كيف استخدمت أمريكا شيوعيي حركة التمرد في السودان؟ … بقلم: د. محمد وقيع الله

 


 

 

 
في أواسط ثمانينيات القرن الميلادي الماضي التقيت إمامنا الفكري المبجل الأستاذ محمد جلال كشك، قدس الله روحه، وسألته سؤالا سياسيا ذا جذر فكري يتعلق بحركة التمرد التي قادها في طور انبعاثها الثاني المدعو جون قرنق.
وكانت الحركة قد أعلنت ميثاقها العام في صيغته الماركسية الجارفة، وذلك بعد أن احتمت بقوات نظام الدرق الإثيوبي، في عهد الرئيس المخلوع منغستو هيلا مريم.
ولكن مع تعالي الصليل الماركسي، الذي انبعث من الميثاق المتطرف، واحتماء حركة التمرد بالنظام الإثيوبي المتطرف، فإنه لم تخف علينا اتصالات شيوعيي حركة التمرد المتطرفين بالولايات المتحدة الأمريكية، لاسيما عندما انضم إليهم رأس الشبهات المدعو منصور خالد مستشارا في الظاهر وأداة اتصال في الباطن.
سر اتصالات الشيوعيين بالأمريكيين:
فمن زمن طويل تولى زعيمنا الفكري محمد جلال كشك أمر توعيتنا، إذ نحن صغار في ميعة الصبا، ببعض أسرار لقاءات أقطاب الشيوعيين العرب بالمخابرات الأمريكية، والأسباب التي أدت بالشيوعيين العرب إلى الاتصال بالأمريكيين، أو دعت الأمريكيين إلى الاتصال بهم.
وقد اتخذ جلال كشك من حادثة كشف مجلة (نيوزويك) الأمريكية لإحدى وثائق وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية عن تلقي مجلة ( حوار) الماركسية اللبنانية لأموال منها برهانا، ضمن براهين أخرى أقوى، على اعتزام العدو الأمريكي على استخدام عدوه الماركسي لتقويض عدوهما معا، وهو مشروع البديل الحضاري الثقافي الإسلامي الواعد.
وقد ذكر جلال كشك في تعليله لتصرف الأمريكان الغريب على هذا النحو بأن أمريكا تدرك حدود قدراتها حيال العالم الإسلامي، وتدرك أنها لا تستطيع أن تجتاح العالم الإسلامي ثقافيا كما تجتاح أنحاء الدنيا الأخرى.
فللعالم الإسلامي ميراث ثقافي يحميه ويعصمه من الذوبان في البديل الثقافي الغربي.
ولذلك اتجه الأمريكيون إلى الاعتماد على الشيوعيين لتقويض الثقافة العربية الإسلامية المقاومة لإراداتهم الاقتحامية الباغية.
ولعل هذا هو سر اشتغال أكثر النخب الشيوعية في أيامنا هذه بأمور الثقافة والإعلام، وسيطرتهم على من المجلات الثقافية العربية كافة، وعلى أكثر صفحات الصحف الأدبية، من أجل نشر مواد ثقافية خبيثة تصادم الذوق الثقافي العربي الإسلامي وتنخر في الثوابت في الصميم.
والهدف كما يقول جلال كشك هو تقويض أقوى مصادر القوة التي تحمي المسلمين وتعينهم على الصمود.
ويعمد الأمريكيون إلى استخدام الشيوعيين ويطمئنون إليهم، لأنهم على ثقة بأن الشيوعيين لا مشروع لهم ولا مستقبل لهم لا في المنطقة الإسلامية ولا في غيرها.
فحالما أنهوا مهمتهم في تخريب الثقافة الإسلامية وهدمها تخلى الأمريكيون عنهم وانقضوا على العالم الإسلامي الذي دوخه المثقفون الشيوعيون.
وهذا الطرح الفكري التحليلي الذي قدمه جلال كشك والمستند نوعا ما إلى نظرية المؤامرة هو /ر مما ينفر منه أشباه المثقفين ومنه يجفلون.
ولكنا كنا وما زلنا نتبناه منذ أن اقتنعنا بصحته ونحن ما زلنا في السن الغضيض.
ولذلك فعندما التقيت بجلال كشك وأجريت معه لقاء صحفيا نشر منذ نحو ربع قرن، بصحيفة (الراية) سألته يتصل بنظريته تلك وقلت له:
طائرات إواكس في خدمة المتمردين:
كان لك فضل السبق في التنبيه والإشارة إلى ارتباط جون قرنق بالأمريكان، والقول بأن طائرات (إواكس) الأمريكية إنما تنقل أسرار الجيش السوداني للأحباش، وذلك من خلال مقالك ( دور يبحث عن بطل في السودان) في سنة 1984م.
ترى ما الذي يمكن أن تضيفه اليوم إلى هذا الأمر وقد تكشفت بعض أطراف تلك العلاقة التي سبق أن نبهت إليها؟
وأنقل الآن نص إجابته وأكثرها باللهجة الدارجة المصرية:
هذا الأمر هو أحد المواضيع التي أحب أن أتحدث عنها، وأحب أن أكشف هنا عن موقفي منها.
هنالك أساسيات ونحن العرب والمسلمين للأسف ما نعرفش الفرق بين الأساسيات والثانويات، والدائم والعارض. لا نعرف أن الوطن هو الأساس.
وفي كتابي (كلمتي للمغفلين) كنت في دفاع شديد عن الوحدة، وفي غضب شديد لأن عبد الناصر لم يذهب ويضرب الانفصاليين بالسلاح.
