لجنة إزالة التمكين في تونس: نفس الزول

 


 

 

كنت في علقت في "الجزيرة نت" على كلمة للإمام الصادق المهدي عن العدالة الانتقالية زكى لنا فيها قدوة طريق لجنة الحقيقة والمصالحة جنوب أفريقية المشرق. فقلت وصح ألا نغفل عن وجهها المظلم الآخر. وهو اسقاطها، في بحثها الحري عن الحقيقة فالمصالحة، المحاكمة القضائية لمرتكبي خروق حقوق الإنسان، بكلمة، أذنت بالإفلات من العقوبة. ولم تكتف بذلك، بل جللت بالوزر من ناضلوا العقود الطويلة الشقية ضد ذلك الماضي لعثرة أو أخرى وقعوا فيها خلال ذلك النضال مثل ويني ماندلا.
وكان ذلك خيار جنوب أفريقيا في شرطها. لا تثريب. ولكن التجربة، لماندليتها الغامرة، أوحت لنا أن محاكمة رموز الماضي المخزي للأمة ستكون، بالقدوة، كأساً دهاقا في طقوس بعث الأمة من رماد الماضي. وأخذنا هذا الفهم الرائج عن الوعي النشط بأن للماضي أنياب مضرسة، وأن نساءه بعد رجاله يأنفون عن تبادل الأنخاب مع كائن من كائن. فالماضي لم يمت عندهم. إنه يتصنع الموت. فاستل هذا الفهم لماندلية الوفاق الوطني المكر منا في خوض باطل الماضي خوضاً وعرا.
طافت بي تلك الخاطرة القديمة وأنا أطالع بياناً موجزاً لهيومن رايتس واتش عن المآلات الشقية لتجربة مفوضية الحقيقة والكرامة التونسية عرض لتقريرها الختامي لدورتها من ٢٠١٤ إلى ١٨ ٢٠ الصادر في ٢٠١٩. والمفوضية ثمرة قانون العدالة الانتقالية (٢٠١٣) الذي جعل على عاتق المفوضية تقصي انتهاكات حقوق الإنسان والفساد ما بين ١٩٥٥ و٢٠١٣، لتحقق في جرائم تلك العقود، وكشف حقائقها، ووضع الأسس للمساءلة والحلول، وإعادة التأهيل.
وجاء بيان هيومن رايت واتش نعياً جنائزياً للمفوضية التي تربصت بها دوائر الأمن ولجيش والقضاء وحتى البرلمان لنقض غزلها. فوقفت بوجهها الدولة العميقة، بل والجديدة، وقوفاً جعلها غير ذات موضوع جدي في السياسة التونسية. فيكفي أن البرلمان، وقد رأي تمرد الدولة في وجه اللجنة، رفض طلباً منها لتمديد عملها لعام آخر لاستكمال ما بدأت.
وربما فسر مصير اللجنة واستعلاء الدولة أن تخضع لعقوبة الثورة انقلاب قيس السعيد الأخير، معززاً بالدولة والجيش، على البرلمانية النكراء التي جعلت مساءلتهم ممكنة. فجرؤت المفوضية حتى على تذنيب الحبيب بورقيبة. الإله أو نصفة أو وزد عليه قليلا، وزين العابدين بن علي، وطاقم من كبار المسؤولين في التعذيب، والحبس التحفظي، وسائر ابتذالات حقوق آلاف التونسيين. وسمت من ّهؤلاء الموظفين بيجي قائد السيبسي الذي كان رئيساً على البلاد وقت شغل المفوضية ووزيراً للداخلية وقت ارتكاب تلك المعاصي. وطلبت منه الاعتذار لضحايا تلك الجرائم. وكان ذلك ثورة فوق احتمال الدولة.
لم تشقق المفوضية القول في تعويق السلطات الحكومية لشغلها. فقالت إنها سدت طريقها إلى أرشيف رئاسة الجمهورية، ووزارة الداخلية، وملفات المحاكم العسكرية التي نظرت في قضايا مثل فيها مدنيون أمامها، وملفات الشرطة للكشف عن هوية الشرطة التي عذبت السياسيين، بل واعتدت على شرف بناتهم وزوجاتهم.
