لاهوت الملحد النبيل

 


 

 




قراءة في كتاب: نبوة محمد التاريخ والصناعة للدكتور محمد محمود

Kha_daf@Yahoo.com

بعدت الشقة بيني وبين الأرق الفكري أعواما سوالف، ولكن أعادني كتاب "نبوة محمد التاريخ والصناعة" والذي صدر حديثا للدكتور محمد محمود أستاذ الأديان المقارنة بالجامعات البريطانية الي حظيرة الرهق الثقافي مجددا، وذلك لأنه أختط نهجا صادما في إنكار نبوة محمد صلي الله عليه وسلم، وذلك بدعوي نزع القداسة عن الدين حتي يخضع لمناهج النظر العقلي والنقدي، ولكن ظل حراس العقيدة وممثلو النخب الإسلامية حسب زعم الكاتب  يمانعون ويتصدون لمثل هذه الدعوات بالخنق والتكفير مما أدي الي تعميق أزمة التخلف وتأخير شروط النهضة والإصلاح ، وقد أسهم ذلك في تعويق جهود الحرية الفكرية والأكاديمية في العالم الإسلامي. وذلك بعكس التجربة الغربية حيث أنفتح الكسب الديني فيها بفشو حركة الإستنارة والعقلانية الي مباضع الفكر النقدي بعيدا عن هالات القداسة وتمائم الحماية الإلهية. ويعتبر الدكتور محمد محمود أن كتابه هو إمتداد لمشروع العقلانية التاريخي في العالم العربي والإسلامي،وأنه دون القبول بحرية الفكر النقدي للدين الإسلامي لا تستطيع هذه المجتمعات الخروج من وهدة التخلف والخمول والمساهمة في حركة الحضارة الإنسانية. اختط الكاتب نهجا علميا مرنا حيث لم يشحذ مادة الكتاب بحذلقات ونظريات أكاديمية معقدة ، بل أعتمد علي مرويات التاريخ الإسلامي، من أمهات مصادرها، هذا إضافة الي القرآن الكريم وكتاب صحيح البخاري، وأعتمد علي حشد مكثف من الإقتباسات القرآنية و الأحاديث النبوية وكذلك اخبار و مرويات كتب السير والمغازي.
والكتاب من حيث موضوع دراسته وبحثه لا يعتبر جديدا البتة، وهو أشبه ما يكون ببيع الخمر القديم في قناني جديدة. إذ سلخ كثيرون جزءا كبيرا من أعمارهم يحاولون ترسيخ منهج نقد الأديان ونزع القداسة عن الدين من أجل الإنتصار للمنهح العقلي ودرسات التاريخ الحديث ففشلوا ، حيث قوبلت هذه الإتجاهات بمقاومة علمية قوية تصدي لها نخبة من العلماء بدعوي أن هذا النهج هو هدم صريح للإسلام، ونشط من هؤلاء محمود محمد شاكر والعقاد وغيرهما. ولعل كتاب "أصول الحكم" للشيخ علي عبدالرازق، وكتاب الدكتور طه حسين في "الشعر الجاهلي" من العلامات المبكرة في هذا المسار خاصة عندما أكد أن القرآن لا يعتبر حجة في رواية الحوادث التاريخية إذا تعارضت مع مناهج النقد التاريخي الحديثة، مدللا علي ذلك بهجرة سيدنا إبراهيم وإسماعيل الي مكة، وأضطر بعد معركة صاخبة الي الإعتذار وإعادة طباعة الكتاب تحت عنوان في "الأدب الجاهلي" بعد أن نسخ منه مواضع الجدل والخلاف. وترد في السياق ضمن منعطفات العصر الحديث مساهمات الدكتور محمد أركون، و د. سيد القمني وفرج فودة والراحلان الدكتور جمال البنا والدكتور نصر حامد أبوزيد الذين نادوا بنزع القداسة عن الدين واخضاعه لمناهج النظر العقلي. وتوسع د. أبوزيد الذي تم تكفيره والحكم بالتفريق بينه وبين زوجته عندما تقدم عام 1992 بطلب ترقية لدرجة الإستاذية بجامعة القاهرة مقدما اسهاماته الفكرية وهي كتابه "الأمام الشافعي وتأسيس الإيدلوجية الوسطية" و "نقد الخطاب الديني" وغيرهما، حيث زعم أن القرآن نص تاريخي ، وهو في هذا المجال يؤكد أنه لا يمكن الفصل بين القرآن أو النصوص الدينية وبين محمولاتها العروبية في سياقها الإجتماعي والثقافي . وزعمت اللجنة العلمية برئاسة د. عبدالصبور شاهين أن د. نصر حامد أبوزيد دعا أولا "إلى الثورة الفورية على القرآن والسنة، لأنها كما قال: نصوص دينية تكبل الإنسان وتلغي فعاليته وتهدد خبرته، ويدعو إلى التحرر من سلطة النصوص، بل من كل سلطة تعوق مسيرة التنمية في عالمنا.ثانياً: يقول على القرآن إنه منتج ثقافي تشكل على مدى 23 عاماً، وإنه ينتمي إلى ثقافة البشر، وأن القرآن هو الذي سمى نفسه، وهو بهذا ينتسب إلى الثقافة التي تشكل منها.ثالثاً: قرر أبوزيد بتفكيره الخاص أن الإسلام دين عربي، وأنه كدين ليس له مفهوم موضوعي محدد.رابعاً: هاجم في أبحاثه علم الغيب، فجعل العقل المؤمن بالغيب هو عقل غارق بالخرافة والأسطورة، مع أن الغيب أساس الإيمان".. وقد هاجم دعاة العلمانية هذا التقرير الذي وسموه بأنه تكريس لما اسموه مشنقة الفكرالحر في العالم العربي.