قد يبدو هذا غريبا أن يظن بعض الناس أنني أتمنى وقوع المصائب لعبد الناصر، لكن لا. الوطن أبقى.
لقد أدنت الانفصاليين السوريين بقدر ما أدنت عبد الناصر وأدنت الحركة الإسلامية في سوريا فهذا الذي يفاخر بدوره في الانفصال. لو كانت مصر وسوريا في وحدة، هل كان سيحدث ما حدث؟ لا يمكن.
كانت الأغلبية في مصر ستمنع وصول من لا  يمثلون الأقليات للحكم. وعبد الناصر حايموت والوطن قبل النظام، وأهم من النظام وأبقى بعد النظام.
والخطة الاستعمارية المعمولة لإفريقيا معروفة. وهي عزل إفريقيا العربية المسلمة وتطويقها وقطع كل الأطراف الناتئة منها، ومنها جنوب السودان.
وهذه رسالة ومهمة حياة عندهم. إن الجنوب لا بد أن ينفصل في تخطيطهم. وكذلك قطعة من شرق السودان، لا بد أن تضم إلى أثيوبيا.
 يريدون تمزيق السودان بين إفريقيا العربية وإفريقيا السوداء، وبين إفريقيا المسلمة، وإفريقيا الوثنية .
البوليساريو وجنوب السودان:
وهذا التمزيق تجده في قضية الصحراء في المغرب.
واليسار الذي تتحدث عنه، وعن رفضه لتقرير حق المصير للمجاهدين الأفغان، يقاتل من سبع سنين، لإعطاء حق تقرير المصير للبوليساريو.
هل في حاجة عربية اسمها البولوساريو ؟
 ده اسم عربي ؟
وده شعب عايز حق تقرير مصير؟
تعداده 37 ألف شخص، تصرف عليهم دولة وتستنزف قضيتهم ميزانية دولتين كاملتين؟!
إن الأمر كله محاولة لقطع جزء من أوصال المغرب. والمغرب هو امتداد من ناحية أخرى باتجاه إفريقيا السوداء. ولذا لا بد أن يمزقوه لأربع حتت.
وكثيرون يستفزون العنصر الزنجي حتى يكره العرب، والمسلمين، إنها مؤامرة واحدة.
لقد استطاع نميري بعلاقاته بالأمريكان مقابل بعض الأمور أن يأخذ هدنة في الجنوب وكفوا عن محاولة فصل الجنوب.
وهذا أحد الأسباب التي قلت من أجلها إن النميري خليه يلعب هذه اللعبة، وخلوه يحقق هذا الإنجاز، وهذا أمر أهم من أي حاجة تاني.
ولما اتجه النميري نحو الشريعة أخيرا نشطوا في الجنوب، وبدأت عملية الفصل وتشجعت الثورة الصليبية في الحبشة. هذه الثورة التي يسمونها ماركسية!!
وجورج بوش قال لزعماء الدول الإفريقية: يجب أن تؤيدوا الحبشة المسيحية ضد الزحف الإسلامي والخطر الإسلام، وهيلا مريام للأسف تلقاه واقف في وقت واحد مع عدن وإسرائيل وأمريكا في خط واحد ضد الخطر الإسلامي.
وكلهم أيدوه عندما احتل منطقة أوغادين لأنها مسلمة، مع أن الصومال مع أمريكا.
ولكن أمريكا تؤيد الصومال في داخل حدوده فقط، وليس في علاقاته الدولية.
وكلهم واقفون ضد إريتريا لأنها مسلمة.
وأنا أخشى أن ينجح مخطط فك السودان إلى ست أو سبع دول، لإنهاء الإسلام.
وهذا المخطط بدأ منذ أن فشلت فكرة الوحدة مع مصر، لأنه لو كان مع مصر لكانت الأغلبية العربية المسلمة تدحض هذه المؤامرات.
الهدف هو إنهاء تعايش العرب والأفارقة:
والعنصر العربي المسلم يعيش في أفضل ظروف بلا حساسيات تجاه العنصر الزنجي مسلما كان أو مسيحياً أو وثنيا، هذه سمة الحضارة الإسلامية.
ولكن الحضارة الغربية ترى أن الإنسان الزنجي مجرد خامة وأنه لا بد أن ينصر، والمبشرون يستخدمونه فقط لأسباب سياسية، أما الإسلام فهو دين مستوطن، في إفريقيا والمسيحيون متعايشون معه، وعندك مثال جوزيف لاغو في السودان ، وقيل أن أباه مسلم مثلا.
ومؤدى كلام جلال كشك في خاتمته أن الحضارة الغربية تغار من تصالح الجنسين العربي والإفريقي، لاسيما في نموذجه السوداني الأمثل، ولذلك تصر على فصل جنوب السودان عن الشمال، حتى لا يصبح جنوب السودان منفذا إلى انتشار الإسلام في جنوب الصحراء الإفريقية.
وهذا الهدف الغربي المريب الذي كشف عنه جلال كشك من وقت بعيد، أماط اللثام عنه من وقت قريب، مسؤول أمريكي كبير، وهو المدعو أندرو ناتسيوس، المبعوث الرئاسي الأمريكي السابق إلى السودان الذي طالب من أجل تحقيق هذا الهدف بما هو أكثر من الانفصال، فألح على ضرورة إنشاء منطقة عازلة بين الجانبين, الشمال والجنوب, في مساحة أربعين كيلومترا, عشرون منها داخل حدود الشمال, ومثلها داخل حدود الجنوب, تكون منزوعة السلاح, ويشرف عليها خبراء غربيون، تكون مهمتهم نصرة المتمردين الجنوبيين، وإعانتهم في عدوانهم القادم على الشمال المسلم.

(waqialla1234@yahoo.com)

 

آراء