تناولنا في الحلقة الثالثة، المستلة من كتابي الموسوم بــــــ "العُمْدَة أحمد عُمَر كمْبَال (1915-1995م) ملامح من تاريخ كُورتي وشذرات من سيرة الرَجُل"،تاريخ كورتي في العهد السناري (1504-1821م)، وأوضحنا أنَّ منطقة كُورتي لم يكن لها تاريخ مدون عن واقعها السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي بصفة منفردة، بل يأتي ذكرها في ثنايا تاريخ المنطقة وصراعاتها العاصفة؛ لأنها كانت تمثل جسر عبور لتلك الصراعات، وذلك بحكم وضعها الحدودي الواقع على مشارف ممالك الشايقية في الجنوب. وفي هذه الحلقة الرابعة نلقي الضوء على تاريخ كورتي في العهد التركي-المصري (1820-1885م)، وهي أكثر الفترات المثيرة للجدل، والتي تطرح علامات استفهام كبرى نحاول الإجابة عن بعضها في هذا الحلقة؟ لماذا حدثت معركة كورتي (أم بقر) في منطقة البديرية في وقت أن الشايقية هم الذين قادوا زمام المعركة وناصبوا الغزاة العداء، وقادة البديرية كانوا مناصرين للغزو التركي؟ ولماذا أعلنت قيادات الشايقية مناصرتها للغزو التركي بعد معركة كورتي؟ وما طبيعة المكافآت المادية والمعنوية التي حصل الشايقية عليها مقابل ذلك؟ وهل كانت قبيلة الشايقية عن بكرة أبيها مناصرة للتركية السابقة؟ أم كانت هذه المناصرة محصورة في عدد من القيادات الاجتماعية والمجموعات التابعة لها؟ ولماذا وقف الشايقية ضد التركية وناصروا الشيخ الهدي السورابي، ممثل المهدية في إقليم دنقلا؟
كُورتي في العهد التركي المصري (1820-1885)
عندما أحكم محمد علي باشا (ت. 1849م) قبضته على مصر، قرر توسيع حدوده جنوباً، وذلك لتأمين نفوذه من خطر أعدائه المماليك الذين فرّوا إلى منطقة دُنْقُلا، واستغلال ثروات السُّودان الطبيعة لصالح سياساته التحديثية في مصر، واكتشاف منابع النيل لضمان استمرارية تدفقه في الدلتا، فضلاً عن رغبته في تجنيد السُّودانيين في قواته العسكرية الحديثة. وبناءً على هذه الأسباب أرسل الباشا جيشاً بقيادة ابنه إسماعيل باشا، يتكون من 1200 فارس من الأرناؤوط والمغاربة والأتراك، بقيادة أحمد عابدي بك، والحاج عمر، وعمر كاشف، ومع كلٍّ منهم 400 فارس؛ و800 من المشاة البدو المغاربة، و600 من المشاة الأتراك، و300 من المشاة الطوبجية ومعهم 24 مدفع نمرة 4 بقيادة محمد أغا، و700 من المشاة العبابدة بقيادة خليل وداؤد كاشف. وصحب الحملة نحو 2000 تابع، منهم 20 مملوكاً حرساً خاصاً لإسماعيل باشا، و3000 جمل، و3000 مركب لحمل الزاد والمؤن العسكرية. وصحب الحملة ثلاثة من العلماء، وهم القاضي محمد الأسيوطي الشافعي، والشيخ أحمد البقلي الشافعي، والشيخ أحمد السلاوي المغربي المالكي. وعندما وصلت أخبار هذا التحرك إلى إقليم دُنْقُلا كانت مشاعر الناس متناقضة، فأهل الممالك الواقعة شمال منطقة الشايقية كانوا في وضع ضعيف لا يؤهل لمواجهة القوات الغازية، وأبدى بعضهم نوعاً من التعاطف تجاه الحملة الغازية، بحجة أنها ربما تخلق استقراراً نسبياً في المنطقة، وتحدُّ في الوقت نفسه من تهديدات الشايقية للممالك المجاورة لهم. وتبلور ذلك الموقف في التأييد الذي حُظيت به الحملة من أعيان المنطقة، أمثال الشيخ ناصر بن حمور قيلا بن ناصر الذي قدَّم خدمات جليلة، ومساعدات كثيرة للجيش الغازي؛ لدرجة أقنعت إسماعيل باشا بأن يعيّنه كاشفاً على المنطقة، ويمنحه لقب أغا؛ وكذلك الشيخ أحمد أغا محمد فرح الفونجاوي الذي كان حاكماً على منطقة جزيرة حمور والعفاض، فعيّنه الأتراك كاشفاً، ومنحوه لقب أغا. ويبدو أن تلك المواقف المناصرة لإسماعيل باشا قد أقنعت بقية الملوك والأعيان في المنطقة، وحثتهم على الانضمام لقوات الباشا إسماعيل.
