لا تستأصلونا من الجنوب … بقلم: عمر الترابي
alnahaln.new@hotmial.com
من المكرور الذي لا بد من قوله - وهو مما يُجمع عليه الناس في هذه الأيام- وجود أزمة حقيقية تستدعي الوقوف فيما يلي شأن الإستفتاء أو تطبيق اتفاقية السلام "نيفاشا"، ومن البديهي ذكره: ضرورة الإئتمار على الحل والإجتماع له والإلتقاء على أسسه والتنادي لإستدراره؛ والمؤكد أن كل من له مصلحة يعمل الآن بكد واجتهاد، و لذلك فإن الحكومة تخطط لمؤتمر و المعارضة تخطط لمؤتمر و من بينهما يفعل ذلك أيضاً و دول الجوار تخطط لمؤتمر هي الأخرى، و كبرى دول العالم تخطط لمؤتمر، و كل ذلك لتدارك أزمة الاستفتاء والانفصال، أو لبحثها أو للوقوف عليها، أو لتخفيف أضرارها، أو لتمرير أجندة معينة، أو لشئ سوى ذلك وعداه، وللأسف الشديد فإن ذلك و بحسب معطيات الوقت والتعنت الحاصل والتعصب، قد لا يشفع شيئاً، مالم يحدث تحرك نوعي.
بكل الوجوه فإن السعي محمود، ولكن قد يقول قائل : إذا كان الجميع بهذا الحماس فما الذي يقف عائقاً أمام انجاز هذه المخططات و انجاحها؟!، أليس من الممكن أن يكون السوس في العضد، والبلاء في أصل التنادي؟، وقد يتساءل آخر: هل من الممكن أن تكون ظاهرة المؤتمرات أو النوايا لإقامتها ظاهرة صحية أم أنها تحصيل حاصل وظاهرة مرضية على نسق التوبة عند الموت، و جهد مسكين الغرض منه توهم رفع الحرج التاريخي؟!.
إننا لا نتوسل جواباً فالسؤال اليوم أوسع من الإجابة، و مادمنا بعديين عن أصل الأزمة فإننا لن نبرح مقامنا المتأخر ولن نتقدم نحو الحلول، فالمصيبة أن صياغة الفكر "وهو ما يُنتح الحل" أضحت تقوم على عوج كبير وتأسست عليه، فأضحى الفكر الناطق أو صاحب الصوت العَلِيّ والمتحرك هو "فِكر الوقت" -إن جاز التعبير-، أو الفكر الآني الذي يريد المصلحة الآنية الحاضرة، ويمكن أن يُضَحِى في سبيل نوالها بكل شئ حتى بالمبادئ والمُثل والقيم، إنه فكر العجلة، يصل إلى الدرجة التي يختزل فيها تاريخ قرون في غضبة عقد أو اثنين، يصل إلى السطحية التي تختصر الثروات في نفط سيصبح بعد 70-120 عاماً فقط مجرد سائل عديم الجدوى. إنه الفكر الذي يقود أولئك الذين يظنون أن وجودهم في الأرض قبل ابنائهم يمنحهم حق إفسادها، هذا الفكر السطحي لن ينتج حلاً، لن ينتج غير الشقاء له وللأجيال القادمة!.إنه الفكر الذي يجعلنا نقول بأن الأزمة الحالية أزمة أخلاقية بالدرجة الأولى؛ أزمة تمتحن أصالة ما كنا ندخره ونربيه على امتداد كل تاريخ السودان وحضاراته، أزمة مفتاح جوابها السؤال :هل ستنتصر أخلاق السودان أم ستنهار؟.
من المهم أن نعلم أن المؤتمرات المبنية على نوايا مؤججة ونفوس تحمل سني الاحتراب في الذاكرة لن تنجح ، ولن تنجح المؤتمرات القائمة على رؤى الضغينة و مهاترات السياسة، و لن ينجح العالم بكل جبروته والأمم بكل عبقرياتها في إصلاح أمرنا إذا لم ننجح نحن في ذلك، ليس لأن >>خطابهم تَسُوقَه مصالحهم وهم يُسَّوِقون لأجندتهم وما يخدمها<<، وليس لأن >>أهل مكة أدرى بشعابها<<، ولكن لأننا نحن الداء والدواء، ولأننا الألم والأمل، لأننا الصرخة والصدى، لأننا النقطة والمدى، ولأننا "أهل الجلد والراس"؛ فحريٌّ بنا أن نعي مقدار الألم الذي سنكون قد زرعناه ومقدار الشقاء الذي بذرناه إن لم ننظف غبار النفوس، كم ظلمنا "شمالاً وجنوباً" أنفسنا يوم جعلنا من رؤانا الضيقة بوتقة ظننا أنها تصهر مليون ميل مربع وثقافات عديدة، ليس هذا الحديث من باب زيادة الألم وتمجيده، ولكنه من باب الإتعاظ، ومن باب وضع اليد على موضع الألم، فما نراه من أزمة الاستفتاء هو باب واحد من أبواب كثيرة يبدو أنها ستفتح علينا ما ورائها من محن، و يبدو أننا بالتحديد في منتصف النفق؛ وإذا لم نُخلِص التوجه ونُحكِم التخطيط فسنتخبط و نراوح مكاننا سنيناً عدداً، وسنظل نجدد دواعي الأزمة ولن نستفيد من الدرس بل ولا حتى الدروس.