والسؤال الذي يثور في هذا الإستعراض: هل يعتبر كتاب" نبوة محمد التاريخ والصناعة"، إمتدادا لهذه المدرسة التي يري البعض أنها إحياءا لنهج بن رشد أو المعتزلة في التأويل العقلي للنص الديني ليتماشي مع روح العصر، وفي المقابل يراها البعض بأنها مروق صريح من الإسلام. والإجابة في ظني "لا" مع توكيد النفي القطعي، لأن هؤلاء حاولوا تأويل النص الديني من داخل سياقه العقدي والمعرفي، أما د. محمد محمود فإنه ينكر قطعا لا ظنا في كتابه المذكور النبوة،والدين والإله ويردها الي أنها صناعة بشرية محضة. ولعل أهم إختلاف بين هذا الكتاب وإسهام المحدثين من الداعين الي التأويل العقلي هو أن د. محمد محمود لم يشتغل بالدراسات القرآنية بل جعل السيرة النبوية هي مادة دراسته متتبعا مراحل النبوة منذ الإرهاصات الأولي الي موته وإنتقاله الي الرفيق الأعلي  صلي الله عليه وسلم.
وخطورة هذا الكتاب الذي نحن بصدده أنه يصدر من رؤية لا دينية إلحادية لا تؤمن بالنبوة أو الكتاب أو الله، وهو بذلك يتجاوز كل هذا التراث المنشور المنادي بنزع القداسة عن الدين وأخضاعه لشروط النظر العقلي المجرد وتعداه  بالدعوة الي نسف نظرية النبوة الدينية لأنها صنعت الإله في خيالها المحض وأعتقلت العقل وصنعت واقعا من التشوه والإنقسام الأخلاقي، ويزعم أنه لا يمكن معالجة هذه التشوهات إلا بتحرير الناس من عبء هذه الصناعة وتشوهاتها. وهو بهذا الزعم ينتج لاهوتا تحرريا بديلا لحمته وسداه العقل وليس الله أو النبي. والدكتور محمد محمود في كتابه هذا لا يدعي أيمانا أو انتماءا دينيا يقاضي ويحاسب عليه كما كان حال الدكتور الراحل نصر حامد أبوزيد حين صدر الأمر القضائي بردته ، أي أن رؤيته لا تنطلق من داخل الفضاء الإسلامي كما فعل طه حسين من قبل، بل هو يصدر من رؤية نقدية لا مكان للدين فيها و يسعي في فكره النظري لقتل النبوة في ذاكرة الناس وتراثهم حتي يتخلصوا من عبئها وتشوهاتها حسب زعمه.
