون متعددة من اليهود ووثنيين آخرين وكل من دافع عن المدينة ضد غزاتها -  وأن المهاجرين من قريش – والأنصار  واليهود والطوائف الأخرى أمة واحدة – ليس أساسها الدين  ولكن – الوطن – ( المدينة يثرب ) كما تقول بنود الصحيفة8*
"هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.
إنهم أمة واحدة من دون الناس.
وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
وأن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم.
•    * *
وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.

وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.
وأن لا تجار قريش ولا من نصرها.
وأن بينهم النصر على من دهم يثرب.
اذا كانت تلك هي صحيفة رسول الاسلام  وفيها الفصل القاطع بين الاعتقاد الديني والتواطن
– فمن أين أتى هؤلاء  الأصوليون في السودان بهذه الفكرة أن العقيدة هوية والتي تفضي في نهاية المطاف  إلى دمج كامل بين العقيدة الهوية والمعتقد الديني والذات الإلهية لتصبح معارضة رفع أسعار البامية في الأسواق معارضة للمشيئة الإلهية  ومعارضة وجود اسامة بن لادن ( قبل ان يفر بنفسه  حتى لا يسلم الى طرف ثالث في مساومة سياسية  )  معارضة صريحة للإيمان وكفرا بالذات الإلهية.
الخبر المؤكد  أن قد دفع السودان ثمنا  مرعبا وباهظا لمعتقدات الاخوان المسلمين -بان الدين وطن  والعقيدة هوية  وقد افصحوا  وجاهروا ان لا بأس  ان يقضي  ثلثا سكان السودان نحبهم  في سبيل تطبيق شرع الله  وقد لفظ بالفعل  ما يقارب  ثلاثة مليون سوداني  انفاسه   في حروب دولة الاخوان الدينية  وتشرد  ما يقارب ستة مليون  اخرون  على كل بوابات العالم   واستبدل ما يقارب ثلاثة مليون سوداني هويته باخرى  وفر الجنوب بنفسه  في صورة انفصال من اصوليين لا يكنون لهم سوى التحقير والامتهان وغادر الى غير رجعة   زرافات ووحدانا  الالاف من  الاقباط والارمن والاغاريق والايطاليين والسوريين واللبنانيين المسيحيين الذين كانوا من البناة الاوائل للرأسمالية السودانية والطبقة الوسطى.
هل يصنف الخراب الذي الحقه الاخوان المسلمون بالسودان في خانة الخطأ  بتحويلهم العقيدة الدينية الى وطن وهوية  أما ان الامر بعض ذلك و فوق كل ذلك بدخول الاخوان المسلمين  القرن العشرين والالفية الثالثة بمطالب حسية مادية لا تتحقق الا بوعي ديني نصفه من تصوراتهم الايدولوجية الذاتية للاسلام  أما النصف الاخر فيمت الى قيم الجاهلية الاولى التي يقارعونها في النظر ويحتفلون بها في العمل.
**
د-عبدالسلام نورالدين
abdelsalamhamad@yahoo.co.uk

مصادر وهوامش
-1-التكوين-ص 3-86 الكتاب المقدس -جمعية الكتاب المقدس المتحدة 1962
2 -حسن البنا ص 89 رسائل حسن البنا دار القلم بيروت لبنان
3-ابو الحسن الندوي-ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين  ص17 مقدمة سيد قطب -الطبعة العاشرة 1977
4-حسن البنا 286 رسائل حسن البنا
5-عبدالكريم الشهرستاني ص146 -192 -الفصل السادس اراء الشيعة في الامام وفرقهم دار القكر بدون تاريخ
6-فتوى بقتال الخوارج
7 -القران القصص الاية 56
8 -محمد حميدالدين-ص 57  مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة بيروت ط5 1985

 

آراء