إننا تجاهلنا باب المصالحة الوطنية (وهي ركن أصيل من نيفاشا، والقاهرة وأبوجا)، و تناسيناها فدخلنا إلى مراحل الاقتراعات و الاستفتاءات وفي نفوس البعض كثير من ما انتجته أيام الحرب، قدمنا جنرالات الحرب و أخرنا رجالات السلام، لم نراع الذاكرة ولم نطيب النفوس، ظننا أن مجرد عدم الحرب يعني السلام!، ونسينا أن العنف يولده الفكر وتَسُوْقه المشاعر وتُسَوِقَه النفوس الهوجاء، نسينا أن الحرب الباردة تأكل الود و تقتل الأخوة وتبدد الوطن، كان ذلك خطأً فادحاً ولكن علاجه ممكن، الخطأ تمثل في أننا لم نُزِل ما علق بالنفوس ورَحَّلناه اليوم ليطل بكل ثقله على واقعنا ويهدد ببعثرة السودان وفصله وتشظيه. خطأنا أيضاً أن الجميع اليوم "وبحسن نية" يُريد أن يدعي النفوس الهائجة لجولات مفاوضات، دون أن يدري أنه يدعوها –إذا تمت في ظل هذا التوتر- لمعارك بغير السلاح و لقتال كبير بالكلام، نحن نحتاج أن يجلس الناس ليسامحوا وليغفروا وليعلنوا طي صفحات الماضي، تلك خطوة لم تُعلن صراحة بالشكل الكافي، لذلك لم تنتهي الحرب!.
السؤال الآن ما الذي يمكن فعله "عملياً"، بعيداً عن الشعارات؟!، فمن المعطيات عرفنا أن الجميع يريد أن يأتمر لمؤتمر يتناول الأمر ويلتقي في لقاء يتداوله، فليكن جهدنا في إعداد محاور اللقاء، و ترتيب الأجندة، وما دام الإصرار على الملتقيات المجتزأة واللقاءات، فلماذا لا يسند إلى كل لقاء قضية، فإلى لقاء واشنطن أمر التأجيل من عدمه، وإلى لقاء الحكومة ترتيب وضع الاستفتاء وصيغه، و إلى مؤتمر المعارضة اقتراح البديل المقترح للانفصال بما يوافق رؤى الجنوب، وإلى مؤتمر (ما بينهما) ترتيب ايقاع المؤتمرات كلها، وقبل ذلك كله يبحث أمر المصالحة الوطنية، وبعده كله يكون الترتيب للمؤتمر الجامع الذي يجمع كل المبادرات.
الحاجة إذاً إلى مؤتمر لا تحكمه نسب نيفاشا ولا توزيعاتها وليكن قومياً أو حتى دولياً إن اقتضى الأمر ،بشرط أن يكون بالكيفية الأدنى التي تحفظ له سودانيته، ولتكن السقوف منخفضة جداً، ولتعلن المفاوضات التي لا نستطيع الخوض في تفاصيلها الآن، يجب طرح كل شئ و قول كل شئ، ولو كان ذلك على طريقة إبراء الذمة و إراحة الضمير. من حق السودان أن يقرر تأجيل هذه العملية فلربما نجد دواءً أقل ضراراً من الانفصال، ربما نستطيع ترتيب الأمر بشكل يليق.
إننا لا نطلب غالياً حينما نطالب الساسة بقليل من التسامي فوق الخلافات، بقليل من التراضي والتوافق ولو على الحد الأدنى من الأسس الوطنية، بقليل الجهد لوأد الفتن، إنه من الأخلاق اليوم أن نجتمع حول السودان وانسانه المسكين الذي يعاني وينتظر رفع الضنك، من الأخلاق اليوم الإنعتاق من ربقة الأنا و السوح في براح الوطن و مصالحه.
"إن الخروج من الأزمات لا يتم عبر الأماني والعبارات الفضفاضة العريضة، وإنما يحدث ذلك إذا وافقت الإرادة رجالاً إذا قالوا فعلوا؛ يُشاورون ويخططون وينفذون وهم في كل ذلك يخلصون النوايا ويُبَدُونَ الوطن على كل شئ، و هم يعلمون أنه ملك مشروع للجميع. وحدهم أولئك من يستطيعون رسم خارطة الطريق، لا أهل الثرثرة المبذولة بلا قيمة ولا معنى أو بيان. لا أهل التعصب للأوهام والأجناس، لا أهل المصالح المؤقته، إن الذين يخرجون بنا من أزمتنا هم من يؤمنون بحقنا جميعاً في الوجود في وطن واحد يسعنا ويسع أمانينا، وطن أوسع من أن توزعه الجهات، ناهيك عن أن تقسمه، أو تختصره..."
إراهن على النداء الذي لا نسمعه من الأجيال القادمة ومن الإجداد يقول: أجلوا الإستفتاء، الغوه، طبقوا نيفاشا أو أطبقوا الكون عليها أو الغوها، افعلوا ماشئتم ولكن لا تستأصلونا من الجنوب!، لا تستأصلوا أحفادنا من الجنوب، لا تعتدوا علينا بفصلنا عن الجنوب، لا تعتدوا على مستقبل الجنوب بفصله عن السودان، ولا تسمحوا لضغينة المشاكسة أن تقتل حلم الوطن الواحد؛ إننا برغم كل شئ نراهن على أن ساسة السودان بقليل من التوافق يستطيعون إنقاذ الوطن من الهاوية، ونستبشر بنسمات الوفاق في بيانات النخبة، فقد كانوا دوماً كباراً بقدر التحدي، ولا مجال للخذلان.
نشر بصحيفة الصحافة: التاريخ: 21-سبتمبر-2010 العدد:6173