ورغم جرأة الكاتب في ابتدار مثل هذه الدراسة للقارئ الإسلامي والعربي حسب زعمه لتحريره من خرافة النبوة، إلا أنه يفتقد المصداقية الفكرية حيث لا يرد جوهر أفكاره الأساسية في الكتاب الي مصادرها الأصلية. ويفتقد في اسهامه النظري الذي نحن بصدد مراجعته وتفنيده حس الأصالة الفكرية ORGINALITY ويفشل في رد بضاعته الي مصدرها الإستشراقي. وقد أعتمد الكاتب في ظني علي تراث المستشرق البريطاني مونتقمري وات Montgomery Watt في كتابيه "محمد في مكة"Mohamed at Mecca  الصادر عام 1957 وكتابه الثاني "محمد في المدينة"  Mohamed at Medinaالذي استكمل به مشروعه النظري في تحليل الوقائع التاريخية لحقبة الرسالة المحمدية واخضاعها لمناهج النقد التاريخي. وكتاب واط تم تأليفه للمؤرخين وقال أنه ألفه ليضع الأحداث الخاصة بالفترة النبوية وفق سياقها التاريخي.وأستخدم واط مناهج النقد التاريخي في مقارنة الروايات، وكما قال الدكتور عماد الدين خليل أستاذ التاريخ الإسلامي المشهور أن مونتقمري واط والمستشرقين شككوا في كل شئ من أجل نزع الشرعية الدينية عن الإسلام، ولو وجدوا طريقة أخري لشككوا في وجود محمد "ص" التاريخي ولقالوا اخترعه الخيال الشعبي. والكتاب يشير في بعض مواضعه الي عوالق الإتهامات الماضية والشبهات الصادرة من المستشرقين التي رمت الرسول صلي الله عليه وسلم بكل منقصة لعامل الصدام التاريخي بين المسيحية والإسلام، وخير نموذج لهذه الإتهامات والتي استل الكاتب بعضها هي قول توماس كارليل Thomas Carlyle قبل مئات السنين في محاضرته المشهورة عن البطولة أن الرسول صلي الله عليه وسلم هو رجل محتال تمحل بالتعاليم الدينية التي يعلم كذبها من أجل تحقيق طموحاته الشخصية. وكما قال مونتقمري واط إن هذا الحكم للأسف صدقه وجري علي لسان العديد من دارسي التاريخ الإسلامي دون التحقق منه صحته بأدلة ملموسة.الجدير بالذكر أن بعض السودانيين درس تحت اشراف مونتقمري واط بأدنبره منهم البوفيسور عبدالرحيم علي الذي أعد رسالة الدكتوراة عن البنية الجمالية في الآية القرآنية ليؤكد أن بنية الآية القرآنية تتسق فيها البلاغة مع المعني وليس مجرد حشو وسجع لفظي، وقد ترجم فصل من هذه الرسالة ونشرت قبل سنوات خلون بالخرطوم.
ومن الشبهات والإتهامات التي أثارها هؤلاء وتجد لها أثرا في الكتاب هي أن الرسول صلي الله عليه وسلم مخادع وحسي ويستدلون بحربه في الأشهر الحرم وزواجه من زينب بنت جحش.هذا رغم أن القرآن قد أنزل آيات في هذا الصدد أحلت له الزواج من زوجة أدعيائه بعد أن قضي منها زيدا وطرا وطلقها. وقد كان مونتقمري واط أكثر إنصافا من الدكتور محمد محمود عندما قال: كيف نحكم علي فعل الرسول صلي الله عليه وسلم هل بمعايير العقلانية السائدة في الغرب الآن أم بمقاييس عصره آنذاك. وقال إن مقاييس عصره لم تجرمه أو تنتقده إلا في القليل الذي لا يذكر. وتجد أصداء إدعاءات د. محمد محمود في اتهامات المستشرقين التاريخية في أنه صلي الله عليه وسلم مال الي العنف والقهر واستخدام السيف بعد الهجرة للمدينة.
ولعل الفكرة الجوهرية للكتاب كما سنوضح لاحقا هي أن نبوة الرسول "ص" ما هي إلا خيال أبداعي، وبما أن النبوة صناعة فأنها أحدثت أو صنعت الإله حسب زعم الكاتب. ويبلغ التمحل من الكاتب ذروته عندما لا يرد هذا الزعم الي أساسه في الثيولوجيا المسيحية. وهو كما ذكرنا لا يقول بأن مؤلفات المستشرق مونتقمري واط هي مصدر فكرته الأساسية أخذها منه دون أن يشير الي ذلك، كما أستمد منه حتي منهجه في سوق الإتهامات وتطبيق مناهج النظر التاريخي. وللإستدلال علي ذلك يقول واط:
Was Muhammad a prophet ? He was a man in whom creative imagination worked at deep levels and produced ideas relevant to the central questions of human existence
إن رد نبوة الرسول صلي عليه الي الخيال الخلاق creative imagination وحده كما ذكر مونتقمري واط، وسايره في زعمه د. محمد محمود دون أن يشير الي ذلك - مما يقدح في مصداقيته الفكرية والأكاديمية- ، لا يقدم تفسيرا متكاملا لتعقيدات ظاهرة النبوة. وفي ذات السياق أخذ د. محمد محمود من كتاب Prophet Mohamed. A biography  للكاتب الفرنسي برانبي روجرسون الذي ألف الكتاب بالفرنسية عام 1960 وتمت ترجمته للغة الإنجليزية عام 1971. ويعترف برانبي أنه أعتمد علي كتابي واط عن محمد في مكة، ومحمد في المدينة. وألتمس في مقدمة كتابه ألا يساء فهم مراده في هذه الدراسة التاريخية لأنها تحفل بنظرات وآراء نقدية متحفزة وغير سائدة في العالم الإسلامي. ويتفوق واط علي محمد محمود وهو يحاول أن يبرز عظمة إنجاز النبوة المحمدية التي ردها لثلاث عوامل وهي أولا: أن الرسول صلي الله عليه وسلم كرائي استطاع أن ينظم أطارا عاما من المبادئ والأفكار عمل من خلالها  لنزع عمليات التوتر الإجتماعية والصراعات القبلية التي كانت سائدة ونجح في خلق مجتمع متضامن ومستقر.ثانيا: حكمته وقيادته كرجل دولة من الطراز الأول. ثالثا: مهاراته الإدارية الخارقة، وقدرته صلي الله عليه وسلم في اختيار معاونيه من الصحابة وتقسيم المسئوليات بينهم.