وما "جنن بوبي" الدولة العميقة مثل المحاكم الخاصة الثلاث عشر التي أقامتها مفوضية الحقيقة والكرامة في إطار القضائية للنظر في قضايا الفساد والتعذيب التي تحولها لها. وكانت المفوضية تلقت ٦٢ ألف شكوى عن انتهاكات لحقوق الإنسان عبر ٦٠ عاماً. وأخذت منها ١٧٠ حالة إلى المحاكم الخاصة. وما انعقدت هذه المحاكم حتى ركبها التأجيل مرات لرفض المتهمين المثول أمامها. كما أضربت الشرطة عن تعقب الشهود للوقوف أمامها. بل بلغ التمرد أن دعت هيئة شرطية المنتسبين إليها بمقاطعة هذه المحاكم لأنها تستحقر الشرطة.
وكان أول انعقاد لمحكمة خاصة في قابس في ٢٩ مايو ٢٠١٨ لمحاكمة من كانوا وراء اختفاء كامل متماتي الناشط الإسلامي الذي اعتقلته الشرطة في ١٩٩١. فلم يظهر أمامها أي من المتهمين الأربعة عشر. فعقدت المحكمة ٣ جلسات لتؤجل الجلسات واحدة بعد الأخرى بسبب تغيب المتهمين. وكان هذا مصير المحاكم في عدد من المدن بما فيها تونس العاصمة. فتجاهل المتهمون أمر المثول ولم تنهض الشرطة بواجب المجيء بهم ممتثلين. وكان هذا مثار توتر للضحايا الذين انتظروا سنوات طويلة لرد اعتبارهم. ولم تنفذ حتى توصية اللجنة بأن تقتصر المحاكم العسكرية على النظر في قضايا متهمين من العسكر. فما زالت تستدعي المدنيين للمثول أمامها. وحوكم عدد من ناشطي المدونات بتهمة شناف الجيش.
أما عن خيبة المدنيين ممن جاءت بهم الثورة إلى موقع القرار فحدث ولا حرج. فسبق القول إن البرلمان رفض أن يمدد للمفوضية لعام آخر بعد انتهاء أجلها في ٢٠١٨ بعد طلبها. كما تقاعس عن إنشاء المفوضية الخاصة لتقف على تنفيذ توصيات الحقيقة والكرامة. ولم تقم تلك المفوضية بعد. وواصلت مفوضية الحقيقة والكرامة العمل رغماً عن ذلك في شروط عسيرة. ولم يكتف البرلمان بتلك الخساسة فشرّع قانوناً لما سماه "المصالحة الإدارية" بمبادرة رئاسية سحبت الجرائم الاقتصادية من تفويض المفوضية، وضمنت الأمان لطائفة من الموظفين السابقين.
أما رئيس الوزراء فكجن اللجنة عديل كدي. فكان المنتظر منه، بحسب قانون العدالة الانتقالية، أن يضع خطة لتنزيل توصيات المفوضة على الأرض بعد عام من استلام تقريرها. ولكنه رفض ب"برهانية" شرسة مجرد الاجتماع بأعضاء اللجنة لتسلم التقرير منهم بصورة رسمية. ولم يكتف بتلك الإهانة لنفسه فأنتقد عمل المحاكم الخاصة، والتزم بتقديم قانون جديد للعدالة الانتقالية.
يقول الخواجات حين تتلاطم أصداء مثل تونس مع حالنا في لجنة إزالة التمكين: "Sounds familiar doesn’t it?".
الماضي لا ينفق. فليس هو في عداد الماضي حتى. وهذه عبارة من الكاتب الأمريكي وليام فلوكنر

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء