كيفية تخفيف آثار رفع الدعم على المواطن المغلوب علي أمره

 


 

د. عمر بادي
15 June, 2021

 

عمود: محور اللقيا
ما يحدث هذه الأيام من ترعيب و تخريب و نهب للمواطنين كان متوقعا بعد أن أعلنت الحكومة عن رفع الدعم للوقود في المؤتمر الصحفي الشهير يوم 9 يونيو الجاري , و كأنهم نسوا ما حدث في سبتمبر 2013 بنفس سبب رفع الدعم عن الوقود الذي أعلنه الرئيس المخلوع البشير آنذاك و طلب من المواطنين أن يتحملوا تبعاته حتي تظل الدولة قائمة , و هاهم الآن أعادوا ما حدث آنذاك بدون أن يقدموا حلولا إستباقية تخفف من وقع زيادات الأسعار التضخمية علي المواطنين !
السبب المباشر لهبة سبتمبر 2013 كان رفع الدعم عن المحروقات الذي اشعل السوق غلاءً , و الأسباب غير المباشرة كانت جماع تراكمات عدة , و بعد ذلك مع تزايد التضخم و سؤ الأحوال أعد معتز موسي رئيس الوزراء في نظام البشير في عام 2018 خطة إعافية Recovery plan للنهوض بالإقتصاد السوداني من وهدته التي لازمته لعقود مضت ( كما ذكر ) و أودت بالبلاد إلى تضخم و غلاء وصلت نسبته الى 66% معظمه خلال ذلك العام و أنه سوف يعتمد على العلاج بالصدمة Shock therapy من أجل تحسين معايش الناس ! و أنه لا يقصد تطبيق نظرية الصدمة للإقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان المعروفة بتحيزها للحكومات ضد الشعوب كما حدث في تشيلي و العراق . لكن و منذ تلك الزيادات المعلنة لم يتوقف الغلاء و صار مرتبطا بصعود الدولار مقابل العملة المحلية و الذي واصل صعوده و واصلت الأسعار إرتفاعها و طالت كل شئ و إزدادت رسوم الجبايات و إزدادت تعرفة المواصلات العامة إلى الضعف و ظهرت زيادات غير معلنة و تفاقم الوضع الإقتصادي مع الوضع السياسي و كانت الحصيلة ثورة ديسمبر 2018 المجيدة .
الشعب السوداني شعب عظيم , في عين كل من عرفه حق المعرفة , لأن بواطن حقيقته لا تتجلى لأصحاب الإنطباعات السريعة , فتأثير الصوفية و الأثرة الغيرية و التربية القيمية هم نتاج تشكل الشخصية السودانية على البساطة و التواضع و التسامح و الصبر ... الصبر على كل شدائد الحياة , فترى السوداني منا ( ممكونا ) و حاملا على كاهله ما تئن من حمله العيس , و لكنه رغم ذلك صابر ما دام يحس أن صبره في صالحه فإذا أحس بغير ذلك هب و إنتفض و ثار !
تختلف الدول الناهضة في تطبيقها لوصفة ( روشيتة ) البنك الدولي فمنها ما يطبقها حرفيا و منها ما يرفضها و الأمثلة متواجدة و يتوقف الأمر كثيرا في الوضع الداخلي لتلك الدول , فمنها دول تعاني من إنعدام الوحدة الوطنية و من التمايز السكاني و من إستشراء الفساد المالي , و منها دول تعاني من عزلتها العالمية و نعتها بالإرهاب . لذلك فقد رفض مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا في ثمانينات القرن الماضي وصفة البنك الدولي و إعتبرها ديونا سوف تتراكم علي ماليزيا و لذلك فضل أن يبدا بالإصلاحات الداخلية في نزع فتيل النزاعات بين مكونات دولته بجنسياتها الملاوية و الصينية و الهندية و مساواتهم أمام القانون , ثم نشر التعليم و الغطاء الصحي لكل المواطنين , ثم بعد ذلك وضع قانونا