ونهج الكتاب وميسمه الفكري تتردد فيه أصداء من الماركسية التي تري الدين ما هو إلا اختراع بشري انتجته طبقة الملاك والبرجوازيين لقهر العمال وطبقة البوليتاريا، وعليه فهي جزء من تفسير إيدلوجية الصراع الطبقي ولعل عبارة ماركس المشهورة تدلل علي ذلك وفق هذا الإقتباس:
"Religious suffering is, at one and the same time, the expression of real suffering and a protest against real suffering. Religion is the sigh of the oppressed creature, the heart of a heartless world, and the soul of soulless conditions. It is the opium of the people. The abolition of religion as the illusory happiness of the people is the demand for their real happiness
اضافة الي الغلالة الماركسية، يكتسي الكتاب بتأثر فكري واضح لمنهج الإستاذ محمود محمد طه حيث يرد الكاتب أن سبب نجاح صناعة نبوة محمد "ص" هو الإنتقال من آيات الإسماح في مكة الي آيات السيف بعد الهجرة الي يثرب. مما أدي الي استخدام العنف وإراقة الدماء لقهر المخالفين وفرض الإسلام بالقوة. وهو لا يتبني دعوة الأستاذ محمود بتثبيت آيات الأصول ونسخ آيات الفروع حتي يعود الإسلام متسامحا ومتسقا مع دعوي الإنسانية وحقوقها وذلك لأن د. محمد محمود لا يؤمن في نظرته الكونية بالدين والنبوة والخالق.
ينطلق الكتاب من فكرة مركزية مؤداها أن النبوة هي إختراع بشري وظاهرة إنسانية، وأن الله أو الإله لا يوجد البتة- تعالي الله عما يصفون- إلا في خيال النبي الذي صنعه. ولكن الكتاب يقرر أن النبوة بوحي من خيالها المطلق وتفاعلها مع المجتمع هي التي تصنع الإله، ووفق هذا الإفتراض فإن النبي "صلي الله عليه وسلم" ليس نبيا أو مرسلا من قبل الله، بل قام عليه السلام بإخترع هذه الظاهرة وإدعاء النبوة، وتقوم النبوة تلقائيا بصنع إلهها وإختراع فكرة الله – تعالي الله عما يصفون- وبالتالي تنعدم عقيدة الإصطفاء السائدة في كل الأديان بما فيها الدين الإسلامي، إذ أن الله لا يصطفي الرسل من بين البشر. وكل ذلك وفق ما أسماه خيال النبوة.وحسب هذا الزعم الفاسد فإن النبوة ليست محض نشاط فردي فحسب بل تتضمن نشاطا إجتماعيا من قبل المؤمنين بالنبوة وبالتالي يتداخل نشاط الفرد الذي يدعي النبوة مع نشاط المجتمع الذي يحيط به. ويمتد خيال النبي فيصنع مجتمع المؤمنين،ويترتب علي ذلك في أن يقوم خيال هذا المجتمع في علاقة تبادلية في تعزيز وتثبيت ونشر النبوة. ويزعم الكاتب أن نبوة الرسول صلي الله عليه وسلم لم تكن مجرد خيال خلاق بل صنعت لنفسها مؤسسة ذات دور سياسي وإقتصادي وتشريعي. ويتوسل الكاتب لتبرير هذا الزعم الذي يجافي المنطق والعقل والحس السليم لتقسيم الكتاب الي خمس أبواب دراسية هي: البيئة والصعود، والمعارضة والرسالة والصناعة، وذلك عبر ثلاثة عشر فصلا.