أما الشايقية فكانوا في حيرة من أمرهم، متنازعين بين التأييد والمعارضة، فقد حاولوا في بادئ الأمر التنسيق مع ملوك الجعليين والعبدلاب لإعداد خطَّة دفاعية، لكنهم رفضوا التعاون معهم، بل إنَّ بعضهم استبشر خيراً بقدوم الأتراك؛ لينصروهم على خصومهم الشايقية، فضلاً عن أن "الأتـراك بثوا البشرى في البلد بأنهم قادمون؛ لتخليص الناس من [ظلم] الشايقية."
ويقول الرحالة وادنجتون الذي كان مرافقاً للحملة: عندما وصل الباشا التركي إلى دُنْقُلا، أصدر أوامره إلى الشايقية بأن يعلنوا الخضوع لسلطان محمد علي باشا، فأبدوا الرغبة في أن ينصرفوا إلى زراعتهم، ويدفعوا له الجزية؛ إلا أن الباشا طلب منهم أن يثبتوا حسن نيتهم بتسليم أسلحتهم وخيولهم إليه، فأعادوا عليه قولتهم الأولى، فأجابهم الباشا بأن أباه قد أمره أن ينشئ منهم شعباً فالحاً للأرض لا محارباً، وجدد الطلب إليهم بتسليم أسلحتهم وخيولهم.
وكانت استجابتهم رافضةً لذلك الطلب المذلّ، وبعدها بدأت المناوشات بين الأتراك والشايقية، حيث بدأت بالقرب من دُنْقُلا العجوز عندما هاجم الشايقية بعضفصائل الجيش الغازي، وقتلوا خمسة وسبعين جندياً من العساكر الألبان. ومن دُنْقُلا العجوز تقدَّمت جيوش إسماعيل بمحاذاة الضفة الغربية للنيل إلى أن وصلت مشارف مدينة كُورتي دون مقاومة تذكر، بل على الأرجح أيَّدها ملوك وأعيان المناطق التي مرَّت بها، تصفيةً لخصوماتهم السياسية مع الشايقية. ويصوِّر لنا مشاهد تلك الواقعة الرحالة الفرنسي كايو نقلاً عن أحمد عابدي كاشف ثاني قواد الحملة، قائلاً: بأن الصدام الحقيقي وقع بالقرب من كُورتي، وانتهت المعركة بهزيمة الشايقية، الذين كانت في صفوفهم فتاة، تدعي مهيرة بت الشيخ عبود، شيخ السوراب، تركب جملاً مزداناً بالحلي، وتنشد أغاني حماسية، مصحوبة بزغاريد النساء، فيندفع الشايقية إلى ساحة الوغى بشجاعة مدهشة، وحماس منقطع النظير.