جاذبا للإستثمار ثم دعا المستثمرين الأجانب و عرض عليهم فرص الإستثمار في ماليزيا . أما لي كوان يو في سنغافورة فقد إرتقى ببلده في ثمانينات القرن الماضي إلى مصاف الدول العظمى إقتصاديا رغما عن شح بلده من الموارد الطبيعية , فبعد أن إستقل ببلده من إتحاد ماليزيا وجد أن نسبة البطالة عالية و أن سنغافورة تعتمد علي السياحة فقام بتطويرها و ساوى بين مكوناته السكانية و نشر التعليم و إهتم بالبنية التحتية ثم دعا المستثمرين خاصة الشركات متعددة الجنسيات و وفر لها جو الإستقرار . كذلك كان لولا دي سيلفا رئيس وزراء البرازيل في عشرية الألفية الثالثة من الذين إرتقوا ببلادهم فقد كان من أسرة فقيرة و عمل ماسحا للأحزية و عاملا في مصنع و عندما صار رئيسا للوزراء حارب الفقر بدعمه للفقراء بمبالغ مالية لتحسين أوضاعهم و فرض ضرائب تصاعدية و أشاع التعليم ثم دعا الإستثمارات الأجنبية . السودان كان وضعه كارثيا في فترة حكم الإنقاذ و لذلك فقد واجهت حكومة ثورة ديسمبر في الفترة الإنتقالية صعابا جمة من المجتمع الدولي فسعت إلي إظهار وجه السودان الجديد خارجيا و سعت إلي تمهيد السبل لإزالة نعوت الإرهاب و جرائم الحرب و التطهير العرقي ثم دفعت متأخرات الديون للبنك الدولي و بنك التنمية الأفريقي و بذلك إستحق السودان نيل مساعدات هذه البنوك .
نعم , ما يحدث هذه الأيام من ترعيب و تخريب و نهب للمواطنين كان متوقعا , لأن المسؤولين لم يقدموا التطمينات و الحلول قبل إعلانهم عن رفع الدعم و لم يكن للإعلام دور في شرح و تبصير المواطنين بحقائق الأمور , بل كان تصريح بعض المسؤولين مفعما بالتحدي و الإرغام للمواطنين علي تجرع علقم كأس رفع الدعم و خوض العملية الجراحية المؤلمة . خرج إلي الشارع من خرج من المواطنين الذين رأوا أن الحل في إسقاط النظام القائم , و لم يخرج آخرون رأوا أن الحل في إصلاح النظام القائم فقاموا بنقده و أبانوا ما كان يجب إتباعه . أما الذين خرجوا فقد إنقسموا إلي فئتين فئة إلتزمت السلمية في مسلكها و هتافاتها و كانت إمتدادا لنهج ثورة ديسمبر المجيدة , و فئة كانت دخيلة و عدوانية في مسلكها و تخريبها المنظم و نهبها للمحال التجارية و إشاعتها للخوف و الفوضي و هم معروفون بعصابات النيقرز , و وراؤهم فلول النظام الإنقاذي البائد فأمدوهم بالمال و جمعوهم و نقلوهم من مناطق تواجدهم في أطراف العاصمة و وزعوهم علي الشوارع الرئيسية و الأسواق في العاصمة لإشاعة الفوضي الخلاقة المفضية لتدخل الجيش و إحداث الإنقلاب العسكري الذي يحلمون به . عند ذلك إجتمع مجلس الوزراء مع المجلس المركزي للحرية و التغيير و اصدروا قرارت لتخفيف آثار رفع الدعم علي المواطنين .
إن الحلول التي وضعتها الحكومة لتخفيف آثار رفع الدعم عن المواطن المغلوب علي أمره لن تكون ذات فعالية إلا إذا صدقت النوايا في تنفيذها , فالحلول المطلوبة تتطلب الشفافية و النزاهة و أضعها في الآتي :