أعتمد الكاتب علي في مجال السيرة علي بن هشام، والواقدي وطبقات بن سعد. وفي التفسير إعتمد علي الطبري والزمخشري والرازي، ولكن سرعان ما يكتشف القاري المتفحص أن الكاتب ينتقي النصوص والإقتباسات من هذه المصادر ويعتمد كثيرا علي روايات الإخباريين ويميل الي مناطحة النصوص ببعصها البعض، وتوليد الجدل، مركزا علي المطاعن الواردة في هذه الروايات. إن الكتب التي أعتمد عليها الكاتب كما ذكر كثيرون كتب أقدمها بعد 150 عاما بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم. وبالتالي فقد وقع الكاتب في خلط منهجي واضح لأنه يقيم وزنا نوعيا لروايات الإخباريين أكثر من آيات القرآن الكريم لأنها تخدم أغراض بحثه للتشكيك في مشروعية النبوة وتأكيد صناعتها البشرية.
ولعل أول ما يبدأ به الكاتب لتأكيد فرضيته الخاطئة وهو يتناول بالتحليل بيئة النبوة هي أن الرسول صلي الله عليه وسلم صنع نبوءته متأثرا بالتراث الوثني في جزيرة العرب، وكذلك بالتراث اليهودي المسيحي وكذلك علي الحنيفية التي كانت فاشية شيئا ما هناك. وهو يقول إن الرسول "ص" نتاج شخصيتين وهي محمد "ص" التاريخي والآخر الذي أنتجته نظرية النبوة، ووفقا لذلك يعتبر أن ما عزز من ذلك هو ما أسماه الخيال القرآني.وهو بالتالي يري أن القرآن محض خيال تم إستخدامه لصناعة النبوة وهو يعمل بالتكامل مع خيال النبوة. ولعل أفضل رد نقتبسه من ذات مدرسته التي تعلي من شأن النظر العقلي أكثر من النص المقدس يقول حامد نصر أبوزيد بتعدد الثقافات العربية في جزيرة العرب قبل الإسلام، أي أنه لا توجد ثقافة عربية أو وثنية واحدة يمكن أن تؤثر علي رسالة النبي "ص" يقول: "ثقافة ما قبل الإسلام لم تكن ثقافة واحدة، ولم تكن حياة العرب قبل الإسلام حياة واحدة. كانت هناك حياة مستقرة في المدن، كما كانت الزراعة في اليمن. أي كانت الحضارة موجودة في الجنوب، وفي مكة كان هناك مجتمع مستقر ومحمي لأنه كان يقع على طريق التجارة حيث ازدهرت رحلات الصيف والشتاء. باختصار كانوا مجتمع تجّار، وليس مجتمع بدو فقط. إذن، كانت هناك ثقافة البادية، وثقافة المجتمعات الزراعية والتجارية، وهذه الثقافات هي أعلى من الثقافة البدوية التي تعتبر ثقافة بدائية إلى حد ما. والقرآن ينتمي بطبيعة الحال إلى ثقافة المجتمع المديني".
وكثيرا ما يسعي الكاتب الي إستغلال أختلاف الروايات والتي تعكس ثراءا في المادة التاريخية وإختلاف المدارس الإسلامية في التفسير والتأويل الي نسف مشروعيتها التاريخية، فمثلا يزعم بأن إختلاف الروايات الخاصة بالإسراء والمعراج تعزي الي أن الخيال الإسلامي أختلق الإسراء كحدث منفصل عن المعراج. والمعراج حدث بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم لأن المسلمين أحسوا بضرورة رفد مادة اللحظة التأسيسة بلقاء يتجاوز الأفق الجبريلي. ويقول إن اللحظة التأسيسية للنبوة المحمدية هي لحظة ميلاد الإله الذي ينسجم مع نبوة محمد "ص" ويصبح صوتها وصداها.
في تناوله لرسالة الرسول "ص" يقول مثلت القصة والإسطورة عنصرا أساسيا من رسالة الرسول "ص".وهو يردها الي عوالم الخيال المحض، ويمتد زعمه الفاسد ليقول إن القصص القرآنية مصدرها الأساسي هو التوراة من سفري التكوين والخروج، بالإضافة الي التراث اليهودي وتراث الشرق الأدني. وبذات القدر أثبتت الدراسات الدينية المقارنة الحديثة عن إختلافات كبيرة بين الأسفار الخمسة وبين القرآن في نظام التشريع والعقوبات، وذلك مما يدحض نظرية الكاتب في أن الرسول "ص" صنع نبوءته من التراث الديني اليهودي دون تحوير يذكر. الدكتور إبراهيم محمد زين في كتابه " فلسفة العقاب في القرآن" يشير الي أنه رغم الارتباط الوثيق بين القرآن والأسفار الخمسة في موضوع التشريعات وفلسفة العقاب إلا أن القرآن يشير الي ثلاثة أنواع من العقاب وهي: التشريعي، والعقاب الإلهي الشامل وحالة عقابية مؤقتة مثل التيه. أما في الأسفار الخمسة فلا يوجد عقاب أخروي البتة وهذا ينسف نظرية أن اليهودية تدعي أن دار المعاد هي دار جزاء وثواب.