ولذلك ارتبطت تلك الواقعة من حيث المكان بمنطقة كُورتي (حلة أم بقر)، ومن حيث التوجيه المعنوي بالدور الرائد الذي قامت به الفارسة مهيرة بنت الملك عبود، ناسجة ملحمة شعرية للحدث، يُنسب بعضها إليها، وبعضها إلى خيال حُداة التراث الشعبي. وتبدأ تلك الملحمة الشعرية بتصوير الروح القتالية للشايقية، وهم في مجلس حربهم السابق لاندلاع المعركة، ويتوسطهم عقيد الخيل، الذي كان مهموماً بإعداد الخطة الأخيرة للمواجهة، أو الانسحاب، وهنا يصدح صوت الفارسة مهيرة بت عبود:
الليلي العقيد شوفِنّه مِتمــسكِنْ
وفي قلب التُّراب شوفِنّه متجكٍّنْ الرأي فارقه لا بشفي لا يــمكِنْ
ما تتعجبن ضيم الرجال يمكــِنْ
خلوكن براكن الليلة وَحَّدْكِــنْ
بِتَمْشــِن تحـــاربِنْ والله بِتــبكِنْ
*****
وبهذا النداء الاستفزازي جعلت مهيرة خيار الحرب هو الخيار الراجح، ودفعت فرسان الشايقية لمواجهة عسكرية غير محسوبة العواقب، مصورةً ذلك المشهد بقولها الحماسي الشاحذ للهمم:
غنيت بالعديلة لي عيال شايق
البفشوا الغبينة ويلحقوا الضّايق
****
الليلة اسْتعَدُّوا ورِكبوا خيل الكَرْ
وقِدّامُن عقيدُن بــالأغــر دفـــّرْ
جنياتنا الأسود الــــليـــلة تتنبَّرْ
يالباشا الغشيم قول لي جدادك كَرْ
****
حسَّان بي حَديدُه الليله اتلثَّمْ الدابي الكَمَن في جُحره شمّ الدّمْ
مأمون يا الملك بُّقّة عقود السمْ فرساناً بِكيلو العين بِفِرجو الهَمْ
وأخيراً أثبتت معركة كُورتي تفوق السلاح الناري على السلاح الأبيض، وتفوق الجنود النظاميين على الشايقية الذين واجهوا العدو في شجاعة منقطعة النظير، وكانت ضحاياهم تُقدر بستمائة قتيل وجريح، معظمهم من النوبيين المحاربين المشاة الذين أسرهم الشايقية في غاراتهم المتكررة على دُنْقُلا، وأطلق الباشا إسماعيل سراح مَنْ بقي منهم على قيد الحياة، وأعادهم إلى قراهم. وأجمع المراقبون الأجانب الذين رافقوا الحملة بأن الشايقية واجهوا العدو بشجاعة لا مثيل لها، "تبعث على الدهشة" على حد قول الضابط الأمريكي أنجليش الذي رافق جنود المدفعية التركية، ويؤكد ذلك الرحالة وادنجتون الذي وصف الشايقية "بأن لهم في الهجوم جرأة نادرة لا نظير لها [...] لا يهابون الموت، بل يرون فيه راحة لأبدانهم." ؛ إلا أن نهاية المعركة كانت وابلاً عليهم وعلى جيرانهم، حيث شهدت منطقة الشايقية، حسب رواية كايو: "الخراب والحرائق، وارتكب الغزاة صنوفاً مروعة من الوحشية والفظاعة ضدَّ أعدائهم الذين قاوموهم في شهامة وبسالة". وبعد واقعة كُورتي ظل إسماعيل باشا معسكراً بجيشه في المدينة قرابة أربعة أشهر (4 نوفمبر 1820م- 21 فبراير 1821م)، وبعد أن تحركت فصائل جيشه جنوباً عن طريق البحر والبر أبقى مائة وعشرين مركباً بشواطئ كُورتي، نسبة لكبر حجمها، وصعوبة إبحارها في مناطق الشلالات، وأوكل أمر حمايتها لنفر من العساكر المغاربة.