1 – تقليل المنصرفات الحكومية إلي حدها الأدني و تطبيق سياسة التقشف في الإعتمادات المالية للبدلات و للسفر و للسيارات الفارهة و للمساكن الحكومية و تأثيثها , و هذا يشمل هيكلة الخدمة المدنية و دمج الجيوش الخمسة في جيش واحد , و ليت كبار المسؤولين يقاسمون المواطنين حياتهم اليومية و ما بها من مشاق , و مهما قلل البعض من هذه المنصرفات فإن تأثيرها يظل معنويا علي المواطنين يدفعهم للقبول بالصبر.
2 – الإسراع في تنفيذ برنامجي ثمرات و سلعتي لتخفيف أعباء المعيشة علي المواطنين ذوي الدخل المحدود , فالأول يمنح شهريا مبلغ 5 دولارات لكل فرد من أفراد أية أسرة محتاجة و من المتوقع أن يستفيد منه 80% من الأسر السودانية , و الثاني هو بيع السلع الإستهلاكية بسعر مخفض عن السوق و هو سعر المنتج من مصنعه . أيضا لا بد من تطبيق نظام التعاونيات في الأحياء السكنية .
3– وقف النزف الداخلي للموارد المالية , و في هذا فقد توقفت الحرب الأهلية التي كانت تكلف الدولة 5 مليون دولار يوميا و السلام علي وشك أن يفرد جناحيه و ينهي معه الشعور بالظلم و يعزز من النهوض بالأقاليم التي عانت من ويلات الحرب و التهميش في شكل تنمية تعيد ما كان من مشاريع و مصانع معطلة و تنشئ مشاريع جديدة و تعيد إعمار المدن و القرى . أيضا يشمل النزف الداخلي للموارد المالية كل الشركات الحكومية التي لا تؤول أموالها لوزارة المالية و هنا علي المسؤولين أن يلتزموا بمبدأ الشفافية في تبيان حقيقة هذه الشركات .
4– لم يتم تكوين مفوضية محاربة الفساد و التي صدر قرار تكوينها منذ بضع سنوات مضت منذ زمان الإنقاذ و صار أمر محاربة الفساد موزعا بين لجنة محاربة التمكين و النيابة العامة و لم يتم إسترداد الأموال المنهوبة من القطط السمان خارج البلاد , و بذلك فقد فقدت خزينة الدولة أموالا بالمليارات بالعملة الصعبة و المحلية كانت سوف تساعد في خفض سعر العملات الصعبة مقابل الجنيه و في خفض التضخم .
5- لقد صار بنك السودان هو الآلية لتحديد سعر الصرف للعملات الصعبة مقابل الجنيه السوداني منذ تحرير قيمة الجنيه السوداني ليظل قريبا من سعره الموازي و لكن صارت الهوة بين السعرين في تزايد و عادت حملات القبض علي تجار العملة , و الحل يكون في تفعيل دور المغتربين ليرسلوا تحويلاتهم عبر القنوات الرسمية و تطبيق نظام الحوافز الذي كان معمولا به سابقا و تطويره و عقد مؤتمر للمغتربين لمناقشة ذلك . أيضا علي الحكومة أن تتولي أمر الإستيراد ليكون للضروريات فقط لا الكماليات.
6– لقد صارت أسعار السلع في الأسواق تتزايد في متوالية هندسية و صار السوق يعيش فوضى الأسعار و صارت الحكومة تعد بالتدخل لتحديد الأسعار و لكن تصدها موجة تحرير الأسعار و العمل بقانون العرض و الطلب و الذي لا ينفع العمل به مع تواجد نظام الإحتكار كما عندنا و بذلك لا بد من تدخل الحكومة كي تحمي المواطن المغلوب على أمره , فالزيادات الإحتكارية صارت تطال السلع المحلية و مواد البناء و المواصلات و الأراضي و الإيجارات و السيارات .
7– إن أولوية الصرف بعد الصحة و التعليم يجب أن تذهب لتشغيل المصانع المعطلة و المتوقفة عن العمل و التي يقارب عددها الألفين و خمسمائة مصنع و توفير قطع الغيار لها فهي تغطي السوق المحلية و تساهم في حيازة العملة الصعبة عن طريق التصدير.

badayomar@yahoo.com

 

آراء