وحتي يطعن في شرعية الرسالة المحمدية فإنه يرد كل الأحكام والتشريعات والقصص في القرآن الي التراث اليهودي المسيحي،بيد أنه يزعم أن القرآن أستخدم المادة التوراتية بما يحقق أغراضه ما عدا قصة سيدنا يوسف. وحول العالم غير المنظور أو عالم الغيب يدعي أن الرسول صلي الله عليه وسلم ورث المعتقدات الوثنية التي تؤمن بوجود عالم غير مرئي يضم الملائكة والشياطين وجعله جزءا من البنية الإعتقادية للإسلام. ويتهم الكاتب الإسلام بأنه دين عنف وأن مفهوم الإله في القرآن قائم علي صفة الإنتقام - تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا-، ورغم تقريظ الكاتب للأستاذ الراحل محمد محمد طه إلا أنه يخالفه في أن عقاب النار سرمديا أبديا وليس لازمة مرحلية تصاحب النشأة القاصرة كما قال محمود في رسالته الثانية. وأشار الي أن محمود ألبس القرآن ما ليس فيه وهو رفض مبدأ الخلود في النار. وفي تناوله للنعيم والجنة يقول إن صور النعيم الحسية جاءت في القرآن لتناسب ثقافة الرسول "ص: السائدة، مشيرا الي أن وصف الحور العين في  القرآن "فجعلناهن أبكارا"، جاء أيضا لأن الثقافة العربية تعلي من شأن البكارة والعذرية. وهو يميل في هذه التفسيرات الي النزعة المادية الحسية.
ويصل الكاتب الي ذروة إدعاءته عندما يقول إن الإسلام بشكله الراهن هو في واقع الأمر جسم لم يحقق تماسكه إلا في سياق عملية تدريجية استندت علي إختيارات العلماء واتفاق أمزجتهم ومصالحهم. وهو في هذا الزعم ينكر منطوق القرآن الكريم الذي يؤكد للرسول "ص" وللمؤمنين أن الإسلام قد أكتمل نزوله ورضيه الله دينا للبشرية. يقول الله تعالي:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا". وتطور أشكال التدين وكسب المسلمين من الدين أختلف بأختلاف هذه الكسوب ودورات التاريخ المختلفة واقضيته المتباينة.. لذا لا يفرق الكاتب في هذا الصدد بين الإسلام كدين أو كسب التدين أو سلوك المسلمين ويجعل اللاحق حجة علي السابق.
ويختم د. محمد محمود كتابه بفصل أسماه "صناعة محمد من البداية الي الكلمة".ويقول إن الإسلام تحول من دعوة سلمية الي أشهار السيف الذي اصبح عنصرا اساسيا لنشر الدعوي والبطش بالمعارضين.وينفي الكاتب بلا هدي أو كتاب منير في أن التوحيد أو الإله الواحد هو مركز الدين الإسلامي مثله مثل اليهودية والمسيحية إلا بمعناها الرمزي.ويري أن الله ليس له صوت مستقل إلا عبر صوت النبي "ص"، وهو بالتالي يقرر أن المركز الفعلي للدين الإسلامي هو النبي محمد "ص" وليس الله.وهو بهذا الزعم ينسف موضوع دراسته لأنه لا يوجد إسلام دون دعوة التوحيد ، ولا توجد نبوة محمدية دون توحيد. وهو بهذا الحكم يضعف جهده النظري الذي بناه كله للتأكيد علي تكامل ما أسماه الخيال النبوي والقرآني القائم علي فكرة التوحيد. وقال إن العلماء ساهموا بفعالية في مشروع صناعة محمد "ص" بتمييزه عن باقي البشر ووضعه في مكانة خاصة. وينسي الكاتب أن الله هو من ميز الرسول "ص" وليس العلماء عندما وصفه القرآن " وإنك لعلي خلق عظيم". وقال الرسول صلي الله عليه وسلم عن نفسه " أدبني الله فأحسن تأديبي". ويقول إن العلماء أخترعوا علم النبوة وهي السير والشمائل والمناقب والمغازي الخاصة بالرسول "ص". وأنهم عمدوا الي  تطوير نظرية كاملة لصناعة محمد أعتمدت علي عدة عناصر منها ما أسماه: البداية النبوية والجسد النبوي، وهنا المقصود وصفه الخلقي "ص" واللحظة والكلمة النبوية والفعل والمناقب ومن ثم الخصوصية النبوية. ويدعي الكاتب أن نظرية النبوة التي عمدت الي صناعة محمد قامت علي التلفيق في مسعاها للتوفيق بين مناقبه ووصفه الخلقي المثالي وبين عوارض الطبيعة أو العيب الخلقي. ويضرب مثلا بذلك فيما أسماه النتوء البازر بين كتفي النبي "ص" مشيرا الي أن الحل الكبير وسط العلماء هو إيجاد فكرة خاتم النبوة.