تذكر الروايات المتداولة أن صفية بنت الملك صبير وقعت في أسر إسماعيل؛ إلا أن الباشا "أكرمها، وألبسها أفخر الثياب، وردَّها إلى أبيها معزَّزة مكرمة"، ولما رأى الملك صبير كبير الحنكاب منه ذلك الصنيع الحسن أتاه مُسَلِّماً، وسلَّم بعده الملك عمر كبير العامراب. أما شاويش زعيم العدلاناب، فقد رفض التسليم والهدنة، وسار بجيشه ناحية الجنوب الشرقي حتى وصل شندي، محاولاً عقد حلف مع المك نمر، ولكنه لم يفلح في تحقيق ذلك المسعى. وسار بعد ذلك جنوباً إلى الحلفايا، محاولاً إقناع العبدلاب، ولكن باءت جهوده بالفشل، وأجبرته على التسليم في 15 مايو 1821م، وذلك بعد توسط بعض شيوخ العرب، والفقيه محمد صالح بن حمد العراقي بينه والباشا. وأخيراً نتج عن ذلك الصلح استقطاب إسماعيل باشا للشايقية المعارضين، وحثَّهم على مساعدته في تأسيس ملكه في السُّودان، وبعد أن تنازل عن مصادرة خيلهم وأسلحتهم. وبناءً على ذلك تمَّ تعيين الملك شاويش على رأس مائة وأربعين فارساً، والشيخ أحمد عبود على رأس خمسين فارساً، والشيخ الإزيرق على رأس خمسين فارساً، والشيخ محمد خير أبوشامة على رأس قوة من الباشبوزق، وخُصَّصَتْ لهم مرتبات من الدولة، وصاروا ضمن قوات الباشا المُتَوجِّهة صوب سنار وملحقاتها التي لم تقع في قبضة الأتراك آنذاك. وقد وصف بعض مشاهد معركة كُورتي الشاعر الدكتور محمد بادي العكودابي، الذي كان واحداً من ضحايا التشتت الذي فرضته التركية على أهالي المنطقة، قائلاً:
جماجِم كُورتي فــوق رأس الجبل بتشابي ما عِــرْفَت رُقادْ
وكل عضُــم شِرِب من دمُّوا بتق حسبة من خِيرة الوِلادْ
لهيب الشوق على الجنيات مع التّركاوي يـــــوم هَبَر الزِّنادْ
البارود عبق بَرَقـَـنْ سِيـُوف العِّـــزَّة والــــدّق كان سَــدَادْ
فتحو المدافع والدخانين اترخت شربت جبال كُورتي السواد
مرقـــت مــهــــيرة مع الصــّبَاح تــشبه شَمِشْ يـــوم المــَعادْ
نضمت حديث اتباشروبوا أخوانها حالاً شَبُّو فوق سرج الجياد
غَلَي فيهم الدّم القديم والصّيحة جات الله أكبر ويا جِــهادْ
نقر النحاس والخيل صهيلن سمَّع الناس البعاد
دفر بني العباس درق سودانا كانو زمان فوق سدر البلاد
العِزّة فيــهم مالا حــدْ والحــربة تهرِد في حشــا التُّرك القُلادْ
رقصت خيولُنْ فوق لهيب النّار وصاح الباشا قال: ماهُنْ شُدادْ
شاقوني يوم جلبوا النفوس والموت شراهم جُملة مانْخَبَرْ العِدادْ
شاقوني يوم كتبو التواريخ بالدّم العبّاسي وآ مأساتي أكتب في التواريخ بالمدادْ
وبهذه الكيفية سجلت معركة كُورتي تاريخاً حافلاً بالبطولات بالنسبة للشايقية، ولكنها في الوقت نفسه شتت شمل بعضهم في قُرى الجزيرة، والحلفاية، والعيلفون، ومنطقة جنوب شندي، وتركت في نفوس الذين آثروا البقاء في وطنهم الأصل جرحاً لا يندمل تجاه الحكومة التركية السابقة، التي "أجبرتهم على أنّ يتخلوا عن خيلهم للغرباء، وأنّ يستبدلوا رماحهم بزحافات لتسوية الأرض المزروعة، ومقاصب لتشذيب الشجر، وأرغموا على أنّ يسوقوا الثور في الساقية، بعد أنّ كانوا يطاردون العدو عبر الصحراء، [...] لقد قُضي عليهم أنّ ينحدروا إلى العبودية دفعة واحدة، بعد أنّ كانواأحراراً، بل طغاة جبارين". ولكنهم كظموا غيظهم إلى أن سنحت الفرصة لهم بظهور الشيخ الهِدَيْ السورابي، الذي رفع لواء المهدية ضدَّ مصطفى ياور، حاكم دُنْقُلا، وناصره الشايقية؛ لتصفية حساباتهم السياسية مع الأتراك.