و يسدر الكاتب في غيه النظري في خاتمة الكتاب حيث يري أن النبي "ص" كان محظوظا إذ أجبرته الظروف ودفعته للهجرة الي يثرب فنجحت نبؤته ولكن إذا دفعته الظروف للبقاء بمكة فإن نبؤته كانت في الغالب ستموت بموته. وهو في هذا الصدد يتخلي عن مفهوم الخيال النبوي أو حتي التدبير الإلهي ويفسر الأمر بأنه محض تفاعل ظرفي بين الفرقاء. ويري أن التحول الذي طرأ علي الإسلام هو تحوله كما ذكر محمود محمد طه من قبل من دعوة الإسماح في مكة الي الدعوة العنيفة القائمة علي السيف والقهر بعد الهجرة الي يثرب. قال الكاتب في هذا الصدد:
"كانت الهجرة هي اللحظة الحاسمة التي غيرت الإسلام من مشروع خلاصي روحي لمشروع إلتحم فيه الخلاص الروحي بقهر الدولة وعنفها لأن الإسلام أصبح أيضا مشروعا سياسيا" ص 148 من الكتاب.
ويظن الكاتب في هذا الصدد أيضا أن الرسول صلي الله عليه وسلم إختار النموذج الموسوي التوراتي القائم علي التشريع والعقاب والدولة أكثر من النموذج العيسوي المسيحي القائم علي البعد الخلاصي والأخلاقي. ويواصل ادعاءه أن النبي "ص: بجمعه السلطتين الزمنية والروحية أصبح ملكا مستدلا بأن القرآن أوضح طرق مخاطبته وأرسي تقاليدا مرعية لمحادثته مثل عدم رفع الأصوات.
ولعل اشد تلبيسات وتجنيات الكاتب المنهجية هي زعمه أن القرآن تراجع في الفترة المدنية وطغت مادة الحديث عليه لإنشغال الرسول "ص" بترتيبات بناء الدولة، ولعل التفسير الذي قدمه لهذه الفرضية الخاطئة تؤكد مدي حالة التلبيس الفكري التي تساوره إذ يري أن الطاقة الإبداعية للرسول "ص" وهي مصدر إختلاقه وصناعته للنبوة كانت أكثر نضجا وتوهجا في الفترة المكية نسبة لعامل العمر، إذ كان عمره صلي الله عليه وسلم ما بين الأربعين والخمسين، وسرعان ما انحسرت تلك الطاقة في فترة المدينة وعمره صلي الله عليه وسلم فوق الخمسين عاما. ويري الكاتب أن الرسول عبر عن نفسه من خلال الكلمة القرآنية في ذلك.ويبدي الكاتب دهشته بأن نبوة محمد أصبحت هي مركز التاريخ الإنساني منذ بدء البشرية الي منتهي العالم ويدعي أنها نبؤة إقصائية لأنها أغلقت الباب علي أي إدعاء لاحق وقال إن صناعة النبوة في الإسلام لم تختلف عن اليهودية والمسيحية إذ وضعت هذه الديانات أنبياءها في موضع القمة الروحية والإخلاقية للبشرية. وقال إن الدفاع عن النبوة يسلتزم الدفاع عن الإله الذي صنعته النبوة، وهو حسب زعمه إله الثنائية الأخلاقية التي شملت الإقصاء والتمييز والعنف، وكذلك الدفاع عن عنف الأنبياء الذين أرتكبوا أيضا حسب وصفه أفعالا غير أخلاقية.
يقدم الكاتب في الفقرة الأخيرة من كتابه زبدة أجتهاده النظري البائس كمن أنتدب نفسه لمهمة نبيلة حيث يقدم رسالة خلاصية وهو أنه يريد أن يقتل النبوة في عقول الناس وذاكرتهم حتي يخلص البشرية من واقع الإنقسام والتشوه الأخلاقي الذي صنعته النبوة حتي تتحرر عقول الناس وأفئدتهم من ذاكرتها وعبئها وميراثها. وهو بذلك يصنع بديلا لاهوتيا وخلاصيا جديدا، فهو يقتل النبوة نظريا من جانب، ويحي من الجانب الآخر فكرة الخلاص العقلي من هذه الخرافات التي أنتجها الخيال المبدع للنبوة. وهو بذلك يعيد فكرة كارليل في أن الرسول صلي الله عليه وسلم حسب زعمه طوع هذه الإحتيالات لتحقيق طموحات شخصية.
والكتاب الذي ينتهي بهذا الزعم المأخوذ من أدبيات المستشرقين والثيولوجيا الأرذوكسية المسيحية لا تترتب عليه فتنة مجلجلة أو شبهات مزلزلة، بل يعيد الثقة في نفوس المؤمنين والدارسين المقسطين في أن نبوة الرسول صلي الله عليه وسلم لم تكن صناعة خيال مبدع بل هي نبوة حقة وأن الله الذي يتشكك في وجوده وينسب صناعته الي خيال النبوة أيضا قد تعهد بحفظ القرآن من كل تحريف. ومع نشر مثل هذه الشبهات وصدور مثل هذه الدراسات والكتب فإن حب الرسول صلي الله عليه وسلم يجري في عروق المؤمنين مجري الدم.
إن الكاتب كما ذكرنا في مقدمة هذا المقال أعاد إنتاج المادة الإستشراقية والشبهات القديمة حول النبوة المحمدية بعد أن أعاد ترتيب المادة التاريخية، وهو يسعي لبيع الخمر القديم في قناني جديدة. وإذا كانت آراء المستشرقين وشبهاتهم القديمة قد أحدثت زلزلة في وقتها  فإن نضوج مناهج البحث في مجال الدراسات الإسلامية وبروز نخبة مختصة في علم ومناهج المستشرقين والوقوف علي آرائهم  ونقدها قد حصن الأجيال الراهنة من أن تنطلي عليها مثل هذه التلبيسات والحيل و الدراسات إلا من أجل ممارسة الجيمناستك العقلي. والكتاب كما ذكرنا من قبل فقد مصداقيته الفكرية والأكاديمية عندما سكت عن الإشارة الي مصدر الفرضية والأفكار الأساسية الواردة فيه خاصة مركزيته النظرية التي تزعم أن النبوة هي اختراع بشري صنعه الخيال الإبداعي الخلاق للنبي صلي الله عليه وسلم. وهي ذات الفكرة والزعم الذي أدعاه مونتقمري واط في كتابيه "محمد في مكة ومحمد في المدينة" اللذين اعتمد عليهما الكاتب تماما في تحرير سفره الراهن. وحتي مصطلح الرائي الذي وصف به النبي صلي الله عليه وسلم هو ترجمة لما أشار الي مونتقمري واط بأن الرسول صلي الله عليه وسلم هو perfect seer حسب ظنه.
أعتقد أن الكتاب يمثل باكورة إنتاج النخبة اللادينية السودانية إذا وجدت وصح التعبير عنها ، ورغم أنه غير موجه الي القارئ السوداني بل الي مهتمين في العالمين العربي والإسلامي إلا أن خصوصية انتماء الكاتب وعمله السابق في جامعة الخرطوم جعلتنا نسقط هذه الخاصية علي سفره الأكاديمي المذكور. وظني أن الكتاب موجه الي أقلية لا دينية معزولة ، لا تسمح لها مواطن التدين القوي في السودان وفي العالم الإسلامي من أن تفصح عن وجودها وآرائها وأفكارها. ويشكل الكتاب تحد للنخبة العلمانية في السودان أكثر من النخبة الإسلامية والجمهرة الإجتماعية المتدينة التي ستنكر مضمونه ونهجه ومحتواه لأنه يمثل طعنا مباشرا في النبوة وهدما بينا للدين الإسلامي. وأرجو أن يعرض الكتاب لبعض التمحيص والنقد الموضوعي من قبل المختصين والأكاديميين لأنه حافل بالنصوص والإحالات والتأويلات، ولعل التحدي الأساسي الذي سيواجه المختصين عند مراجعة هذا الكتاب هو كثافة الإستشهادات بالقرآن ومرويات السيرة والإخباريين مما يستدعي إعادة هذه النصوص الي سياقها الموضوعي والتاريخي، هذا فضلا عن وضوح منهج الكاتب النقدي رغم التلبيس الإستشراقي الذي حاولنا تبيانه فيما سبق. والشكر الجزيل للدكتور حامد فضل الله سادن الثقافة العلمانية في برلين الذي أمدني بنسخة من هذا الكتاب.

 

آراء